حتى بن علي لم يتجرأ على اقتراح قانون كهذا… وهو من وُصف نظامـــه القوي لسنوات طويلة بالبوليسي والدكتاتوري، فإذا بالحكومة
التونسية الحالية تتجرأ... وهي من ترى أنها جاءت بعد انتخابات حرة إثر ثورة أطاحت بالاستبداد وستبني الديمقراطية!! المفارقة صارخة بل ومستفزة حقا.
أصل الحكاية أنه ينتظر أن يشرع مجلس
النواب التونسي قريبا في النظر في مشروع قانون تقدمت به الحكومة قبل بضعة أسابيع تحت اسم "قانون زجر الاعتداء على القوات المسلحة" يهدف إلى حماية أعوان القوات المسلحة من الاعتداءات التي تهدد سلامتهم وحياتهم، وذلك ضمانًا لاستقرار المجتمع بأسره" وإلى "زجر الاعتداء على المقرات والمنشآت والتجهيزات الموضوعة تحت تصرفهم أو حمايتهم أو رقابتهم وإلى زجر الاعتداء على أسرار الأمن الوطني".
نظرة سريعة على ما أحدثته مبادرة الحكومة الصادمة من ردود فعل تغني عن أي تعليق، فقد وصفه صحافيون ومحامون ونشطاء حقوق إنسان وسياسيون بأنه "انقلاب على المسار الديمقراطي في تونس" وبأنه "محاولة بائسة لحرمان الأجيال القادمة من حقّها في النضال من أجل حقوقها" وبأنه "قمعي ويشكّل خطرا حقيقيّا على الحقوق والحريات في تونس اذا تمّت المصادقة عليه. ومن واجب المجتمع المدني عدم السماح بمرور قوانين قامعة للحريّات والاتحاد للتصدّي لها".
الاتحاد والتصدي بدأا فعلا وبأقوى ربما مما توقعته الحكومة، فالمشروع يتعرض منذ مدة إلى "قصف مكثف" داخلي وخارجي، الأول جاء بالخصوص من "تحالف" من خمس وعشرين منظمة، أبرزها الاتحاد العام التونسي للشغل وهيئة المحامين ورابطة حقوق الإنسان ونقابة الصحافيين، أما الثاني فمن ثلاث عشرة منظمة دولية، أبرزها منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس واتش ومراسلون بلا حدود ومركز كارتر يجتمع ممثلوها اليوم في تونس لشرح موقفها .
المنظمات التونسية دعت جميعها مجلس النواب إلى عدم المصادقة على هذا القانون، كما دعت كل المجتمع إلى "التصدّي لهذا القانون وإسقاطه؛ لما يمثّله من تهديد للحرية والديمقراطية، ولما يوحي به من تمهيد لعودة الدولة الأمنية التي انتفض ضدّها الشعب" مؤكدة أنّ "ترسانة القوانين الجزائية الحالية التي تجرّم الاعتداء على أعوان الأمن كافية لصدّ التجاوزات في حقهم".
وعند تعداد مثالب هذا المشروع، أكدت المنظمات التونسية "مخالفته الصريحة للنص الدستوري الضامن لحرية التعبير والنشر وحق النفاذ إلى المعلومة، حيث جعل كشف المعلومة جناية تصل عقوبتها إلى عشر سنوات سجنا" فضلا عن أنه "يجعل المؤسستين الأمنية والعسكرية فوق النقد والتقويم" وينفي عن الأمنيين المسؤولية الجزائية في حالة إصابة أحدهم، وحتى قتل المواطنين عند صدّ الاعتداءات، ما يشرّع لهذه القوات الاعتداء على المواطنين وانتهاك حقوق الإنسان والإفلات من العقاب، اعتمادا على غموض النص وضبابيته.
إحدى المنظمات التونسية، وتدعى منظمة "23 أكتوبر لدعم المسار الانتقالي الديمقراطي"، وضعت إصبعها على مكمن الداء الأساسي، وهو أنّ المشروع "انتقل برمته من محاولة وضع حد للفوضى والتسيب بعقاب الاعتداءات الواقعة على حاملي السلاح ومقراتهم وتجهيزاتهم وعائلاتهم، إلى محاولة لبسط السيطرة المطلقة للأجهزة الأمنية والعسكرية"، وأن أغلب فصول مشروع القانون تحمل في طياتها بذور الاستبداد وتمثل الحلقة قبل الأخيرة من حلقات عملية إنهاء نتائج الثورة؛ إذ ستقضي نهائيًا على الحريات في تونس"، مضيفة أن من شأن ذلك "تمكين القوات الأمنية والعسكرية من العمل خارج إطار الدستور، ومن بناء دولة داخل الدولة، تنتهك فيها حقوق المواطن دون حساب ولا عقاب".
وكما ورد في تعليق لرئيس تحرير جريدة "المغرب" اليومية، فـ "لا يمكن لأحد أن يناقش أن تكون في القوانين الحامية للأمنيين جوانب زجرية (..) ولكن "بهذه الصيغة وبهذه الإطلاقية وبهذا الاتساع فذلك مهدد بلا شك للحقوق الحريات، ويمكن أن يصبح مدخلا قانونيًا للتشريع للدولة
البوليسية".
لا أحد يدري من الذي دفع الحكومة إذن إلى "حماقة" بهذا الحجم، وهي تعلم جيدا أن قانونا كهذا، الذي لا أحد يدافع حاليا عن وجاهته غير بعض المسؤولين الأمنيين السابقين، لا يمكن أن يمر، اللهم إذا كان رئيس الحكومة وحزبه (نداء تونس) غير مدركين لما حدث في تونس من تغيير عميق لم يعد يسمح بقبول ما كان يمكن قبوله من قبل، واللهم إذا كانوا في حرصهم على استعادة هيبة الدولة ( هم ومن معهم في الحكومة من أحزاب أخرى) اختلطت عليهم الأمور إلى درجة ظنوا فيها أن الهيبة تكمن في القوة والترهيب.. لأنه لو كان الأمر فعلا كذلك… لما كانوا هم أصلا الآن في دفة الحكم .
(نقلا عن صحيفة القدس العربي)