تحدث الكاتب البريطاني، ورئيس تحرير موقع "ميدل إيست آي"، دافيد هيرست، عن سبب اختيار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، التفاوض مع الغرب من خلال التحشيد العسكري على الحدود مع أوكرانيا.
وأوضح في مقال على موقع "ميدل إيست آي" وترجمته "عربي21"، أن نظرة بوتين بأن الروس والأوكرانيين شعب واحد وبأن أوكرانيا ليست بلداً منفصلاً تعود إلى جذوره داخل جهاز المخابرات السوفياتي الكيه جي بي، ولذلك فقد وصف انهيار الاتحاد السوفياتي بأنه أعظم كارثة جيوسياسية في القرن العشرين.
وبعد سرد تاريخي للعلاقة بين البلدين، قال هيرست إنه "مهما حدث الآن، فقد خسرت روسيا بوتين أوكرانيا، بل ربما يكون التهديد بالغزو قد ساهم وحده بدفع معظم الأوكرانيين نحو دعم طلب بلادهم الانضمام إلى حلف الناتو".
وتاليا المقال كاملا كما ترجمته "عربي21":
اقرأ أيضا: روسيا ترد على "مبادرة الضمانات" وتطرد دبلوماسيا أمريكيا
"أسطورة خبل"
إذن، من هو الذي تخلى عن مينسك؟ وما الذي حدث في حرب الفوكلاند أو في جبل طارق؟ في كلتا الحالتين زعمت بريطانيا أن من واجبها حماية البريطانيين الذين يقطنون المكانين لأن هويتهم باتت مهددة من قبل الشعوب الذين قرروا إقامة مستوطناتهم فوق أراضيها.
كيف إذن يتبخر ذلك الحق الذي ما لبثت بريطانيا تمارسه في جبل طارق منذ مئات السنين عندما يقوم الروس بإجراء مشابه لحماية حقوق ملايين الروس الذين يعيشون خارج حدود بلادهم الأصلية؟ عندما نشبت حرب الفوكلاند في عام 1982 كان تعداد سكان الجزر من البريطانيين هو 1820 نسمة بالإضافة إلى 400 ألف رأس من الغنم.
هناك مؤشرات أخرى على أن الأمور ليست كما تبدو في ظاهرها داخل أوكرانيا. كما أن نظرة بوتين بأن الروس والأوكرانيين شعب واحد وبأن أوكرانيا ليست بلداً منفصلاً تعود إلى جذوره داخل جهاز المخابرات السوفياتي الكيه جي بي، ولذلك فقد وصف انهيار الاتحاد السوفياتي بأنه أعظم كارثة جيوسياسية في القرن العشرين.
إلا أن بوتين ليس الوحيد الذي يعبر عن مثل هذه الآراء، التي يشاطره فيها الروس الذين تعرضوا للاضطهاد في الحقبة السوفياتية – وبشكل خاص الكنيسة الروسية الأرثوذكسية، التي يرى القائمون عليها أن كييف لم تزل تاريخياً الكنيسة الأم.
وهنا تكمن حقيقة أخرى طاب للبعض تجاهلها ووضعها على الرف. عندما عاد أليكسندر سولزنتسين، الذي كان حينذاك أعظم مؤرخ على قيد الحياة لنظام الغولاغ السوفياتي، إلى مسقط رأسه تبين أنه قومي روسي يحمل آراء مشابهة تقول بعدم وجود أوكرانيا، بل شن هجوماً لاذعاً على الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش لسقوطه في وهم ما وصفه بأنه "أسطورة خبل" حول التاريخ الأوكراني.
يكمن أحد المنابع الرئيسية للقومية الأوكرانية فيما يسمى الهولودومر، وهي المجاعة التي ضربت البلاد في الفترة من 1932 إلى 1933 وأودت بحياة الملايين الذين قضوا نحبهم جوعاً في عهد ستالين. قال سولزنتسين، أكبر مؤرخي القمع السوفياتي، إن المجاعة أبادت الملايين في مختلف أنحاء الاتحاد السوفياتي، وأن كثيراً من الشيوعيين الذين تسببوا بها كانوا في واقع الأمر أوكرانيين.
تساءل سولزنتسين: "هذه الصيحة المستفزة حول الإبادة الجماعية... تمت ترقيتها إلى المستوى الحكومي الأعلى في أوكرانيا المعاصرة. فهل يعني ذلك أنهم فاقوا أصحاب الدعاية البلشفية في شعوذتهم الماجنة؟".
في الحقيقة ما لبث هو وبوتين أن صارا صديقين. سمح بوتين لأكبر منشق سوفياتي بأن يقيم في بيت ريفي صغير خارج موسكو ومنحه جائزة تكريماً له على إنجازاته الأدبية. يتبين من ذلك أن القومية الروسية أقوى من الرجعية السوفياتية التي تنسب إلى بوتين.
ترقيع رقيق
يعود خلاف بوتين مع الغرب بشأن أوكرانيا إلى ثلاثة عقود على الأقل، إلى تسعينيات القرن الماضي، عندما كنت أعمل مراسلاً في موسكو وأتنقل في كل أجزاء أوكرانيا. حينذاك أدارت روسيا بزعامة بوريس يلتسين ظهرها إلى أوكرانيا، كما فعلت أيضاً مع معظم ساحتها الخلفية، حينما كانت تركز اهتمامها على تطوير علاقاتها مع كل من الولايات المتحدة وألمانيا.
من ناحيتها، كانت أوكرانيا كما عرفتها عبارة عن قطعة من الترقيع الرقيق، فقد كان الشرق يتحدث الروسية وكان إلى حد كبير مواليا لروسيا. كانت المشاعر الموالية للروس في منطقة دونباس مختلفة في شدتها عن الرأي العام السائد في خاركيف في الشمال الشرقي.
كان الموالون لروسيا كثيراً ما يعربون عن حيرتهم إزاء وجود الحدود بين موسكو وكييف، وفي كييف نفسها لم يكن من غير الشائع أن تتجاوز العائلات الانقسام اللغوي بين روسيا وأوكرانيا. احتفظ هذا السلام بتماسكه بينما كانت النيران تشتعل من حين لآخر في أرجاء الاتحاد السوفياتي السابق، في جورجيا وترانسنستريا وأبخازيا وناغورنو كراباخ وبشكل خاص في الشيشان.
أما في مدينة لفيف، غرب أوكرانيا – حيث تسود الكنيسة الأوكرانية الكاثوليكية، لا الأرثوذكسية، فكان الوضع مختلفاً. في تلك المدينة ولد جدي، الذي ينحدر من أصول بولندية يهودية. لم يكن اسمها حينذاك لفيف وإنما ليمبيرغ، وكانت جزءاً من غاليسيا، الإقليم الواقع في أقصى شرق الإمبراطورية النمساوية المجرية.
كان للمدينة تاريخ دموي وحشي، حتى بمقاييس أوروبا الشرقية، وكانت محل نزاع بين الأوكرانيين والبولنديين والليثوانيين من أصول بولندية، والبلشفيين والألمان. وكانت تسكنها قبل الحرب ثالث أكبر جالية يهودية في بولندا، وكان من بينهم سايمون ويزنثال، صائد النازيين.
عندما غزا النازيون الاتحاد السوفياتي في عام 1941 استقبلهم بالترحاب الأوكرانيون في لفيف باعتبارهم محررين لهم، وذلك بعد عامين من الحكم السوفياتي الوحشي. وبينما كان الجيش الأحمر في عهد ستالين ينسحب، أعدمت قوات وزارة الداخلية السوفياتية آلاف السجناء، وتكررت تلك المذابح في مينسك.
فظائع ونزعات تحريفية
في اليوم الأول من الاحتلال النازي لمدينة لفيف، أعلن أحد أجنحة منظمة القوميين الأوكرانيين إعادة تشكيل الدولة الأوكرانية المستقلة.
قتل ما يقرب من ستة آلاف يهودي في مذبحتين ارتكبتا في الفترة الواقعة ما بين يونيو / حزيران ويوليو / تموز من عام 1941. وأنشئ "غيتو لواو" لإيواء ما يقرب من مائة وعشرين ألف يهودي، ما لبث كثيرون منهم أن شحنوا إلى معسكر الإبادة في بيلزيك. ما بين ذلك المعسكر ومعسكر جانوسكا، تمت إبادة السكان اليهود في المدينة.
أخبرني ضابط اتصال سابق في الجيش البريطاني أنه عندما حررت معسكرات الإبادة في تلك المنطقة أدهشهم أن الحراس كانوا من الأوكرانيين.
ثمة جدل ساخن حول الدور الذي لعبه أهل مدينة لفيف في تلك الفظائع، ووقع كثير من التحريف في سرد ما جرى من أحداث. نسبت بعض أعمال القتل إلى عصابات من القوميين الأوكرانيين، ولكن في نفس الوقت سارع أهل لفيف إلى إيواء اليهود وإخفائهم حتى لا يصل إليهم متصيدوهم.
أياً كانت الحقيقة، فإن الارتقاء باثنين من زعماء تلك الحقبة – ستيفن بنديرا من منظمة القوميين الأوكرانيين ورومان شوخفتش من جيش المتمردين الأوكرانيين – إلى مقام الأبطال الوطنيين، كما فعلت الحركة القومية الأوكرانية، ينبغي أن يعتبر واحداً من الأعمال المعاصرة الكبيرة التي تنكر وقوع المحرقة. فقد قتل عشرات الآلاف من البولنديين واليهود على أيدي هذه المجموعات.
ولا يُقبل، كما يفعل اعتذاريو ميدان، أن يقال إن أوكرانيا يتزعمها رئيس يهودي. بل إن ذلك قرار متعمد لإعادة كتابة التاريخ الحديث لأوكرانيا باعتباره نضالاً مستمراً ضد الهيمنة الروسية.
ساهمت أعمال أخرى عديدة في تعميق النزاع بين الأوكرانيين، بما في ذلك القرار الذي اتخذ عام 2018 للفصل بين كنائس كييف وموسكو – فكان ذلك أكبر انشقاق تشهده المسيحية الأرثوذكسية منذ أكثر من ألف عام. تم تبرير ذلك الإجراء بضم روسيا لشبه جزيرة القرم قبل ذلك بعدة سنوات ومن خلال اتهامات بأن الكنيسة الروسية الأرثوذكسية سمحت لنفسها بأن تُستخدم أداة للتوسع الروسي.
واللحظة الأخرى الكبيرة كانت في عام 2015 عندما سُن قانون يفرض على العاملين في القطاع العام التحدث بالأوكرانية على الرغم من أن اللغة الروسية هي السائدة في معظم جهات الشرق.
سبب ونتيجة
مهما حدث الآن، فقد خسرت روسيا بوتين أوكرانيا، بل ربما يكون التهديد بالغزو قد ساهم وحده بدفع معظم الأوكرانيين نحو دعم طلب بلادهم الانضمام إلى حلف الناتو.
إذا كان الأمر، كما أظنه، متعلقاً الآن برغبة بوتين إجبار الولايات المتحدة وأوروبا على التفاوض على اتفاق أمني جديد – وذلك أن بوتين يحب الحروب النظيفة والسريعة تماماً كما تفعل الولايات المتحدة، والغزو الروسي لن يكون لا نظيفاً ولا سريعاً – فإنه في هذه الحالة يجري المفاوضات من خلال فوهة البندقية.
بعد عقود من التجاهل من قبل الرؤساء المتعاقبين في الولايات المتحدة، هناك في العلاقات الدولية شيء يسمى السبب والنتيجة. واحدة من الخصائص المثيرة لتجميع القوات العسكرية على جانبي الحدود هي رغبة كل من الطرفين في تعمد الكشف للطرف الآخر عما لديه من إمكانيات. ولهذا لا يحرص بوتين على إخفاء منصات إطلاق الصواريخ، وهذا ما لا تفعله في العادة معرضاً تلك المعدات للخطر.
كما يسلط الأمريكان الضوء على عمليات نقل الأسلحة إلى الحكومة في كييف، ويفعلون ذلك عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ومن خلال نشر صور الطائرات المحملة بالأسلحة والمعدات. كما أرسلت الولايات المتحدة صواريخ ستينغر، مهددة بأن تحول التواجد العسكري الروسي في أوكرانيا إلى أفغانستان أخرى.
لا أجد فيما أرى سلوكاً ينسجم مع أجواء ما قبل الحرب. كما أن بوتين ليس من النوع الذي يخاطر. بل تراه يبذل جهوداً غير عادية من أجل تهيئة البيئة التي ينوي العمل فيها. والهجوم باستخدام الدبابات على مناطق مأهولة وعامرة تكتنفه المخاطر، ولا أظن أن بوتين يمكن أن يقدم على مثل ذلك.
ولكن لو كنت مخطئاً وتم الدفع بالدبابات إلى داخل أوكرانيا، فلا مفر من أن يتساءل المرء ما إذا كان هذا الوضع مما لا يمكن تجنبه أو تداركه، وما إذا كان الأمر قطعياً، إما أسود أو أبيض. هل كان توسع الناتو شرقاً عملاً حكيماً، إذا كان كل ما أنجزه هو نقل خط المواجهة إلى الشرق قليلاً؟ هل أفضى ذلك إلى تعزيز الديمقراطية أم نجم عنه إشعال حرب أهلية؟
هل كان ينبغي على الغرب تجاهل التحذيرات المتكررة من بوتين حول المخاوف الروسية المشروعة، والتي ما فتئ يعبر عنها منذ مؤتمر ميونيخ لعام 2007 وحتى الآن؟ هل كان يتوجب على بوش تمزيق معاهدة مع روسيا حول نشر صواريخ دفاعية داخل بولندا؟ هل كان بإمكان أوكرانيا النجاة من أن تعيث فيها قوات متنافسة بعضها ذو نزعة قومية روسية وبعضها ذو نزعة قومية أوكرانية؟ من المؤكد أن الحرب والانفصال ليسا حتميين.
كان اقتصاد أوكرانيا واقتصاد بولندا ذات مرة في نفس المستوى. أما الآن فقد غدا الناتج الإجمالي المحلي لبولندا أضخم بكثير من الناتج الإجمالي المحلي لأوكرانيا. هل أسهم دخول أوكرانيا المعسكر الغربي في إثراء حياة الأوكرانيين؟
لربما كان السبيل الأنجع لتجنب الكارثة المحدقة هو ما اقترحه سفير أوكرانيا لبريطانيا حينما أشار إلى أن بلاده يمكن أن تتراجع عن طلب الانضمام إلى الناتو. ولكنه سرعان ما تراجع عن تلك الفكرة.
من الأفضل ألا يخرج المرء عن النص، وهذا هو الشيء الوحيد الذي يعيه الجميع.
NY: المخابرات الأمريكية أمام تحد لمعرفة ما يدور برأس بوتين
TA: دبلوماسية الغرب تفشل أمام عجرفة الروس
"التلغراف": وحل أوكرانيا قد يدفع بوتين لتأجيل غزو البلاد