قضايا وآراء

استقالة سركسيان وانقلاب سعيّد.. المقاربة المستحيلة

1300x600
في اللحظة التي يتحول فيها الحاكم إلى وحش ضارٍ، بلا وعي ولا حكمة ولا قدرة على التمييز بين الألوان والأحجام، ويتحول الوطن إلى غابة يكثر فيها الافتراس والفتك، فاعلم أنك في دولة عربية. وللأسف أن تونس تحولت إلى دولة عربية طبيعية! بعد أن كانت خارج المعتاد العربي!!

بين استقالة الرئيس الأرميني أرمين سركسيان من منصبه إثر خلافات مع رئيس حكومته نيكول باشينيان، وبين انقلاب قيس سعيد كما بين السماء والأرض. فالأول احترم قوانين البلاد ودستورها، فلم يكن أمامه إلا الاستقالة، والثاني اختلف مع كل الطيف السياسي والاجتماعي (رئيس الحكومة ومؤسسة البرلمان والقضاء والأحزاب والمنظمات وهيئات المجتمع المدني وغالبية قوى الشعب)، فقام بانقلاب كامل الأركان بحجج لا تنطلي إلا على صغار العقول، ولا يتقبلها إلا المرضى وصيادو الفرص.

انسحب الرئيس الأرميني من المشهد السياسي، حين أحس بأن وجوده لا يقدم ولا يؤخر، وأنه غير قادر على التأثير في المشهد السياسي، بعد احتدام المواجهات بينه وبين رئيس حكومته، بسبب قصور التفويض الدستوري، وافتقاره للسلطة الدستورية لحل مشكلات السياسات الداخلية والخارجية للبلاد - كما أشار بنفسه - وأضاف بأن استقالته جاءت بسبب "حالة متناقضة، حيث يتعين على الرئيس أن يكون كفيلا للدولة، دون أن تكون لديه في الواقع أي أداة حقيقية".

أما قيس سعيد، فلسان حاله يقول؛ لأن صلاحياتي غير كافية، ولأنني لم أستطع أن أحس بأنني رئيس عربي شامخ كغيري من الرؤساء؛ فقد قررت - بذريعة القضاء على الفقر ومساندة المهمشين - أن أنقلب على الوطن وأدمر كل شيء جميل فيه، وأنا وبعدي الطوفان!

لم يحاول سركسيان أن يستميل الجيش ولا قوات الأمن، ولم يخوّن أحدا ولم يشتم ولم يصرخ ولم يهدد، وآثر أن يخرج من المشهد بأقل خسارة ممكنة. وربما كان لديه من دوافع الانقلاب على الدولة أضعاف ما كان لدى سعيد، الذي كان جزءا أساسيا من مشكلة تونس قبل الانقلاب، إذ كان يكفي أن يتذرع الأول بالهزيمة النكراء التي تعرضت لها البلاد في حربها مع أذربيجان؛ ليطيح برئيس الحكومة ويستولي على السلطة.

ربما كان بإمكان الرئيس الأرميني فعلا القيام بانقلاب بتقديم بعض الإغراءات لموسكو، وطلب دعمها، لكنه كان يدرك أن ما قد يقدم عليه سيعود بالبلاد إلى الوراء سنوات طويلة، وسيُحدث نوعا من الفوضى والبلبلة في البلد، ففضل الانسحاب من المشهد بكل بساطة خوفا على وطن يئن، ولا يحتمل مزيدا من الأنين. ولم يطالب بتعديل الدستور على الرغم من إلحاح الحاجة إلى ذلك، على الأقل من وجهة نظره، ولم يتهم أحدا بالخيانة والغدر والارتهان لجهات أجنبية مشبوهة، ولم يختلق قصة ظرف مسموم ومحاولات اغتيال، ولم يتذرع بوجود إرهابيين يتربصون بالوطن، بل خرج بكثير من الاحترام للدستور والقوانين المرعية في البلاد.

أما قيس سعيد، فقد استدعت خلافاته مع رئيس الحكومة هشام المشيشي دعوة الأخير إلى قصر قرطاج، والاستفراد به، وإجباره على الاستقالة، وقيل إنه تعرض للضرب والتهديد. ثم اختفى عن الأنظار فترة من الزمن، ليظهر بعدها في بيته، وانقطع اتصاله بالعالم الخارجي حتى اليوم. ويبدو أنه وقع تحت ضغط شديد وتهديد ووعيد.

وقبل ذلك، قام سعيد باستدعاء الجيش ووضعه أمام فوهة المدفع، ثم طلب من الجيش إغلاق البرلمان بالدبابات، ثم ورط الجهات الأمنية في اعتقالات تعسفية وغير قانونية لخصومه السياسيين بما يمكن تصنيفه بالاعتقال خارج القانون أو الاختطاف، كما حدث للنائب عن كتلة النهضة نور الدين البحيري وآخرين قبله وبعده في عملية انتقام سياسي مشين ومكشوف، وفي ظل اتهامات كاذبة تؤشر على حقد دفين، ورغبة في الانتقام والثأر الشخصي الذي لا صلة له بالوطن ومصلحة البلاد.

استقال الرئيس الأرميني من منصبه لأن بلاده تمر بأوقات صعبة، ولعدم قدرته على التأثير الإيجابي في سياسة البلاد، وانقلب سعيد لعدم قدرته على ممارسة ذاته المنتفخة، ولأنه يعيش خارج العصر، فهو من الرعيل الذي لم يعش الديمقراطية ويضيق بمتطلباتها، وقيل - نقلا على لسانه - بأنه لم يدلِ بصوته في أية انتخابات جرت في تونس بعد الثورة.

ما بين زعيم يحترم الدستور ويخشى على وطنه وشعبه، وزعيم لا يفكر إلا بالهيمنة على الكل الوطني والسياسي، ويتمرد على الدستور الذي انتخب على أساسه وأقسم على الالتزام به - بون شاسع، ومسافة لا تقاس بالأمتار، بقدر ما تقاس بصحوة الضمير الوطني أو بموته.

ذهب سركسيان إلى بيته نافضا عن نفسه آثار ما كان، ولقي الكثير من الإشادات الدولية والمحلية وبرر له كثيرون ما فعل، بينما السخط والرفض والمواجهة القوية تلاحق قيس سعيد، وتضرب إجراءاته في العمق محليا ودوليا، فتربكه وتربك إجراءاته الهشة التي لا يحميها دستور ولا شرعية ولا قوانين، كما يحدث في الدول التي تحترم نفسها.

وفي الأثناء، تحضر في المشهد الانقلابي استقالة نادية عكاشة، مديرة الديوان الرئاسي لقيس سعيد، بسبب صراع على النفوذ، وتدخّل أسرته (أخوه وزوجته) في إقصائها من المشهد، وتسري في الأوساط الشعبية شائعات بأن ثمة كيدا نسائيا سببه غَيرة زوجة الرئيس من القرب الشديد بين سعيد وعكاشة، مما أدى إلى تحرك زوجة الأول لإنهاء وجود الثانية في القصر، بالتزامن مع خلافات مع وزير الداخلية وشقيق سعيد، بما يشير إلى تصدع في الجبهة الداخلية وإلى نوع من الخلافات البعيدة عن مواصفات الحكم الرشيد. علما بأن عكاشة كانت من أقرب المقربين لسعيد.

وأغرب ما في الأمر أن نادية عكاشة أعلنت استقالتها يوم 24 من الشهر الجاري، وفي اليوم التالي أصدر قيس سعيدا مرسوما رئاسيا يقضي بإقالتها من منصبها، وهو ما يؤشر - فيما أرى - على أن عكاشة استبقت المرسوم الرئاسي بالاستقالة، وأن الادعاء بأن سعيد حاول ثنيها عن الاستقالة كذبة سببها التخبط وضعف أداء الإعلام الرئاسي أو من يملي عليه، وهو ذاته قيس سعيد.

تحدث تدخلات عائلة سعيد في شؤون الدولة، وتتخذ قرارات نافذة؛ بينما لم نسمع ولم نقرأ عن تدخل أسرة سركسيان في شؤون الدولة من قريب أو بعيد، ولا بعصابات خطف لمسؤولين وإهانتهم بدون ضمير ولا أخلاق وطنية، ولأن الشعب الأرميني ومؤسسات الدولة لم يكن ليسمح بحدوث شيء من هذا القبيل، بينما يصمت كثيرون عما يحاك لنا في الغرف المغلقة، ومواخير السياسة السرية التي تنتظم السلوك العام للدولة، في ظل قيس سعيد المأزوم والمتطلع للدكتاتورية المطلقة.

ويتزامن ذلك مع دعوات للتبرع للدولة صدرت هذه المرة من مفتي تونس، ثم تحذف تغريدة المفتي عن صفحة دار الإفتاء، وهذا أيضا يدل على تخبط وضعف إدارة. وكان سعيد دعا الشعب أكثر من مرة للتبرع للدولة، ما يذكرنا بصندوق "تحيا مصر" الذي لا يعرف أحد مصارفه الحقيقية، ولا يخضع لأي نوع من الرقابة، وربما ننتظر صندوق "تحيا تونس" قريبا.

ما حدث في القصر، يؤكد بأن قيس سعيد لا يختلف كثيرا عن الباجي قايد السبسي وابن علي في السماح للعائلة بالتدخل في مفاصل الحكم في كل صغيرة وكبيرة، حتى فيما يتعلق بمصير وطن وشعب يتضور جوعا، وهذا حال معظم الدول التي يحكمها العسكر، وخصوصا في وطننا المأزوم من الماء إلى الماء!

لقد آن الأوان لانسحاب قيس سعيد من المشهد أو إزاحته منه؛ فقد طغى وتجبر وورط المؤسستين العسكرية والمدنية في صراعات محرجة لهما، ويستغربها الشعب، ويُخشى أن تؤثر على نظرة الشعب لجيشه الذي ظل يعتز به ويوقره طوال الوقت.