قضايا وآراء

تونس ونموذج الدكتاتورية المصري

1300x600
على معارضي الرئيس قيس سعيد أن يتعاملوا مع الحالة القائمة في تونس اليوم بناء على وجود برنامج ينسجم مع النموذج المصري في التعاطي مع الدولة التونسية؛ فكل المؤشرات تشير إلى مصر السيسي، وليس وجود ضابط مصري برتبة عقيد أو ضباط آخرين في القصر الجمهوري التونسي مؤشرا كافيا للدلالة على ذلك، بل هي المعطيات والمخرجات التي تؤكد دور مصر والنموذج المصري في التعامل مع معركة الديمقراطية وحوار الوطن.

بعد أن قام سعيد بحل البرلمان والهيمنة على المؤسستين الأمنية والعسكرية وإخضاعهما لمشيئته، ومن ثم استخدامهما في إحداث حالة من الفوضى الأمنية متمثلة في الاعتقالات التعسفية والإخفاء القسري واستخدام الأسلوب الوحشي في اعتقال بعض الرموز الوطنية، وسحب جواز السفر الدبلوماسي من الرئيس السابق المنصف المرزوقي والحكم عليه بالسجن أربع سنوات بذرائع غير مقنعة، وبمحاكمة صورية هزلية لاقت رفضا شعبيا تونسيا وعربيا ودوليا، مع اقتراب انقضاضه على القضاء، بعد ذلك كله تتضح صورة النموذج المصري في تونس بشكل سافر.

ما حدث في مصر يحدث في تونس مع بعض الفروق، وأهمها السرعة القصوى التي استعدى فيها قيس سعيد معظم الطيف السياسي التونسي، فلم يُبق له صديقا إلا بعض المنافقين وأعداء الثورة، وهم شرذمة منبوذة لا قيمة فعلية لها، تصفق لسعيد من دون أن تجد اهتماما منه، على أمل أن يكون لها حضور في المشهد السياسي القادم حين فشلت في الحصول على أي من المكتسبات السياسية قبل الانقلاب، ولديها رغبة جامحة في تبوّؤ أي دور في أي مشهد سياسي ممكن.

ففي حين استغل عبد الفتاح السيسي معظم الطيف السياسي والاجتماعي في الوصول إلى كرسي الحكم وإحكام القبضة الأمنية على مفاصل الدولة، قام سعيد منذ الأشهر الأولى للانقلاب بقص أجنحة كل التيارات القوية شيئا فشيئا؛ بما فيها الاتحاد العام للشغل الذي يمثل قوة اجتماعية وسياسية لا يستهان بها، وهو الذي أيد قرارات سعيد في البداية، وكان نور الدين الطبوبي الأمين العام للاتحاد في حالة تواصل مستمر مع سعيد قبل الانقلاب وبعده، لكن لم يدم الوفاق طويلا؛ إذ سرعان ما اتسعت الهوة بينهما، وبات الاتحاد في حكم المعارض، وإن كان لم يزل يحاول أن يجد طريقا لمواصلة الحوار مع سعيد، فمعارضته فيها شيء من التخبط وعدم الوضوح، لكنه في النهاية يبدو جليا أنه بات في صف المعارضة الأقل فعلا في الشارع، وينأى بنفسه عن معركة كسر العظم المتوقعة، فهو لم يدعُ بعد إلى نزول النقابات إلى الشارع، ورأيه غير واضح تجاه التظاهرات التي تم تنظيمها في العاصمة. وكان آخر تصريح للأمين العام للاتحاد يوم الثلاثاء 11 كانون الثاني/ يناير، حيث قال؛ "إن الاتحاد أعلن أنه مع مسار 25 تموز/ يوليو الماضي، لكن لا يمكن أن نعطي صكا على بياض، ولا بد أن نكون شركاء في الانتقال الديمقراطي". وفي تصريحات للصحفيين بافتتاح مؤتمر الاتحاد الجهوي بصفاقس قال: "لكن عندما يقول الرئيس أنا ولا أحد معي، نقول إننا لن نقبل هذا الأمر، واختتم بالقول: "قلنا إن الحقوق تُفتكّ ولا تُهدى، ونحن دائما جنود في الصفوف الأمامية".

تلك حدود الاتحاد العام للشغل في المعارضة، مجرد فقاعات كلامية، وأمل في أن يستعيد الطبوبي علاقته بقيس سعيد وأن يكون له دور في المرحلة القادمة، وإنْ من خلال تنازلات جوهرية، فالمهم عنده ألا يتم إقصاؤه وحسب، فهو يحلم بدور يؤهله اجتماعيا للحضور في المشهد كإحدى الهيئات المؤثرة في التغيير أيا كان لون هذا التغيير وشكله، وربما يوافق على نزع بعض الريش من جناحيه في سبيل الحضور في المشهد.

إن المقاربة بين المشهدين المصري والتونسي تكاد تكون متطابقة في العموميات؛ فالبرلمان المصري شكلي وخاضع للسلطة ومزور شكلا ومضمونا، والبرلمان التونسي الذي لم تحدد بعد ماهيته القادمة بشكل دقيق، إلا أنه غالبا سيمثل الديمقراطية القاعدية بقيادة قذافي تونس، وسيكون من حيث التبعية على ذات المنظومة المصرية، وإن اختلف الشكل؛ إلا أنه سيكون مواليا لسلطة رئيس الأمر الواقع وتحت إمرته بالضرورة.

لقد جمع السيسي كل السلطات بيده، وهو محور كل أدوات النظام وآلياته ابتداء من السلطة  التنفيذية ومرورا بالتشريعية وانتهاء بالقضائية، وهو ما يسعى له قيس سعيد الذي زار مصر قبل الانقلاب بفترة وجيزة نسبيا للاستفادة من التجربة المصرية القذرة، وكان ذلك واضحا ولا يحتاج إلى ذكاء، ولكم استغربت كيف تمر زيارة سعيد لمصر دون ضجة إعلامية كبرى من المعارضة التي كان عليها أن تعي الدرس مبكرا، وتدرك أن بعد زيارة سعيد لمصر كارثة على قائمة الانتظار، لا شك فيها، خصوصا إذا ما ربطنا بين الزيارة وتصريحات سعيد قبل الزيارة وبعدها.

لقد وقع القضاء المصري في قبضة الانقلاب، وأصدر أحكاما جائرة على عدد كبير من المصريين، وكان عدد من حكم عليهم بالإعدام كبيرا وظالما ويتجاوز كل الحدود الأخلاقية لمهنة القضاء وفضيلة العدالة، وهو ما يسعى له سعيد ويلمح له كعادته، فقد اعتاد في كل ما قام به من إجراءات تعسفية وغير قانونية بالتوطئة لها بأحاديث متكررة وتصريحات مستفزة، مثل حديثه عن تبعية المؤسسة الأمنية للرئاسة كونها قوات مسلحة، وليست مدنية، وقيامه من بعد بإحالة عدد كبير من ضباط الداخلية إلى التقاعد المبكر، في أكبر عملية توظيف سياسي لوزارة الداخلية في معركة الرئيس ضد خصومه.

ثم جاءت تلميحاته المتكررة عن الخراب في مؤسسة البرلمان قبل إغلاقه بالدبابات ورفع الحصانة عن أعضائه واعتقال بعضهم، وتهديد بعضهم الآخر. وتزامن ذلك مع احتجاز رئيس الحكومة وتعنيفه وإخفائه لأيام طويلة قبل أن يظهر في بيته كسيرا، بما يشبه الإقامة الجبرية.

واليوم يشدد سعيد على وجود فساد في القضاء، ولا ينفك يتحدث عن ذلك كلما سنحت له الفرصة؛ فهو يحاول طوال الوقت التأثير على العامة بطريقة شعبوية قبل كل إجراء يتخذه، وهو بالضرورة ذاهب لفضّ مجلس القضاء الأعلى والسيطرة على القضاء وتوظيفه سياسيا كما فعل السيسي ولن يردعه شيء عن فعل ذلك. وبسيطرته على القضاء يكون قد أجهز على الدولة، وهيمن على كل مفاصل الحكم والإدارة، ليصبح نسخة كربونية عن السيسي، وليبدأ محاكماته الجائرة وظلمه وتعسفه على الشعب والطبقة السياسية بلا حسيب أو رقيب.

لكن سعيد لن ينجح كما نجح السيسي حتى الآن؛ لأن الشعب التونسي لا يطيق مزيدا من الفقر والضغط على جيبه، وربما هو من أكثر الشعوب العربية رفضا للضغط على رغيفه، وضجّا من الظلم والاستعباد، فهو مستعد للموت في سبيل عيشه الكريم وتحقيق نوع من الرفاه الاجتماعي بعيدا عن القمع والخوف اللذين عاشهما ردحا من الزمن في حقبتي بورقيبة وبن علي، لكن طيفا لا يستهان به من الشعب التونسي لم يحس بعد بما ينتظره من لعنات قيس سعيد وإجراءاته وحساباته المغلوطة القائمة على مزاجه الشخصي، لا بناء على دراسات وحسابات دولة ووطن.

وكما حدث في مصر إبان الانقلاب الدموي، حيث التفّ حوله معظم قوى الشعب من أحزاب ومنظمات وجمعيات ومن طبقات الشعب المنتفعة، ثم انقلب السيسي عليها جميعها، وأودع عددا كبيرا من قادتها وأفرادها سجونه المقيتة، فإن سعيد لم يُبق حوله - مبكرا - إلا قليلا من الأنصار من الشباب المطحون الذي انخدع بأوهامه وأكاذيبه، وبعض الأحزاب التي لم نكن نسمع بها قبل الانقلاب.

لم يكن قمع التظاهرات في مصر عنيفا في البداية، بل كان العنف أقل بكثير مما صار عليه بعد تمكن السيسي من كرسي الحكم، حين صدرت القوانين الخاصة بالتظاهر، وكانت لعنة على الشباب الثائر الذي ووجه بالرصاص الحي والاعتقال والتعذيب. وكما توقع المعارضون التونسيون، فقد بدأ التدرج في مواجهة التظاهرات، حيث اتسمت تظاهرات يوم الجمعة 14 كانون الثاني/ يناير بحضور أمني كثيف وقمع وسحل لصحفيين تونسيين وأجانب، ومصادرة هواتفهم وكاميراتهم واعتقال عدد من المتظاهرين، لم يتبين بعد عددهم؛ بما لا يؤشر - بحال من الأحوال - على احترام الحقوق المدنية، ولا يبشر بالخير في القادم من الأيام.

سيجمع قيس سعيد كل السلطات في يده كما فعل السيسي، لكنه لن يصمد طويلا كما صمد وليّه في مصر؛ فالخيارات التونسية تختلف عن خيارات مصر، والطبقة السياسية التونسية من الصعب شراؤها.