قضايا وآراء

‏السودان إلى سباق المسافات الطويلة

1300x600
وإذ دخلت أسبوعها الثالث، يتضح أكثر فأكثر كم هي طويلة كل المسارات الممكنة في الجولة الحالية من الصراع داخل السودان، ويمكن تلخيص هذه المسارات في ثلاث كلمات: تعثر، تمسك، تصعيد.

كما يتضح أن القوى الدولية النافذة، والقوى الإقليمية، ليست متعجلة لترجيح المسار الذي تراه معبرا عن مصالحها. 

عن التعثر، تبين أن مختلف القوى الفاعلة في الواقع السوداني ليست مهيأة بعد للتفاهم على حلول وسط؛ فجهود الوساطة التي تشارك فيها الأمم المتحدة تعثرت على ما يبدو خلال الأيام الماضية، بعد أن كان التفاؤل سيد الموقف الأسبوع الماضي، كما غادر وفد الجامعة العربية، برئاسة الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية، السفير حسام زكي، السودان دون أن يحقق شيئا ملموسا، وذهب إلى لبنان بحثا عن وساطة أخرى و"إمكانية تقريب وجهات النظر بين لبنان وعدد من الدول الخليجية".

التعثر يبدو "مؤقتا" فكل الأطراف تشعر أنها في بداية هذه الجولة من الصراع السياسي والاجتماعي، ولم تستنفد طاقتها بعد. قائد الانقلاب عبد الفتاح البرهان، الذي التقى وفد الجامعة العربية، أعلن تمسكه بقرارات 25 تشرين الأول/ أكتوبر، التي تعني فض الشراكة مع المكون المدني، وطي صفحة الوثيقة الدستورية والمرحلة الانتقالية. وقد تزامن الإعلان عن التمسك بقرارات 25 تشرين الأول/ أكتوبر، مع أنباء عن تعثر المفاوضات بين المكون العسكري ورئيس الحكومة المقال عبد الله حمدوك، وتشديد قوات الأمن للإجراءات المفروضة عليه، ومنعه من التواصل مع القوى السياسية، مما حد بدرجة أكبر من قدرته على عقد اجتماعات أو إجراء اتصالات سياسية.
التعثر يبدو "مؤقتا" فكل الأطراف تشعر أنها في بداية هذه الجولة من الصراع السياسي والاجتماعي، ولم تستنفد طاقتها بعد

رفض الجيش العودة إلى ما قبل الإجراءات الاستثنائية مجرد "تعثر" وليس إعلانا عن الوصول إلى "طريق مسدود"، فالجولة في بدايتها، ولم تشهد أحداثا كبرى بعد، على الرغم من النجاح النسبي للمظاهرات والوقفات الاحتجاجية، ويومي العصيان المدني (الأحد والاثنين الماضيين)، فهما بمثابة خطوة افتتاحية.

الجيش متمسك، لا زال، وحمدوك كذلك، والتعثر الحالي موقف مفهوم، بطبيعة أمور الجولة الحالية.

التصعيد، جاء من تجمع المهنيين، حيث أعلن في بيان صحفي (صباح الاثنين الماضي) أنه "توافقت تنسيقيات لجان ولاية الخرطوم على أن يوم السبت الموافق 13 نوفمبر يوم ثوري خالص، تسير فيه مليونيات "الغضب لإسقاط المجلس العسكري"، ونهيب بجماهير الشعب السوداني بالداخل والخارج بالمشاركة بفعالية في المليونية".

تجمع المهنيين، الذي يرفع شعار "لا تفاوض- لا شراكة- لا شرعية"، يفتح المسار الثالث على ممكنات بعيدة المدى، فإزاء تمسك قادة الجيش بإجراءاتهم الانقلابية على الوثيقة الدستورية والمرحلة الانتقالية، وإزاء تمسك حمدوك وأطراف سياسية فاعلة، تقف خلفه مباشرة، بمطلب العودة عن قرارات 25 تشرين الأول/ أكتوبر، يشرع تجمع المهنيين في الدعوة لتجاوز إلغاء الوثيقة الدستورية التي يراها معيبة، ومسببة للتعثر في استكمال ثورة كانون الأول/ ديسمبر (2019) على نظام عمر البشير، والعمل على إنجاز وثيقة دستورية جديدة، تستبعد تماما المكون العسكري من المشاركة في المرحلة الانتقالية، بحيث تكون الفترة الانتقالية المقبلة (أربع سنوات) مدنية تماما، مع المطالبة بإعادة هيكلة القوات المسلحة، وتفكيك الأجهزة الأمنية، مع التمسك بدور عبد الله حمدوك كرئيس للوزراء بكامل الصلاحية، والسيطرة على القوات المسلحة، بافتراض قبول المؤسسة العسكرية.

* * *

ثلاثة مسارات إذا: في المسار الأول، الممكن، يتبدى أنه من المنطقي تواصل المواجهة دون حسم، لفترة قد تقع فيها أحداث تدفع مختلف الأطراف للعودة إلى وساطات، أو مفاوضات، أو مقترحات من أطراف إقليمية أو دولية، للخروج بحل تقبل به الأطراف "الواقعية".

المسار الثاني أن ينجح الجيش في تمرير الانقلاب.

المسار الثالث أن ينجح تجمع المهنيين في حشد الدعم السياسي لمرحلة انتقالية مدنية خالصة، ثم أن ينجح في الحشد الجماهيري يوم السبت المقبل، وما يليه من أيام، بحيث يجد الجيش نفسه مضطرا للرضوخ.

* * *

في المسار الثاني تأتي تصريحات البرهان عن إعلان تشكيل حكومة جديدة، وأنه "لن يكون جزءا من أي حكومة بعد الفترة الانتقالية" لتذكر القارئ بجمل وكلمات وتعبيرات مماثلة قيلت من رؤساء وقادة عسكريين عرب مرات عديدة في السنوات العشر المنصرمة (مبارك، ابن علي، القذافي، صالح، البشير..)، وهو إذ أعاد ترديد كلمات ممجوجة، مكررة، عن الالتزام "بتسليم السلطة إلى حكومة مدنية ذات كفاءة وطنية بدون عراقيل"، لم ينجز شيئا في سبيل إقناع المتظاهرين، ثم إن تنصله من المسؤولية عن الضحايا الذين سقطوا خلال التظاهرات في الأيام الماضية، ينزع عنه أية مصداقية تمكنه من إقناع المواطنين بصدق وعوده.
السؤال عن حميدتي هو التعبير البالغ عن أحد التعقيدات الهائلة في المشهد السوداني، فالقوات المسلحة السودانية موزعة الولاءات، ولا تتمتع بما تتمتع به الجيوش الحديثة من وحدة القيادة، فتحت قيادته قوات تأتمر فقط بأوامره، وهو بذلك يمكنه إن أراد أن يرجح أحد أطراف الصراع، لكنه في هذه اللحظة قد أعلن دعمه للبرهان

فبينما أعلنت لجنة من الأطباء السودانيين أن "14 متظاهرا قتلوا على الأقل وأصيب نحو 300 آخرين في مظاهرات رافضة للانقلاب منذ 25 أكتوبر"، رد بنفس النبرة الكريهة، التي سمعت مرات من قبل: "الجيش لا يقتل مواطنين وهناك لجان تحقيق لكشف ما حدث".

وفي المسار الثاني، أيضا، أجاب قائد قوات الدعم السريع في السودان الفريق أول محمد حمدان دقلو، المعروف باسم حميدتي، على التساؤل الذي ظل المعلقون والكتاب والصحافيون والإعلاميون يسألونه طوال الأسبوعين الماضيين: ما موقف حميدتي؟

السؤال عن حميدتي هو التعبير البالغ عن أحد التعقيدات الهائلة في المشهد السوداني، فالقوات المسلحة السودانية موزعة الولاءات، ولا تتمتع بما تتمتع به الجيوش الحديثة من وحدة القيادة، فتحت قيادته قوات تأتمر فقط بأوامره، وهو بذلك يمكنه إن أراد أن يرجح أحد أطراف الصراع، لكنه في هذه اللحظة قد أعلن دعمه للبرهان، وسوّق لمبرراته قائلا: "إن ما حصل جاء لتصحيح مسار ثورة الشعب، والحفاظ على أمن واستقرار البلاد".

* * *

المسار الأول، مسار تواصل المظاهرات بإيقاعها الحالي، مكلف، ومجهد، ومتابعته صعبة لأن سلطات الانقلاب، كما نقلت قنوات إخبارية دولية (فرنسا 24، بي بي سي) عزلت البلاد وقطعت وسائل الاتصال كليا وخدمات الإنترنت منذ 25 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي بهدف "منع المناهضين لهذا الانقلاب من تنظيم الاحتجاجات وتسييرها والتفاعل فيما بينهم لوضع استراتيجية شاملة وواضحة لإنهاء الانقلاب العسكري والعودة إلى المسار الديمقراطي"، كما أن الحياة في الحقيقة شبه متوقفة، والكل ينتظر كيف سيتطور الوضع، والاقتصاد ازداد انهيارا، والخوف من مستقبل أكثر سوادا".

وعلى الرغم من كل هذا، تتميز المظاهرات بزخم وفاعلية، تنبئ عن إمكانية اضطرادها وتناميها، وتجذرها. فيوم الأحد الماضي نظم المعلمون وقفة احتجاجية أمام وزارة التربية، لكن المظاهرة السلمية قوبلت بالعنف من طرف قوات الأمن التي سارعت إلى مكان الاعتصام وانهالت على المشاركين بالضرب، بعدما أطلقت الغاز المسيل للدموع، ما أدى إلى جرح البعض وتوقيف ما يقرب من مائة من المشاركين.

المتاريس تقام، وتسارع قوات الأمن لمحاولة إزالتها، فتقام من جديد. يدرك الداعون للعصيان المدني أنه أصعب وأكثر أعمال المقاومة تعقيدا، لأنه يتطلب تضحيات اجتماعية واقتصادية هائلة، وقدرة عالية على التنظيم والسيطرة.

العصيان المدني تضحية مطلقة للفئات الاجتماعية التي تعتاش على عمل اليوم، وهي تمثل نسبة كبيرة للغاية من الشعب السوداني، لذلك فالدعوة للعصيان المدني بالغة التعقيد وعالية التكلفة. ثم إن انكساره سيجلب نتائج عكسية مؤثرة للغاية.

يمكن للعصيان المدني أن يكون حاسما لو ركز على القطاعات الحكومية المؤثرة، ويمكن أن يكون باترا لو تم رفده بقطاعات من القوات المسلحة وقوى الأمن، عندها لن يمكن لقادة الجيش إلا السعي للتفاهم، لكن هذه الإمكانية محفوفة بالمخاطر لأنها قد تنفتح على مواجهات مسلحة، مجهولة النتائج.

* * *

الإشارات القليلة المعبرة عن المقاومين للانقلاب تبدو يائسة، ليس اليأس من المقاومة والتظاهر والثورة، بل اليأس من احتمال الذهاب مرة أخرى إلى "الشيطان الذي نعرفه": الحكم العسكري، وفي مواجهته تصبح التضحية بالنفس أهون.
أملك دليلا على أنها مخطئة في ظنها هذا، فظني أن العنف يمكن أن يمنع متظاهرا لديه أمل في التغيير، لكنه لا يفعل شيئا في مواجهة متظاهر يئس من مثل هذه الحياة


قرأت أن متظاهرة قالت لمراسل صحفي أجنبي كان يتحدث إليها في أحد شوارع الخرطوم: "لا يمكنهم قتلنا جميعا". كانت جملة مريعة في يأسها، "إنهم يقتلون البعض، وهذا نحتمله"، هذا ما فهمته، وقد هالتني المقاربة المنطقية: الانقلاب مرفوض، لا لحكم العسكر، فلنتظاهر، سيقتلون بعضنا.

ما هالني أكثر كانت مشاهد لسلوك بعض أفراد الجيش: يمسكون ببعض الشباب، يضربونهم بـ"الكرباج"، ثم يحلقون شعر الرأس، ويعاودون ضربهم، ثم يطلقونهم، ويطلبون منهم أن يركضوا، ويهددونهم: إذا توقفتم عن الركض سنطلق عليكم الرصاص.

* * *

تظن سلطة الانقلاب أنها قادرة على كسر مشاعر اليأس التي ستتولد نتيجة مثل هذه الأفعال، ولا أملك دليلا على أنها مخطئة في ظنها هذا، فظني أن العنف يمكن أن يمنع متظاهرا لديه أمل في التغيير، لكنه لا يفعل شيئا في مواجهة متظاهر يئس من مثل هذه الحياة.

يقف السودانيون على خط انطلاق لمرحلة جديدة، في سباق يبدو في هذه اللحظة طويلا، والمسارات الثلاثة يمتلك كل منها أسبابا لترجيحه، ويبدو أنه سيكون - كما تعود السودانيون - سباقا للمسافات الطويلة، لكن إيقاعه هذه المرة سيكون أسرع قليلا.