قضايا وآراء

مائة عام من الهراء (8)

1300x600
بدأتُ سلسلة المقالات هذه بفرضيتين: أن الواقع ينتج يوميا ما يعزز وصفي لتاريخ العرب خلال الأعوام المائة؛ منذ عقد مؤتمر القاهرة (1921) بـ"الهراء"، وأن قضية فلسطين هي في مركز كل حديث عن واقع العرب ومستقبلهم؛ كما في الأعوام المائة المنصرمة.

وهذا ما يحدث كل لحظة، تقريبا، وبوتيرة هائلة التسارع، فقبل يومين قرأت عنوان مقال للكاتب الصحفي سليمان جودة: "السادات يتألم في قبره!"، فشرعت فورا في القراءة؛ ليس "شفقة" على السادات، قطعا، ولكن لهول ما يتضمنه العنوان. فالكاتب يعلن أنه يمتلك اليقين من أنه حدث يجعل السادات يتألم في قبره، لأكتشف مع القراءة ما فاتني في متابعتي الخبرية اليومية المعتادة، ذلك أن وسائل الإعلام التي نقلت خبر زيارة وزير حرب العدو الإسرائيلي، بيني جانتس، إلى البحرين، ذكرت أنه استقل خلال زيارته طائرة إسرائيلية هي في الأصل طائرة مصرية! وحسبما ذكر جودة، فإن "هذه الطائرة هي نفسها التي كان الرئيس السادات قد استقلها إلى القدس، عندما قام بزيارته التي هزت العالم في تشرين الثاني/ نوفمبر 1977. وبقية القصة تقول إنها من طراز بوينج 707، وأنها بقيت مصرية إلى 2011، وأن شركة إسرائيلية اشترتها لصالح سلاح الجو الإسرائيلي، الذي بادر بتخصيصها لتنقلات قادة وزارة الدفاع والجيش في إسرائيل!".

ونواصل مع جودة: "الحقيقة أن وجود هذه الطائرة في إسرائيل خبر مؤسف ومحزن للغاية.. ولا أحد يعرف كيف هان علينا أن نبيع طائرة لها هذا التاريخ الذي لا يتكرر.. لا أحد يعرف كيف جرى ذلك، مهما كان الثمن، ومهما كان المقابل، ولا كيف سمحنا بانتقالها إلى ملكية دولة أخرى، أيا كانت هذه الدولة، وأيا كانت المبررات التي يمكن أن تقال!.. ولا بد أن نشر الخبر عنها قد جعل السادات العظيم يتقلب في قبره من الوجع والألم!".

حين انتهيت من قراءة المقال قلت: على العكس تماما مما استنتجه جودة من القصة، فلو كان لي أن أقدر مشاعر السادات في قبره، وهذا خارج قدراتي تماما، فلي أن أتخيل أن السادات يرقص طربا، ويمكن أن أستعير تعبيرا مصريا "أنور مزقطط من السعادة".

بعيدا عن مشاعر الراحل وعن تقديرها، فالقصة كافية بمفردها دون شيء آخر، مما كتبته أو أكتبه الآن، أو سأكتبه إذا ما قدر لي مواصلة هذه السلسلة للتدليل على صحة الوصف: الهراء.

* * *

من الموسوعة الفلسطينية، نقرأ في مادة "مؤتمر القاهرة (1921)" أن جدول أعماله تضمن ثلاثة مواضيع، هي: موضوع الالتزامات البريطانية في "ساحل الإمارات المتصالحة على شاطئ الخليج وعدن"، وموضوع العراق، وموضوع فلسطين؛ وفيه شرقي الأردن، هذا إلى جانب مسائل عسكرية ومالية أخرى.

في ما يتعلق بالموضوع الأول، يتوجب توضيح أن "إمارات الساحل المتصالح" لها في الوثائق التاريخية (البريطانية بالأساس) تعبيرات أخرى، منها: الساحل المُهادن أو ساحل عمان أو ساحل القراصنة، وهي مجموعة المشيخات التي تقع في الخليج العربي، والتي شكلت فيما بعد الإمارات العربية المتحدة. وأنه قبل مؤتمر القاهرة بمائة عام، كانت قد عقدت خمس معاهدات تمهيدية بين ضباط بريطانيين وبين شيوخ: الشارقة (الشيخ سلطان بن صقر القاسمي)، ورأس الخيمة (الشيخ حسن بن رحمة)، ودبي (الشيخ محمد بن هزاع)، وأبو ظبي (الشيخ شخبوط بن ذياب بن عيسى آل نهيان)، والرمس وضاية (الشيخ حسن بن علي بن عبد الرحمن العنزي). ثم وقع شيوخ الإمارات السبع وضباط بريطانيون "المعاهدة العامة للسلام بين القبائل العربية والحكومة البريطانية"، وأي قراءة موضوعية لبنودها لن ترى فيها إلا استسلاما، تاما وغير مشروط، من الشيوخ للقوة الاستعمارية العنصرية البريطانية، وهذا يستوجب وضع مسألة الطائرة وزيارات قادة العدو الصهيوني إلى الإمارات والبحرين، الأسبوع الماضي، في سياقها التاريخي المناسب.

* * *

أما الموضوع الثالث من جدول أعمال مؤتمر القاهرة (1921)، بحسب ما تفيدنا الموسوعة الفلسطينية، فإن الأمير عبد الله (بن الحسين؛ شريف مكة) بعث رسالة إلى تشرشل الذي كان في القاهرة شرح له فيها الأسباب التي دفعته إلى المجيء إلى عمان، وأكد أنه لا يحمل أية نية عدوانية ضد فلسطين، وطلب منه مقابلته في فلسطين أو في أي مكان آخر "ليعبر له عن إيمانه بالصداقة المتبادلة، وليشرح له أماني الشعوب المتعلقة بمستقبل وطنهم". وقد وعده تشرشل بلقائه في القدس.

ونواصل مع الموسوعة: "أدى قرار المؤتمر تأسيس دولة عراقية ومبايعة فيصل ملكاً عليها إلى اتخاذ قرار آخر يعترف بعبد الله أميراً على المنطقة الواقعة شرقي نهر الأردن، حيث كان قد فرض نفسه. وقد سيطرت قضية شرقي الأردن على البند المتعلق بفلسطين، ودار محور النقاش حول نقطة واحدة هي وجوب الفصل بين إدارة فلسطين وإدارة شرقي الأردن، فلا تكون منطقة شرقي الأردن مشمولة بالنظام الإداري لفلسطين حتى لا تطبق عليها شروط الانتداب وفيها الوطن القومي اليهودي، مع الاعتراف بعبد الله أميراً شرعياً على شرقي الأردن يكون مسؤولاً أمام المندوب السامي في القدس".

وتشير الموسوعة إلى أنه "على الرغم من عدم ظهور كلمة "الصهيونية" في جدول أعمال المؤتمر فقد بحث موضوعها فيه، وعدّ المؤتمر "حكومة صاحب الجلالة" مسؤولة عن إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين بموجب شروط الانتداب. وكانت اللجنة التنفيذية للمؤتمر العربي الفلسطيني الثالث (حيفا، كانون الأول/ ديسمبر 1920) قد اختارت وفداً يتوجه إلى القاهرة ليعرض على تشرشل ظلامات العرب الفلسطينيين، وقد ترأس الوفد موسى كاظم الحسيني، فاستقبله تشرشل على كره منه ولكنه رفض أن يبحث معه المشكلات السياسية".

وتخلص الموسوعة إلى أن "مقررات مؤتمر القاهرة (حددت) الخط العام للسياسة الاستعمارية البريطانية في الوطن العربي لسنوات طويلة قادمة، ووضعت أساس بناء التجزئة الذي قام على حطام فكرة الوحدة".

* * *

الفصل الثاني من مؤتمر القاهرة جرى في فلسطين، وفي بعض تفاصيله ملمح صغير ودال على أن الأعوام المائة هي أكثر من هراء، ذلك أن تشرشل وكوكبة الاستعماريين المرافقين له استقلت قطارا من القاهرة أوصلهم إلى غزة، فأين سكان غزة المحاصرون من كل الجهات من مثل هذا القطار!

قوبل قطار تشرشل بمظاهرة كبيرة ضد الانتداب البريطاني على فلسطين. التقى تشرشل برئيس بلدية غزة وقادة آخرين، وقُدمت له قائمة المطالب التي قدمتها الجمعيات الإسلامية والمسيحية في حيفا. وقد ظن تشرشل وهربرت صموئيل، المندوب السامي البريطاني في فلسطين، أن المتظاهرين الذين اصطفوا محتجين؛ إنما كانوا يلوحون لهما مرحبين، بينما كان هؤلاء يرددون هتافات ضد تزايد توافد "المهاجرين" اليهود على فلسطين.

* * *

في القدس التقى الأمير عبد الله بوزير الدولة للمستعمرات، ونستون تشرشل، وعقدا عدة اجتماعات. اقترح تشرشل إنشاء شرق الأردن كإمارة، على أن يقر الأمير بالسيطرة البريطانية على إدارته ويكون مسؤولاً أمام المفوض السامي لفلسطين وشرق الأردن. جادل عبد الله بأنه ينبغي منحه السيطرة على كامل منطقة فلسطين الانتدابية المسؤولة أمام المفوض السامي. وبدلاً من ذلك، دعا إلى الاتحاد مع الأرض التي وعد بها شقيقه (العراق). رفض تشرشل كلا المطلبين.

وكان أن اتفق الأمير والوزير على أن يقوم الأمير بإدارة المنطقة الواقعة شرق نهر الأردن، لفترة تجريبية مدتها ستة أشهر، سيحصل خلالها على دعم بريطاني قدره 5000 جنيه إسترليني شهريا.

في 29 آذار/ مارس 1921، ألقى تشرشل خطاباً في الجامعة العبرية في القدس، كشف فيه أن قلبه كان مليئا بالتعاطف مع الصهيونية منذ اثني عشر عاما، منذ أن التقى يهود مانشستر. وقال: "مرة أخرى نعيد التأكيد على بركات الوطن القومي اليهودي للعالم كله، والجنس اليهودي وبريطانيا العظمى، ومن خلال اتخاذ الخطوات الصحيحة، ستتحول فلسطين إلى فردوس كما تنبأت الكتب المقدسة، أرض يتدفق فيها اللبن والعسل، حيث يجد فيها الذين يعانون من جميع الأعراق والأديان راحة من معاناتهم".