قضايا وآراء

قرارات الرئيس قيس سعيد ومستقبل التحول الديمقراطي في تونس

1300x600
أثارت القرارات الأخيرة للرئيس التونسي قيس سعيد جدلا سياسيا كبيرا، حيث رآها الكثيرون انقلابا على الدستور وعلى النظام السياسي في تونس والذي عكسه دستور 2014، فهو نظام برلماني يعطي صلاحيات كبيرة لرئيس الوزراء، ويعطي صلاحيات مختلفة لرئيس الجمهورية خاصة في ملف الشئون الخارجية والعدل والأمن، فإدارة السلطة التنفيذية مشتركة بين الموقعين الرئيسين.

وتشي القرارات الرئاسية بالرغبة في الاستحواذ على كل السلطات؛ سلطة تشكيل الوزارة دون معوقات من مجلس النواب، وسلطة تمثيل الادعاء العام، وإحالة من تم وصفهم بالفاسدين إلى القضاء، وتجميد عمل البرلمان، وتغييب أي نوع من الرقابة التشريعية على أداء السلطة التنفيذية.

والأغرب من ذلك هو القيام بحبس عدد من النواب لانتقادهم هذه القرارات مثل النائب ياسين العياري، وحظر التظاهر في ذات الوقت؛ ويبرر الرئيس وأنصاره ما يسميه بإشهار حربه ضد ما سمي بالفاسدين، دون توضيح من هم هؤلاء وما هي أدلته، مع تغييب دور القضاء في محاسبتهم. يشي هذا بأن شعار "لا يعلو صوت فوق صوت الرئيس" هو الذي يراد له أن يطبق في تونس، وتهميش الدستور، متجاهلا أنه هو الذي اختار الرئيس المشيشي لرئاسة الوزراء تشكلت دون الأخذ في الاعتبار التمثيل البرلماني المتنوع بموجب انتخابات 2019.

يوضح ذلك بأن روحا ديكتاتورية تلبست الرئيس الذي يعاني من غياب أي دعم سياسي حزبي، باستثناء بعض الأحزاب المعادية لحركة النهضة.

ورغم مجيء الرئيس سعيد من خلفية قانونية دستورية وليست سياسية، فإنه ببساطة انتهك أحكام الفصل 80 من الدستور التونسي الذي يعطي لرئيس الجمهورية حق اتخاذ إجراءات استثنائية في حالة حدوث خطر داهم على البلاد، بشرط استشارة رئيس الوزراء ورئيس مجلس النواب، وفي ظل انعقاد دائم لمجلس النواب، كما تمنع هذه الإجراءات من إقالة الوزارة.

ومع ذلك قام سعيد في 25 تموز/ يوليو الماضي بالإطاحة بمجلس النواب من خلال تجميده، وممارسة ضغوط على رئيس الوزراء لإجباره على الاستقالة.

من جهة أخرى، لم يوضح الرئيس التونسي ماهية هذا الخطر الداهم المفاجئ الذي تتعرض له البلاد، كما أنه جمّد مجلس النواب، أو حله فعليا، وجمد الحصانة البرلمانية لأعضائه، فبالتالي يعتبر إنهاء لانعقاده عمليا. ولكن في صياغة نظرية لا تظهر المخالفة الصريحة للدستور، مع ذلك فقد خالف الدستور الذي يشير إلى الانعقاد الدائم لمجلس النواب.

نعم تعيش تونس أزمة سياسية ظهرت بوضوح منذ شباط/ فبراير الماضي، في ظل الخلاف الشهير بين الرئيس ورئيس الوزراء المشيشي، الذي اختاره قيس سعيد بعيدا عن كل الزعامات السياسية والحزبية، والخلاف بين رئيس الجمهورية وراشد الغنوشي رئيس مجلس النواب ورئيس حركة النهضة.

بعد أن قام المشيشي بإقالة الوزراء القريبين من رئاسة الجمهورية، رفض قيس سعيد التصديق على الوزراء الجدد واستقبالهم لحلف اليمين، مشيرا إلى أن من بينهم متهمين بالفساد، دون إشارة إلى أسماء محددة.

من ناحية أخرى تعيش تونس في وضع اقتصادي سيئ، يعاني بسببه آلاف المواطنين من الفقر والبطالة. وبسبب جائحة كورونا زادت الهوة أكثر، في ظل إغلاق الأعمال والانكماش الاقتصادي ومحدودية السياحة، وهي المورد الأساسي في تونس.

لكن مع ذلك كان من الممكن الوصول إلى حل لهذه الأزمة السياسية بعيدا عن هذه القرارات التي تمثل انقلابا على النظام السياسي والتطور الديمقراطي في تونس، والتي ينظر إليها الكثيرون بأنها التجربة الوحيدة الناجحة من دول الربيع العربي. وهذا ما يحدث في أماكن أخرى تتبنى النظام البرلماني، وهو الأمر الذي حدث في الكيان الصهيوني على سبيل المثال من تنظيم أربع انتخابات برلمانية في فترة وجيزة بسبب الصراع الحزبي والسياسي بين الأحزاب المختلفة.

مشكلة قيس سعيد أنه تم انتخابه في مفاجأة للكثيرين في انتخابات 2019، والتي جاءت نتيجتها تعبيرا عن ضيق الشارع التونسي بالنخبة السياسية والحزبية الحالية والأوضاع الاقتصادية المتردية، بدون داعم حزبي أو سياسي من القوى الرئيسية في تونس.

ويشعر سعيد بأن صلاحياته محدودة دستوريا، ويسعى لتوسيعها بتقديم تفسيرات دستورية مختلف عليها، في ظل عدم تشكيل المحكمة الدستورية العليا التي كان يشير دستور 2014 إلى تشكيلها خلال سنة من صدور القانون الخاص بها، إلا أن عقبات حالت دون تشكيلها، خاصة أن اختيار أعضائها الـ12 يتم من خلال أطراف ثلاثة: رئيس الجمهورية، ومجلس النواب، والمجلس الأعلى للقضاء. وفشل مجلس النواب في اختيار حصته بسبب الخلافات السياسية والحزبية، كما لم يقم رئيس الجمهورية باختيار حصته تلك، ورفض تعديل قانون المحكمة الدستورية الذي يضع بعض التسهيلات لتشكيل المحكمة لتخرج إلى النور، والتي ستكون عليها مسؤولية في تفسير مراجعة الرئيس وأحكام المحاكم.

وبالرغم من أن عددا من الأحزاب السياسية المهمة في تونس أدانت قرارات الرئيس معتبرة إياها انقلابا على الدستور، مثل حركة النهضة بالطبع، وبعض الجمعيات مثل جمعية القضاة وجمعية القانون الدستوري، إلا أن المفارقة أن بعض القوى المهمة في تونس مثل اتحاد الشغل التونسي؛ لم تدن القرارات ولم تؤيدها كذلك، وحاولت أخذ موقع وسط لتستطيع لعب دور في المستقبل السياسي لتونس، مؤكدة على أن تكون هذه القرارات مؤقتة وألا تتجاوز مدة الشهر.

كما لعبت المكايدة السياسية من حركة النهضة دورها في تأييد عدد من الأحزاب القومية، مثل حركة الشعب وغيرها، هذه القرارات، رغم أنه لولا القانون الانتخابي الذي أجريت وفقا له الانتخابات التشريعية في 2019؛ لم يكن لهذه القوى وجود في المجلس الحالي الذي يعطي مساحة للقوائم والأحزاب في التمثيل السياسي داخل البرلمان.

ورغم أن حركة النهضة لا يتعدى تمثيلها 52 عضوا في مجلس النواب، أي أقل من 25 في المائة من أعضاء البرلمان الذي يضم تمثيلا سياسيا متنوعا، وليس لها تمثيل وزاري داخل حكومة المشيشي، وأن من اختار المشيشي هو قيس سعيد نفسه، كما اختار سلفه الفخفاخ أيضا، ورغم أن الحركة تتحمل مسئوليتها عن الوضع السياسي الذي صار إليه الحال في تونس، إلا أن ذلك ليس مبررا لتوجه قيس سعيد الجديد، والذي اختار القفز خطوة إلى المجهول وليضع الكل أمام مشهد سياسي مختلف، معتبرا أنه يسبق الوقت بتجميد عمل البرلمان، والإيحاء بأنه يخوض معركة ضد الفساد، لتكون مبررا له للاستئثار بكل السلطات دون مناكفة من أحد.

وبالتالي ستصبح تونس أمام عدد من السيناريوهات:

أولها: استمرار الوضع القائم، باستمرار الرئيس التونسي قيس سعيد في منهجه بتهميش السلطات الأخرى والعمل على الاستئثار بكافة الصلاحيات، واستمرار حربة ضد من سُمّوا بـ"الفاسدين" أو خصومه السياسيين، في ظل تشجيع ومباركة عدد من الأنظمة العربية التي لها موقف من جماعة الإخوان مثل النظامين المصري والإماراتي.

وهذا قد يؤدي إلى معارضة شعبية خاصة من أنصار حركة النهضة والأحزاب المتحالفة معها، الأمر الذي قد يؤدي إلى الإطاحة بالحقوق والحريات، أو تمرير تشريعات تؤدي إلى تقييد هذه الحقوق. وفي ظل عدم تغيير الوضع الاقتصادي وتحسين حالة المواطن، فقد يؤدي ذلك لانفجارات اجتماعية متكررة تدخل تونس في متاهات سياسية.

ثانيها: تململ الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا من الوضع السياسي، والتأكيد على مخاوفها من تغيير الصيغة الديمقراطية في تونس، وهو ما قد يؤدي لانتهاء هذه الإجراءات الاستثنائية في خلال شهر، الأمر الذي تسانده بعض القوى النقابية والمدنية التي تتمتع بثقل في الشارع التونسي مثل اتحاد الشغل، ومنظمات المجتمع المدني.

ثالثها، أن يتم الاتفاق على صفقة سياسية لإعادة دور مجلس النواب، منها القيام بتعديلات على الدستور باتجاه صلاحيات أكبر للرئيس، والتوجه للنظام الرئاسي قليلا، في نفس الوقت قد نشهد تغيير النظام الانتخابي بما يكفل التقليل من التمثيل السياسي للأحزاب الكثيرة من تونس، بمبرر أنه يؤدي إلى شلل النظام السياسي والاتفاق على التشكيل الوزاري.