يبذل صنّاع القرار في عواصم الدول الأكثر إنتاجا للنفط على مستوى العالم؛ جهدا مضنيا في سبيل إنقاذ الذهب الأسود من هوته الحالية وأسعار متدنية تحت خطّ الثلاثين دولارا، حيث إنه على الرغم من اتفاق تم التوصل إليه بين منظمة الدول المنتجة للنفط (
أوبك) من جهة، وحلفاء مستقلين أبرزهم روسيا والمكسيك من جهة أخرى، إلا أنّ منعطفا حادا سيسلكه سوق
النفط لمدّة زمنية قد تُقدّر بشهرين وأكثر، بناءً على معطيات سنطرح أبرزها لاحقا.
محادثات طويلة استهلكتها المباحثات الروسية السعودية في سبيل إنجاح اتفاق فَرضت بنوده في بادئ الأمر خفضا عالميا لإنتاج النفط بنحو 10 ملايين برميل يوميا، ابتداء من 1 أيار/ مايو 2020 ولمدة تبلغ شهرين تنتهي في 30 حزيران/ يونيو 2020. وخلال مدة الأشهر الستة التالية بداية من 1 تموز/ يوليو إلى 31 كانون الأول/ ديسمبر 2020 سيكون مقدار التخفيض الإجمالي المتفق عليه، هو ثمانية ملايين برميل يوميا، ويتبع ذلك تخفيض قدره ستة ملايين برميل يوميا لمدة 16 شهرا، تبدأ من 1 كانون الثاني/ يناير 2021 وحتى 30 نيسان/ أبريل 2022.
بنودُ تسوية "أوبك+" في مواجهة الأزمة لم تكن كافية بحسب محللين لرصد الخفض المتوقع، إذ إن الأرقام المذكورة أعلاه صححها كلٌ من وزير
الطاقة السعودية والرئيس الأمريكي دونالد ترامب، إذ أشار المسؤولان إلى أن التخفيضات الفعلية لإمدادات النفط العالمية، ستبلغ نحو 19.5 مليون برميل يوميا، طبعا مع الأخذ في الاعتبار اتفاق الخفض الذي أبرمته "أوبك+"، وتعهدات من دول أخرى أبرزها دول مجموعة العشرين، إضافة إلى مشتريات النفط المخصصة للاحتياطيات.
الاستهلاك العالمي من النفط
لكن، في مراجعة لبعض الأبحاث حول الاستهلاك العالمي للنفط والنسبة التي سيصبح عليها المعروض بعد خفض الإنتاج، وإذا ما قارنّا ميزان العرض والطلب، فسنجد بلا شكّ تساؤلات جادّة حول مدى فاعلية اتفاق "أوبك+" في حل المعضلة الحالية وإنقاذ الأسواق.
تشير تقديرات وكالة الطاقة العالمية إلى أنّ متوسط الطلب العالمي على النفط لعام 2019 قد بلغ 100.3 مليون برميل يوميا، كما كان من المتوقع أن يبلغ 101.5 مليون برميل يوميا العام الحالي، بنمو يصل إلى 1.2 مليون برميل يوميا.
مستقبل النفط بين العرض والطلب
توقعات المنظمات العالمية لنمو قطاع النفط والاستهلاك العالمي أتت بمجملها قبل وقوع الجائحة العالمية المعروفة بفيروس كورونا أو كوفيد-19، حيث ساهم التفشي الكبير للوباء بتقييد الاقتصاد العالمي وانكماشه، وهو ما أنتج تراجعا في الطلب على النفط تجاوز بحسب تقارير حدّ الـ30 في المئة، ذلك ساهم بطبيعة الحال بتكبيد النفط خسائر فادحة وهبوطا في
أسعاره حتى مستوى 23 دولارا لبرميل الخام، وسط تصاعد أعداد الإصابات بالفيروس وإجراءات الدول المتخذة من عزل وحظر تجول وإغلاق الحدود وإيقاف العجلة الحياتية على حدّ سواء.
على الضفة الأخرى، يتوقع منتجو النفط العالميون بقيادة أوبك، خفضا للإنتاج بحوالي 20 مليون برميل يوميا من أصل نحو 100 مليون برميل، أي ما يعادل 20 في المئة تقريبا من الإمدادات اليومية العالمية، وهو ما سيتم من خلال مزيج من تخفيضات جرى التعهد بها، وتراجعات إنتاجية بسبب ضعف النشاط الاقتصادي، ومشتريات إلى الاحتياطات النفطية.
من هنا يمكن الملاحظة حسابيا للخلل الحاصل في التوازن بين المعروض من النفط والاستهلاك العالمي، الذي قد يتجاوز 10 ملايين برميل يوميا، بعد بدء المنتجين العالميين عملية تخفيضهم التاريخية، مما سيضع العواصم الكبرى بعد مرحلة خفض الإنتاج الأولى، أمام تحدي التوصل لاتفاق آخر وخفض أكبر يتلاءم مع الاستهلاك العالمي.
ما العقبات الأخرى التي يواجهها النفط؟
إن سوق الذهب الأسود، على الرغم مما سيعانيه من خللٍ في ميزان العرض والطلب، يترصد به منعطفٌ آخر خطير، وهو تضخّم المعروض من الإنتاج على مدى ثلاثة أشهر، حيث إنّ حرب الأسعار التي بدأت في التاسع من آذار/ مارس المنصرم، ستترك خلفها ورثة ثقيلة على السوق النفطي، إذ تزامن انهيار اتفاق "أوبك+" مع إعلان الدول المنتجة الكبرى تعبئة وزيادة في الإنتاج وسط تراجع الطلب والاستهلاك العالمي.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن العجز قد وصل إلى نحو 30 مليون برميل يوميا، أي بما يعادل 2.43 مليار برميل حتى أواخر الشهر الجاري.
خفض أكبر ومعجزة
على صعيد الخفض الأكبر وبناء على ما سبق، فإنه يتحتمّ على صناع القرار في الدول المنتجة للبترول البحث بجدية عن اتفاق أكثر فاعلية، قد ينقذ ما يمكن إنقاذه من اتزان في سوق النفط الآخذ بالتدهور. والتدهور هنا لا مفرّ منه حتى ولو سلّمنا جدلا بالتزام الدول المستقلة في الخفض المقرر بداية شهر أيار/ مايو.
أما على صعيد المعجزة وفي سياق ما يدور به العالم من صراع مع الأزمة الصحية الحالية وتداعياتها، فإن سوق النفط بحاجة ملحة لمعجزة تخرجه من دائرة الخطر المتربص به، جرّاء انعدام أي بصيص أمل بانحسار فيروس كورونا على المدى الزمني القريب، وتعافي الأسواق العالمية وعودة استهلاك البترول إلى مساره الطبيعي.