ألقى مستشار الرئيس الأمريكي دونالد
ترامب للاستراتيجيات خطابا عام 2014، قال فيه: "لو لم نتحالف معا كشركاء مع الآخرين في الدول الأخرى، فإن النزاع الحالي سيكبر"، وكان يتحدث عما يراه نزاعا بين القيم "اليهومسيحية" و"الفاشية الإسلامية".
وكان بانون في هذا الخطاب، الذي وجهه لمؤتمر عقد في الفاتيكان، على ما يبدو يدعو المسيحيين المحافظين- التقليديين من الألوان كلها للتعاون معا في تحالف لشن هجوم ضد الإسلام.
ويعلق كل من الباحث في مركز دراسات الأديان في جامعة كاليفورنيا دانيال ستينمتز جينكنز، وطالبة الدكتوراة في جامعة كولومبيا بريتاني فيفر نوبل، في مقال نشرته مجلة "ذا أتلانتك"، جاء فيه أن "الحديث عن حرب الحضارات التي تلوح بالأفق اثبت استمرارية، حيث شهدت السنوات الماضية تعاونا بين المجتمع المسيحي الأمريكي والمجتمع الأرثوذكسي الروسي، اللذين اجتمعا على ندب تراجع القيم التقليدية، وواحد من هذه الأمثلة هو اجتماع عقد بين رئيس الكنيسة
الأرثوذكسية الروسي وفرانكلين نجل الداعية المسيحي المتحمس بيلي غراهام، وتحسر أسقف الكنيسة الروسية على تراجع الغرب عن القيم المشتركة بين القيم المسيحية، التي تعد (حجر الأساس للحضارة").
ويناقش الكاتبان قائلين إنه "حتى لو التقى قادة المسيحية للتعاون على حرب الإسلام، كما يرغب بانون، فإن هناك مشكلة داخلية في المسيحية تتعلق بمسألة الطرف الذي يمثل منها القيم التقليدية المسيحية، فاللاعبان الرئيسيان في هذه الحرب، المسيحيون الأمريكيون التقليديون، الذين يضمون المحافظين الكاثوليك، مثل بانون، بالإضافة إلى الإنجليين مثل غراهام من جهة والروس الأرثوذكس، والمتحدين لمواجهة الإسلام من جهة أخرى، لكن داخل هذا الموقف المتضامن خلافا مدفونا حول معنى المسيحية ذاتها".
ويقول الكاتبان: "بعبارات بانون، فإن الخطأ الكبير لزيادة النسل هو أن الجيل الجديد رفض القيم التقليدية (اليهومسيحية)، التي آمن بها آباؤهم، وهو ما يعده جريمة تاريخية؛ لأن هذه القيم، بحسب رأيه، هي التي ساعدت الغرب الأوروبي والولايات المتحدة على هزيمة الفاشية الأوروبية، وبالتالي خلق (الرأسمالية المتنورة)، التي جعلت الولايات قوة عظيمة في مرحلة ما بعد الحرب العالمية".
ويعلق الكاتبان في مقالهما، الذي ترجمته "عربي21"، قائلين إن "الاهتمام الإعلامي الكبير به، والمقابلات العديدة والخطابات التي ألقاها، تظهر رجلا يؤمن بقوة بأن العالم يقف على حافة الكارثة، وأنه دون القيم اليهومسيحية فلن تنتصر الثقافة الأمريكية، ولن تستطيع الرأسمالية المتنورة العمل، ولا يمكن في هذه الحالة هزيمة (الفاشية الإسلامية").
ويشير الكاتبان إلى أن "بانون يستحضر عند هذه النقطة (التقليدية الروسية)، التي يدعو إليها الرئيس الروسي فلاديمير
بوتين، ومن المهم فهم لماذا يقوم بهذا، ففي خطاب الفاتيكان عام 2014 كان بانون واضحا بأن بوتين (يتوجه بشكل كبير للمحافظين الأمريكيين، وأن رسالته هي عن القيم التقليدية)، كما أظهر مقال نشر قبل فترة في (ذا أتلانتك)، وبشكل مقنع إيمان بوتين بعد عودته للمنصب الرئاسي عام 2012، أن هناك (قطاعا كبيرا من الغربيين يمقتون الانثوية وحقوق المثليين)، ولهذا انتهز الفرصة وحول نفسه إلى (زعيم عالمي للمحافظين)، وقدم رؤيته التقليدية بديلا عن الغرب المنفتح الذي تجنبه دائما".
ويستدرك الكاتبان بأن "بانون أشار إلى أن بوتين ليس مهتما في الحقيقة بالمحافظة قدر اهتمامه بتغيير نظرة المفاهيم الغربية عن
روسيا، ولهدف واحد ووحيد، (ففي نهاية الأمرـ أعتقد (بانون) أن بوتين وحاشيته يمثلون طبقة لصوص، وهم سلطة إمبريالية ترغب بالتوسع)، وبناء عليه يرى بانون أنه يجب التعامل مع بوتين بنوع كبير من الشك، وآمن أن الجماعات المحافظة في الولايات المتحدة، مثل تلك الجماعات المعادية للمثليين (المجلس العالمي للأسر)، تتعرض للخداع من بوتين".
ويلفت الكاتبان إلى أنه "بالإضافة إلى شك بانون المتعلق ببوتين، فإنه يفرق بين القيم الـ(يهومسيحية) التقليدية وتفكير ألكسندر دوغين، الذي يعتقد أنه وراء الحركة التقليدية الروسية، فعلى خلاف المفهوم الرئيسي للمحافظة الاجتماعية الأمريكية يتعامل دوغين مع معاداة العولمة ومعاداة أمريكا على أنها تعبيرات إسلامية، تتفق بشكل كبير مع تمييزه بين علامة التقليدية التي يقدمها، وفي الحقيقة يرى دوغين أن المحافظة
الإنجليكانية الأمريكية ما هي إلا تشويه للمسيحية التاريخية وشيفرة للنيوليبرالية الرأسمالية".
ويبين الكاتبان أنه "على خلاف النظرة السياسة لبانون، فإن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، دعا إلى تعاون طويل المدى بين الغرب وروسيا، أو ما أسماها "الشراكة الحضارية"؛ لمواجهة المشكلات الجيوسياسية، خاصة تنظيم الدولة، وقال: (نؤمن بوجوب أن يقوم التضامن الإنساني العالمي على قواعد أخلاقية نابعة من القيم التقليدية، التي هي بالضرورة عامة بين أديان العالم كلها)، وأضاف: (أريد لفت انتباهكم للبيان المشترك بين بطريرك موسكو وعموم روسيا كريل والبابا فرنسيس، حيث أكدا فيه على دعم العائلة باعتبارها المركز الطبيعي لحياة الفرد والمجتمع)، بالإضافة إلى أن القيم التي تدعم فكرة روسيا في الشرق الأوسط هي بالنسبة للافروف أساس الحضارة المسيحية التي يمثلها كل من البابا والبطريرك".
وينوه الكاتبان إلى أنه "في الوقت ذاته قامت الكنيسة الأرثوذكسية، التي تعد اللاعب الرئيسي في روسيا، بالتأثير في القوانين المؤيدة للعائلة، فقيم العائلة ليست مجرد مبادئ في روسيا، بل هي حجر الأساس لزيادة النسل بعد نهاية الاتحاد السوفيتي، حيث تراجعت نسبة الزيادة السكانية وتدفق المهاجرين، وشرعت الحكومة عددا من القوانين، وبدأت خططا لمواجهة التراجع السكاني، وتحدثت في عام 2016 عن زيادة في الخصوبة بنسبة 1.8%، وهي نسبة أعلى من المسجلة في الدول الأوروبية كلها تقريبا، وفي الوقت الذي قدمت فيه الحكومة مشروعها لزيادة عدد السكان من خلال مصطلحات وطنية، فإن الكنيسة الأرثوذكسية وبقية الجماعات المحافظة تتعامل مع انخفاض معدلات الولادة على أنه تعرض لانهيار العائلة النووية، وبالضرورة المجتمع، وهي مشكلة تعاني منها المجتمعات الغربية، وهي صورة عن تراجعها، وتبنت الدولة موقف الكنيسة الأرثوذكسية لتحدي التقدمية الغربية والرسالة يتردد صداها داخل الدوائر الأمريكية المحافظة، مثل فرانكلين غراهام".
ويقول الكاتبان: "هنا وجدت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية والمتطرفون الروس حلفاء في الغرب، خاصة بين الإنجلكيين: ففي المعركة الدولية من أجل العائلة التقليدية، وقع على عاتقهم الترويج للزواج التقليدي، وإنجاب الأطفال، والتبني كونه وسيلة من وسائل الدفاع عن (الحضارة").
ويشير الكاتبان إلى "ما كتبته ماشا غاسين قبل فترة عن الكيفية التي وجد فيها المجلس العالمي للأسرة مستمعين متحسمين له في عالم ما بعد الاتحاد السوفييتي السابق (خاصة الجمهورية الروسية وجورجيا)، حيث تعاون المحافظون الأثرياء للدعوة والدفاع عن العائلة التقليدية والقيام بشكل تدريجي بإلغاء القوانين المؤيدة لحقوق المثليين، وقامت الباحثة كريستينا ستوكل برسم صورة عن الطريقة التي قامت بها الكنيسة الأرثوذكسية الروسية بالانخراط في القضايا المتعلقة بالحرية الدينية، ولاحظت ستوكل أن الجهود التي قادتها روسيا لا تشبه الأجندات التي تقوم المنظمات الدولية بالدفاع عنها وعن مجموعة من القيم المحددة، ومحاولة استصدار تشريعات داعمة لها، فالفرق هنا هو أننا نرى ظهور تحالفات مسيحية تقليدية وليس تحالفات دولية تقدمية".
ويفيد الكاتبان بأنه "إضافة إلى وجود خلافات في وجهات النظر في مناطق أخرى، فإن هناك ناخبين أمريكيين ربطوا في معركتهم المعتقد الأخلاقي بالحرية الاقتصادية، ورفضوا التعامل مع رعاة المثليين، أو دفع الضريبة لدعم سياسات تحديد النسل، وفي الماضي كان المحافظون يعارضون السياسات التقدمية ويطعنون في شرعيتها، إلا أنهم اليوم تحولوا لمعارضتها تحت راية الحرية الدينية".
ويورد الكاتبان أن "المحافظين الروس بقيادة الكنيسة الأرثوذكسية، يؤطرون الحاجة للأخلاقية المحافظة وقيم العائلة من خلال نوع آخر من الحرية، وهنا يؤكد القادة الأخلاقيون الروس بأن ما يدعون إليه هو الحرية بعينها، الحرية للتمسك بالتقاليد لا الحرية الشمولية التي يؤمن بها الرأسماليون ودعاة التشاركية في الغرب، وبعبارات الأسقف هيلاريون ألفييف، فإن الغرب (يقدم الحرية من مبدأ أخلاقي ومن المبادئ الإنسانية المشتركة، ومن مسؤولية أفعال كل شخص تجاه الآخر، وننظر لهذه الحرية بأنها مدمرة وعدوانية، فبدلا من منظور شعور الناس تجاه بعضهم البعض، فهي تدعو إلى إباحة كل شيء").
ويبين الكاتبان أن ألفييف أطر المعركة هذه باعتبارها واحدة يجب محاربتها من خلال تحالف بين القوى المسيحية المحافظة، وهي معركة لم يعد فيها هذا الطرف يعتمد أو يتوقع من إخوانهم الليبراليين الوقوف على الجانب الصحيح من التاريخ، ولهذا فإن معركتهم -أي المحافظين- هي من أجل الحضارة الغربية، وعندما يتعلق الأمر بالقيم الاجتماعية، فإن الكنيسة الأرثوذكسية الروسية تقف إلى جانبهم".
ويتساءل الكاتبان: "هل يستطيع المحافظون الأمريكيون تبني الموقف ذاته؟ صحيح أن بانون يمثل العلامة الخاصة من الكاثوليكية المحافظة في البيت الأبيض، لكن هل يمكن للإنجيلية الأمريكية الاعتماد على دونالد ترامب ليمثل مصالحها، أم أنه يجب عليها البحث أبعد من مؤسسات الدولة لتأكيد التقليدية الأخلاقية؟".
ويعاود الكاتبان التساؤل حول طبيعة التحالف بين المسيحية الأرثوذكسية الروسية والقوى الأمريكية الإنجيلية، وفيما إن كان الطرفان سيتجاوزان خلافاتهما ونظرة كل منهما للآخر باعتباره زنديقا.
ويذهب الكاتبان إلى أن "إمكانية ظهور مقاومة عالمية للقيم التي ظلت علامة على الغرب التقدمي تطرح أسئلة حول من سيقود أو سيتولى المقاومة، وفي الوقت الذي توجد فيه علاقة بين ترامب وبانون والأخير ودوغين، فإنه لا يوجد إطار اجتماعي وسياسي وأيديولوجي واضح يربط الأمريكيين الإنجيليين والكنيسة الأرثوذكسية في روسيا، بل على العكس، فإن الفجوة بين المحافظين والمتطرفين من اليمين تتوسع بشكل متزايد، وهناك الكثير من المتحمسين الإنجيليين الشباب ممن لا يعدون الجماعات الهامشية المحافظة جزءا من تيارهم، بالإضافة إلى أن المواضيع التي تقلقهم، مثل معاداة الإسلام والهجرة، لا تلقى اهتماما داخل القطاعات المحافظة، بقدر ما تهتم هذه بقيم العائلة والمبادئ التوراتية، التي تعد المبادئ الإرشادية للتشريع".
ويخلص الكاتبان إلى القول: "لن يتغير الحال أو تردم الفجوة بين الطرفين، إلا من خلال ظهور قائد قوي وجذاب، ومن المثير للاهتمام أن هناك شخصا يمكن أن يؤدي هذا الدور، وهو البابا فرانسيس، وهو متحدث صريح ضد القوميات والمشاعر المعادية للإسلام، وبالنسبة لألفييف فهو يحمل رسالة قوية عن المسيحية التقليدية، لكن الأمريكيين الإنجيليين لا يرون في رجل يرتدي زيا مختلفا ويسكن قادته في موسكو مثالا لهم، وفي ظل الفجوة الواسعة سيظل ترامب يواصل الزعم بأنه يمثل النزعة التقليدية الجديدة".