عندما اجتمع زعماء
تركيا وروسيا وإيران في طهران في أيلول/ سبتمبر الماضي/
لبحث مسألة إدلب، لم ينجح الرؤساء الثلاثة في التوصل إلى اتفاق يحول دون شن هجوم للنظام السوري وحلفائه على المحافظة لاستعادتها من المعارضة، لكنّ المفاجأة كانت حينها أن التّفاهم الذي لم يتحقق في طهران، حصل بعد أسابيع قليلة في قمة ثنائية بسوتشي، بين الرئيسين رجب طيب أردوغان وفلاديمير بوتين.
تعكس هذه المفارقة حجم التناقضات في المصالح داخل هذا التفاهم القائم منذ أكثر من عامين على إدارة التناقضات بين أطرافه بالدرجة الأولى؛ كونه شكّل حاجة مُلحه لأطرافه لتحقيق مكاسب مختلفة. تركيا مثلاً، استفادت منه لأنّه منحها دوراً أكثر فعالية في
سوريا، بعدما وجدت نفسها في مواجهة مع حليفها الولايات المتحدة. وروسيا استفادت بدورها لأنه جمّد الصراع بين النظام والمعارضة في الجبهة الشمالية، وحوّل القدرة القتالية لخصوم الأسد من مواجهته إلى الانخراط مع تركيا ضد المشروع الكردي.
أما
إيران، فكانت خسائرها من هذا التفاهم أكبر من مكاسبها. فهو من جانب، شكّل عائقاً - ولا زال - أمام حسم عسكري للصراع كانت تطمح إليه مع حليفها الأسد. ومن جانب آخر، منح تركيا دوراً أكثر فعالية في المعادلة السورية على حساب طهران. لطالما نظر الإيرانيون بريبة إلى أي اجتماع تركي روسي من دونها، وشعروا أن موسكو تذهب بعيداً في تلبية المطالب التركية، لكنّ الحسابات الروسية تختلف عن الحسابات الإيرانية. فبوتين يجد في الدور التركي عاملاً مساهماً في نجاح تدخله العسكري في سوريا، ومتمسك بهذا الدور حتى يكتمل هذا النجاح. وسعى منذ تفاهم أستانة (الذي هو أكبر من اتفاق وأقل من تحالف) إلى تحقيق أمرين أساسيين، الأول إطالة أمده قدر الإمكان للحفاظ على الهدنة بين النظام والمعارضة، والثاني إدارة التناقضات الإيرانية التركية داخل التفاهم والحيلولة دون انهياره، لما لذلك من تداعيات سلبية على الجهود الروسية.
في أعقاب الانعطافة التركية تجاه موسكو، بعد حادثة إسقاط المقاتلة الروسية في 2016، ركّزت أنقرة في استراتيجيتها السورية على مواجهة المشروع الكردي الانفصالي على حدودها الجنوبية، لكنّها في الوقت نفسه لم تُسقط من حساباتها ملف التسوية السياسية، حيث سعت لضمان الحد الأقصى من تطلّعاتها مع حلفائها في المعارضة من هذه التسوية. وقد استثمرت في تصاعد دورها العسكري في سوريا لإجبار موسكو وطهران على إظهار الجدّية في التسوية، لكنّ هذا الأمر انطوى على بعض مخاطر، ونُظر إليه في بعض الأحيان من قبل موسكو وطهران على أنه محاولة تركية لتحقيق مكاسب خارج الإطار المُتفاهم عليه. ما يجمع تركيا وإيران في سوريا كما العراق هو التقاء مصلحتهما في الملف الكردي فقط، بينما ما يجمع تركيا وروسيا أبعد من القضية الكردية ومن سوريا أيضا.
قرار ترامب المفاجئ بسحب القوات الأمريكية من سوريا كان خبرا جيدا لأردوغان وبوتين، وحتى خامنئي، لكنه أربك حسابات الثلاثة لأنهم لم يتفاهموا مسبقا على إدارة تداعياته.. أربك أردوغان لأنه انتزع من ترامب أكثر مما فاوض عليه، وما كان يتوقّعه أصلاً، وفتح مساحة سورية أكبر كثيرا مما توقعت أنقرة أن تشغلها قبل القرار. فهي غير قادرة (وربما ليست راغبة) في السيطرة على كل الأراضي التي سينسحب منها الأمريكيون، بالنظر إلى حجمها الذي يُشكل نحو 20 في المئة من مساحة سوريا. والقرار أربك موسكو أيضاً كونها لم تتحضر مسبقا له.. وطهران وجدت في القرار فرصة لدقّ إسفين بين موسكو وأنقرة، لكنّ بوتين لا يبدو في عجلة من أمره، وهو الذي أثبت سابقاً قدرته على ضبط إيقاع التناقضات داخل التفاهم الثلاثي بهدوء مُتقن.
لا يُحبذ بوتين حالياً أزمة مبكرة مع أردوغان، ويُفضل تفاهماً معه يتيح تقاسم السيطرة على الورثة الأمريكية، لكنّه لا يرغب في منحه أوراق قوة إضافية تقوي الموقف التركي في ملف التسوية السياسية. فالرئيس الروسي لا يميل إلى استفزاز الأتراك، على عكس إيران التى تسعى جاهدة للحدّ من مكاسبهم. والمصلحة المشتركة تفرض على تركيا وروسيا الاتفاق على معالم شمال شرق سوريا ما بعد
الانسحاب الأمريكي، لكنّ أي اتّفاق لن يعني سوى كسب المزيد من الوقت وتأجيلاً إضافياً لاستحقاق صعب لا مفرّ منه، هو مصير التواجد التركي في سوريا.
لقد أثبت تفاهم أستانة قدرته على الصمود حتى اليوم، رغم التناقضات الكبيرة داخله والمنعطفات العديدة التي مرّ بها، لكنّ مغادرة الأمريكيين تضع هذا التفاهم على المحك. وإذا لم تُحسن الأطراف الثلاثة إدارة المرحلة الجديدة باستيعاب مصالح بعضها البعض، فإن التفاهم قد ينفجر بعدما ظل يُجاهد لأكثر من عامين للبقاء على قيد الحياة.