لم يكن مستبعداً أن تصل جهود الوساطة التي قادها أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح خلال الأيام الماضية وما صاحبتها من مساع إقليمية وتركية لنزع فتيل التوتّر الخليجي الحالي إلى طريق مسدود.
الفشل الحتمي لا يعود بالتأكيد إلى عدم كفاءة الأمير الكويتي الذي يتمتّع بحنكة دبلوماسية استطاعت انتشال الخليج من مستنقع أزمات متعدّدة في السابق. ففي أزمة سحب السفراء من الدوحة قبل ثلاث سنوات نجح الشيخ الصباح في إعادة الأمور إلى نصابها بين العواصم الخليجية، لكنّ ذلك لم يكن ليتحقق من دون دور الولايات المتّحدة الأمريكية صاحبة النفوذ الأوسع في المنطقة وضابطة الإيقاع في الخليج والإقليم على مدى عقود خلت.
الخليج اليوم يختلف عن خليج ما قبل عام 2017، لأن أمريكا اليوم تختلف عن أمريكا التي عرفناها قبل هذا العام. هذا التحوّل يوشك أن يُغيّر من وجه النظام الإقليمي والدولي الذي رسمته مرحلة ما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وغزو أفغانستان والعراق، وهو يساهم في بروز صراع إرادات قديم جديد بين الدولة العميقة في العالم العربي وجماعات الإسلام السياسي.
بقي هذا الصراع تحت السيطرة لسنين بفضل ضابط الإيقاع الأمريكي الذي نجح في منع تفجّره عبر التحالف مع الدولة العميقة من جهة والتودّد إلى التيّار الإسلامي الذي تتزعّمه حركة الإخوان.
وساهمت هذه المعادلة في منع انقضاض الدولة العربية العميقة على هذا التيار ومنحه متنفّساً يحول دون تبنّيه نهج العنف، لكنّها فشلت مع تيّارات إسلامية أخرى تبنّت خيارات أكثر راديكالية كالقاعدة وداعش.
قطر احتضنت الإخوان المسلمين أو كُلّفت باحتضانها إلى جانب حركات أخرى على مستوى العالم الإسلامي كطالبان التي فتحت مكتباً لها في الدّوحة في 2013 تمهيداً لإيجاد حل في أفغانستان يُخرج واشنطن من مستنقعها هناك.
الحال نفسه ينطبق على حماس التي حظيت باحتضان قطري بعد فوزها في انتخابات 2006. وقد أراد الأمريكيون من وراء ذلك تسهيل مهمّة التفاوض معها في المكاتب بعدما أظهرت الحركة أنها تشكّل نبض غالبية الفلسطينيين.
وشاركت مصر إلى جانب قطر في لعب هذا الدور، لكنّ المصريين اليوم يسعون إلى التفرّد بهذه الورقة الثمينة التي تُشكّل مربط الفرس في الصراع الشرق أوسطي، إذ أن خروج قادة حماس من الدّوحة – لو حصل – سيدفع الحركة إلى الحضن المصري بشكل أكبر بحكم الجغرافيا.
ما يجري في واشنطن من تضارب في البيانات إزاء أزمة الخليج بين طرفين يمثّل أحدهما الدولة الأمريكية العميقة كالبنتاغون والخارجية، والآخر البيت الأبيض الذي يُعبّر عن الوجه الجديد للولايات المتّحدة على السّاحة الدولية، أصاب التوازن القائم في الشرق الأوسط بحالة من الخلل ربّما تُفجّر الأوضاع أكثر مما هي عليه الآن، وهو ينسحب على الخليج بطبيعة الحال. وكلّما احتدم الصراع في واشنطن كلّما تعقّدت الأمور في الخليج والمنطقة.
ترامب يسعى لفرض رؤيته على المؤسّستين العسكرية والسياسية. ففي الخطاب الأخير له في التاسع من الشهر الجاري، ذكر أنّه دعا القادة العسكريين والسياسيين إلى التركيز على الطلب من قطر وقف دعمها الطويل للإرهاب وفق تعبيره، وهذا مؤشّر جلّي على حجم الصراع داخل إدارته.
توجد في قطر قاعدة العديد الأمريكية قبل 17 سنة، وهي من كبريات القواعد الأمريكية في المنطقة، وإذا كانت الدوحة تدعم فعلاً منذ زمن طويل حركات إرهابية كما يقول ترامب، فلماذا سمحت واشنطن بذلك وهي التي تضطّلع على كل شاردة وواردة في هذا البلد طيلة هذه السنوات؟ هل يصدّق عاقل أن دولة ما تُصنّف على أنها تنضوي تحت العباءة الأمريكية تتجرأ على دعم الإخوان المسلمين وحماس وطالبان من دون موافقة أمريكية أو حتى بضوء أخضر أمريكي؟ وهل يمكن لهذه الدّولة أن تنتهج سياسة مخالفة لواشنطن وفيها قاعدة قاد منها الأمريكيون عمليتي غزو أفغانستان والعراق ويقودون منها حالياً الحرب على داعش إلى جانب قواعد في دول أخرى كتركيا التي لا يُستبعد أن تحظى بنفس الاتّهامات لقطر في المستقبل؟
أزمة الخليج تُظهر أن الخلاف لا يرتبط بمساعي الوحدة في مواجهة إيران ولا لإيجاد حلول لأزمات سوريا والعراق وليبيا ومصر وغيرها من الدول العربية المضطّربة، بل يتعلّق بأزمة أشد في واشنطن. التحوّل الحاصل في صراع الإرادات داخل أمريكا ينعكس بدوره تحوّلا في صراع الإرادات على مستوى المنطقة. ما يُعزّز هذه النظرية أن العداء السعودي والمصري لجماعة الإخوان ليس وليد اللحظة، لكن الجديد فيه هو دعوة الرياض لقطر إلى وقف دعمها لحركة حماس وقطع صلتها بالكامل مع الإخوان، وهذا ينسجم مع توجّهات ترامب الذي أعلن في أول يوم من حكمه الحرب على تيّارات الإسلام السياسي على اختلاف انتماءاتها وتوجّهاتها.
طالما التخبّط الأمريكي مستمر، فهذا يعني أن الأزمة الخليجية تسير إلى مزيد من التعقيد، ومصيرها يتوقف على الطرف الذي ستكون له الغلبة في واشنطن. لو فاز ترامب بصراع الإرادات مع الدولة العميقة، فإن المنطقة مقبلة على تصعيد واصطفافات ستعيد تشكيل التحالفات على مستوى الإقليم من جديد. وخير مثال على ذلك القرار التركي بإرسال قوات عسكرية إلى قطر وهرولة الإيراني إلى التنسيق مع أنقرة في هذا الملف. من اللافت أن حدثاً كبيراً بحجم الشقاق بين الأشقّاء الخليجيين والعرب باتت تتحكّم فيه بضع تغريدات نارية على تويتر للرئيس الأمريكي.