هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
سلطت صحيفة "بوليتيكو" الأمريكية الضوء على التحديات التي تواجه الرئيس القادم، جو بايدن، سواء على صعيد الوضع الداخلي أو الخارجي، وتساءلت عن مدى استجابته لـ"التقدميين" في الحزب الديمقراطي، والذين أوصلوه لما هو عليه الآن، بعد أن سمحوا بصعوده في تصفيات انتخابات الحزب الديمقراطي.
وقال الصحيفة في تقرير ترجمته "عربي21" إن تعهد بايدين مبهج ومثير للحماسة، بالنسبة للتقدميين، حين أعرب بالفعل عن استعداده لقطع ملايين الدولارات من المساعدات العسكرية الأمريكية لمصر.
ولفت التقرير، الذي كتبته محررة شؤون السياسة الخارجية والأمن القومي في بوليتيكو نهال طويسي، إلى أنه "طوال حملة بايدين الانتخابية لم يتوقف التقدميون عن التحدث مع القائمين على الحملة في سعي لتشكيل أجندات الديمقراطيين حول السياسة الخارجية والأمن القومي، وهناك الكثير من المؤشرات على أن بايدن ومساعديه كانوا ينصتون لهم".
ورغم ذلك، تقول الصحيفة إن شكوكا تحوم حول بايدن في أوساط الكثيرين من التقدميين ما زالت تلقي بظلالها على شجار محموم داخل الحزب حول شكل السياسة الخارجية للرئيس المنتخب، الأمر الذي سيضع مهاراته الدبلوماسية على المحك ويعرضها لاختبار شديد.
اقرأ أيضا: ترامب: نحقق تقدما كبيرا.. وبومبيو يعد بالانتقال لولاية ثانية
وفي ما يأتي الجزء الأول من التقرير الذي تنشره "عربي21" على جزئين:
في الأيام الأولى من الربيع العربي، وبينما كانت الجماهير تحتشد في ميادين القاهرة مطالبة بتنحي حسني مبارك بعد ثلاثين عاماً في السلطة، ظن الدكتاتور أن بإمكانه التعويل على صديق قديم داخل البيت الأبيض.
كان جو بايدين حينها يراقب، من منصبه كنائب للرئيس باراك أوباما، الحماسة الثورية في مصر بشيء من عدم الارتياح. فرغم أنه كان يتعاطف مع رغبة شباب مصر في ديمقراطية حقيقية وفي مزيد من الفرص الاقتصادية إلا أنه في اللقاءات داخل البيت الأبيض، بحسب ما رواه آخرون ممن كانوا حاضرين، كان يعرب عن قلقه من أن مغادرة مبارك المفاجئة قد تفضي إلى حكم إسلامي غير ودود، إن لم تؤد إلى حالة من الفوضى العارمة.
وكان بايدين يعتقد بأن مبارك عمل جيداً مع الولايات المتحدة في محاربة الإرهاب، وفي الحفاظ على السلام مع إسرائيل، وفي رعاية المصالح الاستراتيجية الأخرى. يضاف إلى ذلك أنه كان يعرف رجل مصر القوي، البالغ من العمر اثنين وثمانين عاماً، منذ الأزل ولم يكن يراه سيئاً على الإطلاق. بل بلغ به الأمر أن قال في مقابلة مع إذاعة بيه بي إس في، بينما كانت الاحتجاجات آخذة في التصاعد: "ما كنت لأنعته بالدكتاتور".
سقط مبارك بعد ذلك بأسبوعين في شهر فبراير/ شباط من عام 2011. ثم لم يطل بمصر المقام حتى استولى على الحكم فيها دكتاتور آخر هو عبد الفتاح السيسي، ضابط الجيش الذي أشرف بنفسه، ضمن سعيه لإحكام قبضته على السلطة، على مجزرة لما يزيد على ثمانمائة من أنصار جماعة الإخوان المسلمين. حينها، رفضت إدارة أوباما، التي كانت تواقة إلى رؤية بعض من الاستقرار، وصف استيلاء السيسي على السلطة بالانقلاب. صحيح أنها جمدت مبيعات الأسلحة إلى حين، ولكنها ما لبثت في النهاية أن رفعت تلك القيود. وسارت الأمور لصالح السيسي في عهد الرئيس دونالد ترامب الذي تفاخر بحبه للسيسي، حتى روي أنه قال ذات مرة: "أين دكتاتوري المفضل؟".. بل ومنحه زيارة رسمية إلى البيت الأبيض.
خلال معركته الانتخابية لإخراج ترامب من البيت الأبيض، بدت لهجة بايدن مختلفة قليلاً في الكلام عن مصر، بل وحتى عن الحكام المستبدين بشكل عام. فقد تعهد المرشح الديمقراطي بأن يجعل تعزيز حقوق الإنسان والديمقراطية من أولويات سياسته الخارجية. وفي وقت مبكر من العام، بعد الإفراج عن مواطن أمريكي كان حبيس السجون المصرية، تعهد بايدن في تغريدة له بما يأتي: "لا مزيد من الشيكات على بياض لدكتاتور ترامب المفضل".
بالنسبة للتقدميين الذين خسر مرشحوهم المفضلون لصالح بايدن أثناء تصفيات الحزب الديمقراطي، كان تعهد بايدين مبهجاً ومثيراً للحماسة. هل كان بالفعل يعرب عن استعداده لقطع ملايين الدولارات من المساعدات العسكرية الأمريكية لمصر؟ بعد مرور ما يقرب من خمسين عاماً على استلام بايدن لأول منصب رسمي له داخل المؤسسة الحاكمة في أمريكا – تلك العقود التي قضاها غالباً وهو يحفر في الصخر شعوذات حول القوة الأمريكية – رأى التقدميون في تغريدته المكونة من 275 حرفاً مؤشراً على تبدل كبير في رؤيته للعالم. وتساءلوا عما إذا كان فعلاً سيغادر منطقة الراحة التي ألفها حتى لو كان ذلك يعني القطيعة مع حليف عربي مقرب صنع السلام مع إسرائيل.
لطالما شعر اليسار بالتهميش في النقاشات التي تجرى حول الأمن القومي الأمريكي. إلا أن عقوداً من التدخلات العسكرية الأمريكية غير المجدية والمكلفة جداً في الخارج جرأت، وبشكل متزايد، التقدميين على المطالبة بمقاربة محكومة بالانضباط وبمزيد من الاستقامة الأخلاقية. وطوال حملة بايدن الانتخابية لم يتوقف التقدميون عن التحدث مع القائمين على الحملة في سعي لتشكيل أجندات الديمقراطيين حول السياسة الخارجية والأمن القومي، وهناك الكثير من المؤشرات على أن بايدن ومساعديه كانوا ينصتون لهم.
إلا أن الشكوك التي تحوم حول بايدن في أوساط الكثيرين من التقدميين مازالت تلقي بظلالها على شجار محموم داخل الحزب حول شكل السياسة الخارجية للرئيس المنتخب – شجار سيضع على المحك مهاراته الدبلوماسية ويعرضها لاختبار شديد.
في حديثه عن الصفعة التي وجهها بايدين للسيسي، يقول ستيفين مايلز، المدير التنفيذي لمجموعة تعبوية تسمى "الفوز بلا حرب": "قد تظن، أولاً وقبل كل شيء، أن جو بايدن يقول الشيء الصحيح. ولكن لا مفر من التساؤل عن ما إذا كانت أفعال الرئيس بايدن ستكون مطابقة لما كان يقوله المرشح بايدن".
ليست مصر هي الوحيدة التي تجعل مثل هذه الأسئلة تدور في أذهان التقدميين. رسمياً، كان لدى بايدن أثناء حملته الانتخابية ما يقرب من 1800 شخص يقدمون له النصح من مختلف وجهات النظر حول ما لا يقل عن عشرين من القضايا ذات العلاقة بالسياسة الخارجية والأمن القومي. أما عملياً، فهو يعتمد بشكل مكثف على ثلة من المستشارين من أصحاب الخبرات الطويلة في واشنطن، ومن بينهم عدد ممن كانوا مستشارين له خلال سنوات حكم باراك أوباما. وهذا الأمر يثير أعصاب التقدميين الذين يخشون العودة إلى الرؤي والعقليات التي كانت سائدة ما قبل ترامب – أي مجرد الاستعادة بدلاً من الابتداع.
تحدثت حملة بايدن، ضمن القليل الذي يمكن أن يقتبس من أقوالها في هذا الصدد، عن التعهد بإنهاء "الحروب الأبدية" والارتقاء بالدبلوماسية والتصدر للدفاع عن حقوق الإنسان وعن الديمقراطية. ولكن التقدميين ينظرون في سجل الرئيس المنتخب، الذي يوشك أن يتم الثامنة والسبعين من عمره، ويتساءلون عما إذا كان سيتمكن من الوفاء بمثل هذه الوعود السامية.
يتساءلون عن أي شيطان يكمن في تفاصيل تعهده بإعادة البناء على صورة أفضل. يخشون أنه، مثله في ذلك مثل الكثيرين من أسلافه، سوف يعامل الأمن القومي للأمريكيين باعتباره أمراً ثانوياً ومنفصلاً عن التفوق العسكري للولايات المتحدة. ويرتابون في ما إذا كان سجل بايدين وعلاقاته على مدى سنوات طويلة مع الزعماء الأجانب يعني أنه سوف يقدم على فتوحات جديدة أم أنه سيرتكس إلى العادات القديمة.
كل هذه الحيثيات غير اليقينية هي السبب الذي حمل قيادات التيار اليساري على التعهد في حالة فوز بايدين بالانتخابات في نوفمبر بأنهم لن يصمتوا. بل لقد عزموا أمرهم على الصدح بمطالبهم ومحاسبته، وعلى تقمص دور المعارضة الدائمة كلما لزم الأمر.
يقول السيناتور كريس ميرفي (الديمقراطي عن ولاية كونيتيكيت)، المفضل لدى التقدميين والذي كثيراً ما يشار إليه على أنه مؤهل للمنافسة على الرئاسة في المستقبل والذي يحتمل أن يكلف بمنصب وزير الخارجية في عهد بايدين: "في الواقع، تمكن التقدميون من إحداث نقلة نوعية في النقاش الدائر حول عدد من القضايا الهامة. هذا هو الواقع الذي سيكون في استقبال الرئيس الديمقراطي القادم".
ليس المقصود من كل ما سبق القول إن بايدن كان بحاجة لأن يقلق كثيراً بشأن جناحه اليساري في الانتخابات، على الأقل ليس في ما يتعلق بقضايا السياسة الخارجية. قبل أربعة أعوام، اضطرت هيلاري كلينتون إلى النضال ضد مرشحة حزب الخضر جيل ستاين، التي وصمت وزيرة الخارجية السابقة بأنها صقر خطير وتمكنت من تحقيق اختراقات في بعض الولايات المتأرجحة بما يكفي ربما لترجيح الكفة فيها لصالح ترامب.
لا يواجه التقدميون اليوم مثل هذه المعضلة. لربما لم يكن بايدن لا بيرني ساندرز ولا إليزابيث وارين، ولكنه بالتأكيد ليس ترامب، الذي يرون فيه جلفاً وغير إنساني وعرضة للتلاعب السهل من قبل الآخرين على المسرح الدولي. بالنسبة لليسار، شعار ترامب "أمريكا أولاً" في السياسة الخارجية يعني إهدار القوة الأمريكية وتبديد نفوذها المعنوي من خلال التخلي عن الاتفاقيات الدبلوماسية، ومعاقبة الحلفاء، واحتضان المستبدين، والأكثر خطورة، دفع الولايات المتحدة نحو حافة هاوية حروب جديدة – على الرغم من جهود الرئيس ترامب المترددة في إعادة القوات الأمريكية إلى الوطن.
يرى التقدميون في بايدن فرصة سانحة ولا يريدون تفويتها، ولكنهم في نفس الوقت ليسوا مجموعة واحدة متجانسة. فعلى سبيل المثال يختلفون فيما بينهم على واحدة من أكثر المعضلات إزعاجاً في السياسة الخارجية، والمتمثلة في متى تُستخدم القوة العسكرية الأمريكية لنصرة حقوق الإنسان، مثلاً لوقف الإبادة الجماعية.
ومع ذلك، وبشكل عام، استقر أمر التقدميين في الشهور الأخيرة على بعض الأولويات العليا. فهم يرغبون في تقليص الإنفاق العسكري الأمريكي وفي تضييق دائرة البصمات العسكرية الأمريكية حول العالم، وتكريس مزيد من الموارد للجهود الدبلوماسية، والاشتباك أكثر مع الحلفاء والشركاء في مواجهة التحديات العابرة للحدود – وكذلك مع الأعداء عندما تتلاقى المصالح. عندما يقارنون بالديمقراطيين المعتدلين أو الجمهوريين التقليديين، ينزع مفكرو السياسة الخارجية لدى التقدميين نحو وضع القضايا الاقتصادية، مثل الآثار المترتبة على الصفقات التجارية، في القلب من استراتيجياتهم.
في خطابات وجهوها لبايدن، رفعت المجموعات التقدمية مطالب محددة، فطالبوه بأن يلتزم بإجراء تخفيضات كبيرة في الإنفاق العسكري – على الأقل بما قيمته مائتا مليار دولار، وذلك حسبما ورد في أحد الخطابات في شهر مايو/ أيار. ويريدون من الرئيس المنتخب أن يرفع العقوبات الشاملة المفروضة على كل من إيران وفنزويلا، لأنها حسبما قالوا تؤذي المدنيين بدلاً من أن تضر بالأنظمة الحاكمة.
كما أنهم يريدون من بايدن أن يلتزم بأن يدفع باتجاه نقاش موسع داخل الكونغرس حول ما إذا كان ينبغي وضع نهاية للتدخلات العسكرية الجارية وإبطال التفويضات الحالية باستخدام القوة العسكرية. ويريدون منه أن يوافق على تكييف الدعم العسكري لإسرائيل ليتناسب مع معاملتها للفلسطينيين.
طوال الربيع والصيف، عمل فريق بايدن مع ساندرز، آخر منافسيه في التصفيات على ترشيح الحزب، لتشكيل فرق مهمات مشتركة صبت تركيزها على إيجاد أرضية مشتركة حول بضع من القضايا. غطت اللجان التي تمخضت عن ذلك قضايا التغير المناخي والتعليم والاقتصاد وإصلاح العدالة الجنائية، والرعاية الصحية والهجرة. ما الذي ترك دون تغطية؟ السياسة الخارجية. وهذا ما أزعج الكثير من التقدميين، على الرغم من أن أحد مساعدي ساندرز أقر بأن الطرفين دفعا بقوة باتجاه تشكيل مجموعة مشتركة لبحث تلك القضية.
جل ما حظي بتركيز التقدميين منذ أن فاز بايدن بالتصفيات داخل الحزب كان منصة الحزب الديمقراطي. وفي ما يتعلق بالسياسة الخارجية، لديهم إحساس بأنهم نجحوا في جعل منصة هذا العام أقل صقورية مما كانت عليه في عام 2016. في بعض جوانبها تبدو منصة الحزب الجديدة كما لو كانت مقتطعة من خطاب ساندرز إذ تطالب بإنهاء "الحروب الأبدية"، رغم أنها تغلف ذلك بالتحذير من أنه يتوجب أن تكون النهايات "مسؤولة". كما تتبرأ وثيقة 2020 من فكرة لجوء الولايات المتحدة إلى "تغيير النظام"، بما في ذلك في بلدان مثل إيران.
إلا أن التقدميين واجهوا مقاومة شديدة في المواضيع ذات العلاقة بإسرائيل. فلم يتمكن أنصار ساندرز من إقناع جمهور بايدن بالحديث عن إمكانية تكييف المعونة العسكرية لإسرائيل، بل تقول المنصة إن التزام الحزب بأمن إسرائيل لا يتزعزع. ولكن بينما فشل التقدميون في ضمان استخدام كلمة "احتلال" عند الإشارة إلى التحركات الإسرائيلية في المناطق، تصرح المنصة هذا العام بأن الديمقراطيين "يعارضون توسيع الاستيطان" من قبل إسرائيل، وهي مسألة مثيرة للخلاف لم يرد ذكرها في منصة 2016. كما أنها تومئ إلى حرية التعبير حتى وهي تندد بحركة المقاطعة "بي دي إس" التي تستهدف السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين.
يقول جيمز زغبي، أحد حلفاء ساندرز ورئيس المعهد العربي الأمريكي الذي ساعد في صياغة المنصة: "المنصة ليست برنامجاً سياسياً، وإنما بيان سياسي، وأظن أنها أثبتت أن التوجهات السياسة تتغير، ولقد أقرت مؤسسة الحزب أنها، بطريقة ما، لم تشعر بأنها كانت بحاجة إلى ذلك في عام 2016. ثم اضطروا إلى ذلك فيما بعد".
ومع تسارع الحملة إلى الأمام، سعت المنظمات التقدمية إلى إيجاد قنوات خاصة للتأثير على بايدين. اشتمل ذلك على مكالمة كل ستة أسابيع بين بضعة من المجموعات التقدمية الريادية وأنطوني بلينكين، أحد كبار مستشاري بايدن الذي شغل في السابق منصب نائب وزير الخارجية.
تقول ياسمين تائب، مستشارة إحدى المجموعات المشاركة، واسمها "اطلبوا التقدم": "إنها ودودة جداً." ولكنها تضيف: "حتى في تلك المكالمات، يصعب الحصول على التزامات محددة منهم".
يقول حلفاء بايدين إن الحملة قامت بجهد دبلوماسي كبير داخل الحزب. وقال مستشار للحملة إن الرئيس المنتخب "يستشير تشكيلة واسعة من خبراء السياسة الخارجية، بما في ذلك من بين التقدميين، إذ إنه يأخذ بالاعتبار التحديات العالمية التي ستواجهه كرئيس".
ويسعى التقدميون جاهدين إلى التأثير على قرارات التوظيف التي سيتخذها بايدن، وبعضهم اقترح بشكل هادئ قوائم بأسماء الشخصيات التي يرون إن على إدارة بايدن أن توظفهم بما في ذلك الناس الذين يمكن أن يخدموا في مواقع وسيطة لكن مهمة مثل مساعدي وزير الدفاع. رفض بعض من لديهم معرفة بتفاصيل هذا الأمر البوح بأسماء المرشحين، وقالوا إنهم لا يرغبون في تحويلهم إلى مستهدفين، ولكنهم قالوا إنهم سلموا القوائم إلى حملة بايدن.
في نفس الوقت، يتكلم التقدميون بصوت مرتفع عن أنواع التوظيف التي يرجون أن يتجنبها بايدن. بعض المطالب واسعة جداً – بل وحتى طهورية – ومن شأنها أن تستبعد أسماء عدد كبير من المرشحين.
فعلى سبيل المثال، في أحد الخطابات، تحث عدة مجموعات يسارية بايدن على عدم توظيف أي شخص دعا إلى (ولم يتبرأ من دعم) "التدخلات العسكرية الأمريكية في سبيل تحقيق أهداف سياسية" أو "العمليات السرية التي نجم عنها إلحاق الضرر بالمدنيين". يقر النشطاء بأنهم يرفعون السقف، ولكنهم يقولون إنهم يريدون توجيه رسالة مفادها أنهم يراقبون بايدن بنفس القدر الذي يراقب به من قبل المعارضة الجمهورية.
بل لقد ذكر التقدميون بالاسم بعضاً من مستشاري حملة بايدن. فقد وقع عدد كبير من المندوبين للمؤتمر القومي للديمقراطيين على رسالة مفتوحة موجهة إلى بايدن يحثونه فيها على عدم التعويل على نصح أشخاص من مثل مستشارة أوباما السابقة للأمن القومي سوزان رايس، والتي فكر بها لمنصب نائب الرئيس، وكذلك المسؤول الرفيع السابق في وزارة الدفاع ميشيل فلورنوي، والذي تقدم المرشحين لمنصب وزير الدفاع، أو حتى بلينكين، كبير مستشاري حملة بايدن وموضع ثقته الأولى. تؤكد الرسالة على أن هؤلاء وغيرهم من الشخصيات في واشنطن "ثبت ضعف رأيهم في مسائل الأمن القومي". بل وتندد بهم الرسالة بوضوح بسبب الأدوار التي مارسوها في المهام العسكرية التي نفذت في عهد أوباما، ناهيك عما انتقدوا بسببه من علاقات تربطهم بالقطاع الخاص.
قد ينصت بايدن وفريقه للتقدميين الآن، أما أن يتمكنوا من تنفيذ السياسات التي يطالب بها التقدميون فهذه حكاية أخرى.
فعلى سبيل المثال، كان أوباما قد تعهد بإغلاق سجن غوانتانامو، وهو نفس الوعد الذي يقطعه بايدن على نفسه ويطالبه التقدميون بالوفاء به. ولكن خلال سنوات حكم أوباما، انضم الديمقراطيون القلقون داخل الكونغرس إلى الجمهوريين وسدوا الطريق في وجه السلطة التنفيذية وحالوا بينها وبين نقل المعتقلين إلى سجن داخل الأراضي الأمريكية. صحيح أن أوباما تمكن من تقليص عدد المعتقلين من خلال إطلاق سراح العشرات الذين استلمتهم بلدان أخرى، ولكنه لم يتمكن من الوفاء بوعده إغلاق السجن نفسه. كما أنه خيب ظن كثير من التقدميين حينما أخفق في إنهاء الدور العسكري الأمريكي في كل من العراق وأفغانستان. ولم يسرهم استخدامه للهجمات الجوية باستخدام الطائرات المسيرة، ولا سرهم ترحيله للمهاجرين غير الموثقين، ولا دعمه لبعض الصفقات التجارية.
يلوم التقدميون أنفسهم أيضاً لافتراضهم أن أوباما كان يحمل هم أولوياتهم – وكذلك بسبب إخفاقهم في الضغط عليه بشكل أكثر فاعلية. بعضهم يذكر الفضل في حمل أوباما على الدفع خلال فترته الثانية باتجاه إبرام صفقة النووي مع إيران، والتي وضعت حيز التنفيذ بالرغم من المعركة الشرسة التي دارت رحاها مع الجمهوريين في واشنطن، للائتلاف الذي أنشأته فيما بينها مجموعات مختلفة من المنظمات التقدمية التي دعمت الاتفاق. كما أنهم يذكرون الفضل لبعض إخفاقات أوباما – مثل التدخل في ليبيا الذي تجاوز الأهداف الإنسانية التي وضعت له في البداية – في رفع مستوى الحذر لديهم من بايدين.
ساعدت فترة حكم ترامب التقدميين في أن يصبحوا أكبر حجماً وأفضل تنظيماً وأوعى سياسة. فقد انسحب ترامب من صفقة النووي مع إيران، وفي وقت مبكر من هذا العام، وإذ كان قاب قوسين أو أدنى من الدخول في صراع عسكري شامل مع طهران، ردت المجموعات التقدمية بسرعة بإجراء مناهض للحرب من صنع أيديهم. وساعد التقدميين في تشكيل تحالفات مع المحافظين من ذوي التفكير التحرري أن الناس سئموا الحروب في أفغانستان والعراق. ناهيك عن أن ذهنية "الحرب على الإرهاب" بدأت تتبدد مع ظهور تهديدات جديدة، تتراوح ما بين تلك الوافدة من الصين الصاعدة إلى تلك الناجمة عن التغير المناخي إلى تلك التي تشكلها جائحة فيروس كورونا، لدرجة أن المحافظين أنفسهم بدأوا يعيدون النظر في أولويات أمريكا.
كانت حملة بايدين في بعض الأوقات تفاجأ باستعداد نشطاء التقدميين انتقاد الرجل الذي يقف حائلاً بينهم وبين أربعة أعوام أخرى من حكم ترامب. فعندما نشر فريقه إعلاناً رقمياً في وقت مبكر من هذا العام يصوره على أنه صارم في وجه الصين، فقد عبر البعض في معسكر اليسار عن اعتراضهم على اللهجة واللغة المستخدمين.
حينها قالت توبيتا تشاو، مديرة مجموعة التقدميين التي تسمى "العدالة عالمية": "هناك العديد من الانتقادات الجادة والوجيهة جداً التي يمكن أن توجه إلى الحكومة الصينية، ويمكن القيام بذلك بأسلوب لا ينم عن العنصرية ولا عن التعصب القومي".
يقول التقدميون إنهم يأملون أنه إذا لم يستمع بايدين إلى المجموعات التعبوية، فسوف يستمع على الأقل إلى مجموعة متنامية من الديمقراطيين التقدميين داخل المؤتمر. ولقد نقل عن النائب في الكونغرس ألكسندرا أوكازيو كورتيز، الوجه البارز في الحركة، قولها في مقابلة أجريت معها مؤخراً: "أظن بالمجمل أنه يمكننا دفع بايدن في اتجاه أكثر تقدمية حول مختلف القضايا. وأظن أن السياسة الخارجية تشكل مساحة ضخمة حيث يمكننا إجراء تحسينات، والمساحة الأخرى هي الهجرة. وهناك في المقابل بعض المساحات التي سنظل مختلفين بشأنها، وبشكل أساسي، ولكن لا بأس في ذلك".
وهناك أيضاً بعض الشخصيات الأكثر رسوخاً مثل النائب عن تكساس جواكيم كاسترو، والذي يضع عينيه على رئاسة لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب، الذي يتحدث جهاراً عن الحاجة لأن يسترد الكونغرس بعضاً من صلاحياته في السياسة الخارجية والتي تنازل عنها للسلطة التنفيذية.
وفي تصفيات نيويورك التي لم تغب عن أعين دوائر السياسة الخارجية، فإنه فقد الرئيس الديمقراطي الحالي للجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب، إليوت إنجيل، الشخصية الصقورية الذي صوت ضد الصفقة مع إيران، مقعده لصالح متمرد تقدمي اسمه جمال بومان، والذي تعهد بأن "يحارب من أجل المدارس والتعليم وليس من أجل القنابل والاعتقال".
يعتقد بومان أن من الأفضل لليسار أن يسعى للعمل مع بايدن وليس ضده – ولكنه مع ذاك أومأ إلى الاحتكاكات التي ستحصل لا محالة. وقال في مقابلة أجريت معه: "لكي نصبح فعلاً تقدميين، فإن ذلك سيتطلب عملاً مني ومن الآخرين الذين يعملون بالتعاون مع البيت الأبيض برئاسة بايدن. وعندما أقول تعاون، عليكم الفهم أنني أعني التوتر الصحي، والصدام الصحي، والمحاسبة، والدفع حيث يتسنى لنا أن ندفع".
يشير ميرفي، السيناتور عن ولاية كونيتيكيت، إلى الدعم الديمقراطي المتنامي لجهوده الرامية إلى تقييد مبيعات السلاح إلى المملكة العربية السعودية، التي باتت هدفاً دائماً للسخط، في ما يعتبر علامة على الاتجاه الذي تسير فيه الأمور داخل الحزب.
ويقول: "ربما لا يكاد يوجد ديمقراطي واحد اليوم في مجلس الشيوخ يؤيد بيع المزيد من الصواريخ الموجهة بدقة إلى السعوديين. لقد تغيرت الأمور بشكل كبير".
الجزء الثاني للمقال : بوليتيكو: المعركة الدبلوماسية الأولى لبايدين داخل البلد