كتاب عربي 21

هل تغيرت استراتيجية تنظيم الدولة الإسلامية؟

1300x600
أثارت الهجمات الخارجية الأخيرة التي نفذها تنظيم الدولة الإسلامية من الضاحية الجنوبية في بيروت إلى باريس مرورا بالطائرة الروسية فوق سيناء، تساؤلات حول استراتيجية تنظيم الدولة القتالية وأولوياته الاستراتيجية، حيث بدا أن التنظيم عمل على التخلي عن نهجه التقليدي باستهداف العدو القريب وفق جهاد التمكين، والذهاب إلى نهج استهداف العدو البعيد وفق جهاد النكاية، لكن ذلك يشير إلى عدم فهم المنظومة الأيديولوجية الفقهية والممارسات الجهادية الاستراتيجية، فقد تطورت الأيديولوجية الجهادية ودخلت في حقبة دمج الأبعاد الجهادية المحلية والإقليمية والعالمية، في زمن العولمة، وقد تعززت نظرية اندماج الأبعاد بعد الاحتلالات والانقلابات عقب ربيع عربي قصير، إذ برز نهج جهادي جديد يتجاوز النماذح الجهادية التقليدية، التي عملت على وضع حدود صارمة تتقيد بأولويات لا تتجاوزها.

فقد شهدت الأيديولوجية الجهادية خلال حقبة تغول الأنظمة السلطوية العربية إبان سبعينيات القرن الماضي، ولادة جهاد العدو القريب وفق تكتيكات المناكفة الجهادية للأنظمة العربية، وخلال حقبة الثمانينيات برزت تنظيرات الجهاد التضامني مع الأمة الإسلامية الممتهنة في أفغانستان وغيرها من الساحات، ومع حلول عصر العولمة والأمركة ظهر نمط الجهاد النكائي لدفع صائل العولمة العسكرية الأمريكية وتمأسست قاعدة الجهاد، لكن تنظيم الدولة الإسلامية منذ ظهور شبكة الزرقاوي وتأسيس جماعة التوحيد والجهاد، كان يؤسس لنمط اندماج البعد الجهادي ويربط الأبعاد المحلية والإقليمية والعالمية، فقد أصر الزرقاوي في بيان الانضمام إلى قاعدة الجهاد وبيعة بن لادن على دمج الأبعاد؛ ففي الوقت الذي أصرت فيه قيادة القاعدة على أولوية قتال العدو البعيد، والمضي قدما في مناكفة "الصليبيين" عبر تكتيكات حروب النكاية، ونهج الاستنزاف والمطاولة، كان تنظيم الدولة الإسلامية يشدد على دمج الأبعاد الجهادية وأولوية قتال العدو القريب عبر استراتيجيات التمكين، ونهج التطهير والسيطرة والمنازلة، ضد "المرتدين"، وقد كانت تفجيرات مدريد 2004، ولندن 2005، مرتبطة بشبكة الزرقاوي أكثر من خلايا بن لادن. 

لا شك بأن الاحتلال الأمريكي للعراق 2003 عمل على تقريب وجهات النظر بين تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة، لكن ذلك لم يكن سوى تحالف هش فرضته طبيعة التحولات المحلية والإقليمية والدولية، فقد شدد تنظيم الدولة على كونه طليعة محاربة ممثلة للأمة والهوية الإسلامية السنيّة، تقاتل الأنظمة باعتبارها "مرتدة" ومرتبطة بالأنظمة الغربية باعتبارها "صليبية"، وعمل منذ تأسيسه على دمج الأبعاد الجهادية لحرمان الجميع من الاستقرار والسيطرة، وعلى خلاف قاعدة الجهاد التي تبنت نمط الحروب السياسية ونسجت تحالفات على أسس مصلحية لتحييد الخصوم كما فعلت مع إيران "الشيعية"، وبعض الدول الغربية التي لا تتوافر على نزعة "إمبريالية"، فيما لم تفارق مسألة الهوية الدينية تنظيم الدولة الإسلامية، وأصر على نهج "حروب الهوية" على أسس دينية مذهبية مزدوجة محليا وعالميا، سنيّة شيعية محليا وإقليميا وإسلاميّة صليبيّة عالميا، دون الالتفات إلى سياسة حرب الأنصار التقليدية، بل على فرض السيطرة والتطهير المكاني، وإخضاع الخصوم واستلام زمام الحكامة كسلطة متغلبة في مناخ من الفوضى والتوحش.

في هذا السياق تجاوز تنظيم الدولة الإسلامية السردية الجهادية القاعدية النكائية، ومن قبلها السردية الحهادية التضامنية، حيث أسفرت استراتيجيته الجهادية التمكينية عن فرض دولة الأمر الواقع، وعمل على استدخال الجهادية النكائية والتضامنية في بنية مشرعه التمكيني، وبهذا أصبحت الحركات الجهادية تعمل كترس في آلته الدولتية المركزية في العراق والشام، يقوم بتوظيفها في إطار استراتيجية تقوم على العمل كجسم موحد على الرغم من تناثره في جغرافية سياسية واسعة، ولذلك فقد أصدر ديوان البحوث والدراسات في التنظيم فتوى نشرت في مجلة "دابق" تتضمن توجيها لأتباعه بعدم القدوم إلى مركز خلافته والالتحاق بأقرب ولاية، وفي حال عدم وجود ولاية، التموضع المكاني بانتظار اكتمال الشبكات والخلايا والمجاميع وصولا إلى التوحد والجهاد الفردي كذئاب، ولا جدال بأن "دابق" كسائر الوسائط الإعلامية للتنظيم، لا تقتصر وظيفتها على الدعاية والتعبئة والاستقطاب والتجنيد، وإنما تتجاوزها لرسم سياسات الأتباع وضبط الفروع الخارجية وإقرار استراتيجيات وتوجيهات وأوامر تنظيمية. 

اندماج البعد الجهادي هو أحد أهم مميزات تنظيم الدولة الإسلامية، وذلك بسبب تقديم نفسه كممثل لهوية إسلامية عالمية، لكن الخطة الاستراتيجية للتنظيم كانت تستهدف السيطرة المكانية أولا قبل نقل المعركة عالميا، وذلك من خلال ترسيخ تمثيله للهوية السنية في العراق والشام في مواجهة المد الشيعي الإيراني، وبعدها استفزاز القوى العالمية وإجبارها على الاصطفاف إلى جانب هوية "شيعية"، وبهذا فإن المواجهة تأخذ بعدا هوياتيا  سنيا ــ شيعيا محليا وإقليميا، وتأخذ منحى هوياتيا إسلاميا ــ صليبيا على الصعيد العالمي، لكن بعد عام على تشكل التحالف الدولي بقيادة أمريكا في أيلول/ سبتمبر 2014، دون النزول المباشر على الأرض، وضعف الاستجابة لطلبات التنظيم بتنفيذ هجمات ضد المصالح الغربية في أنحاء العالم كافة، من خلال "الذئاب المنفردة"،  ثم التدخل الروسي وزيادة الضربات الجوية، اتخذ تنظيم الدولة الإسلامية بداية أيلول/ سبتمير 2015 قرارا استراتيجيا بدمج الأبعاد الجهادية المحلية والإقليمية والدولية.

لقد بدا واضحا أن قرار تنظيم الدولة بتنفيذ هجمات واسعة لكن محسوبة ومتدرجة وصادمة يخضع لحسابات واضحة، وليس كما فعلت القاعدة عبر هجمات سبتمبر، إذ يدرك التنظيم أن التحالف الكوني ضده قد وصل إلى حدوده القصوى نظرا لتعقد وتشابك وتناقض المشهد المحلي والإقليمي والدولي، ولا عجب أن يأتي الإصدار الجديد لمجلة  "دابق" العدد (12)، بعنوان لافت (الإرهاب العادل)، وافتتاحية مثيرة نستعرض مسار الهجمات بدءا من "الذئاب المنفردة"، وصولا إلى هجمات الضاحية الجنوبية في بيروت وتفجير الطائرة الروسية فوق سيناء وهجمات باريس، وهي هجمات تحمل تنوعا في التكتيكات المرعبة، وتتمتع يالطبيعة الاستعراضية المشهدية المعهودة، لإظهار قوة التنظيم والحفاظ على صورته المرعبة الضرورية للتجنيد والاستقطاب، لاسيما بعد خسارة التنظيم بعض المناطق في العراق كأجزاء من سنجار وبيجي، وفي سوريا محيط كويرس.

وفق حسابات تنظيم الدولة الإسلامية لا خسائر استراتيجية تذكر مع وضع استراتيجية اندماج الأبعاد الجهادية قيد التشغيل، وربما تدفع أطراف التحالف الكوني كافة إلى ارتكاب أخطاء جسيمة بغية الانسياق خلف مشاعر الانتقام، وعلى الرغم من ارتفاع وتيرة الخطاب الكوني تجاه "إرهاب" الدولة الإسلامية، إلا أن الخطوات العملية جد متواضعة، فالاستجابة الدولية لهجمات تنظيم الدولة الاستعراضية المشهدية تبدو متواضعة رغم فداحة الحدث وخطورته، فلم يسبق أن تعرضت العاصمة الفرنسية باريس لهجمات مماثلة كتلك الهجمات التي وقعت مساء الجمعة 13 نوفمبر/تشرين الثاني، عبر سلسلة من الهجمات الدموية المتزامنة في ستة مواقع مختلفة، أسفرت عن مقتل 130 شخصا على الأقل، وإصابة قرابة 352، فبحسب بيان التنظيم "قام ثمانية إخوة ملتحفين أحزمة ناسفة وبنادق رشاشة باستهداف مواقع منتخبة بدقة في قلب عاصمة فرنسا..

فتزلزلت باريس تحت أقدامهم وضاقت عليهم شوارعها"، ولم يقتصر التنظيم على ذلك بل هدد فرنسا مؤكدا انها "على رأس قائمة أهداف الدولة الإسلامية.. ما داموا قد تصدروا ركب الحملة الصليبية وتجرأوا على سب نبينا.. وتفاخروا بحرب الإسلام في فرنسا، وضرب المسلمين في أرض الخلافة بطائراتهم"..

والأخطر التأكيد "أن هذه الغزوة أول الغيث وإنذار لمن أراد أن يعتبر"، ولا شك أن تنظيم الدولة بارع في استثمار سياسات الهوية، فهو يدرك إشكالات الهوية والاندماج في قلعة العلمانية الأوروبية، ويضع الجمهورية الفرنسية أمام خيارات صعبة تتعلق بصلابة موضوع المواطنة.

أما إسقاط الطائرة الروسية إيرباص "إيه 321"، في 31 تشرين الأول/أكتوبر بعد إقلاعها من شرم الشيخ وتحطمها فوق سيناء، ومقتل 224 شخصا كانوا على متنها معظمهم من السياح الروس، فقد جاءت عقب بدء الجيش الروسي تنفيذ ضربات جوية ضد تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا، وجاء في بيان ولاية سيناء المعنون بـ "إسقاط طائرة روسية وهلاك ما يزيد على 220 صليبيا روسيا كانوا على متنها"، "ولتعلموا أيها الروس ومن حالفكم أن لا أمان لكم في أراضي المسلمين ولا أجوائهم، وأن قتل العشرات يوميا على أرض الشام بقصف طائراتكم سيجرّ عليكم الويلات، وأنكم كما تَقتلون تُقتلون".

ثم أصدرت الدولة الإسلامية ــ ولاية سيناء كلمة صوتية بصوت القائد أبو أسامة المصري المسؤول العام والشرعي في الولاية بعنوان مثير "نحن من أسقطها فموتوا بغيظكم"، قائلا: "أيها الروم؛ إن لنا ولكم موعدا لن نخلفه نحن ولا أنتم، هو الأعماق".

قبل هجمات باريس بيوم واحد في 12 نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، كانت الضاحية الجنوبية في العاصمة اللبنانية بيروت على موعد مع هجمات أسفرت عن مقتل 43 شخصا على الأقل وأصيب 239 آخرون، وجاء في بيان تنظيم الدولة أن أعضاءه فجروا دراجة نارية محملة بالمتفجرات في شارع بمنطقة برج البراجنة، وحينما تجمع الناس فجر انتحاري نفسه بينهم متسببا في سقوط مزيد من الجرحى ومقتل 40 شخصا، وتحدث التنظيم في بيانه عن "عملية أمنية نوعية" تمكن خلالها "جنود الخلافة من ركن دراجة مفخخة وتفجيرها .. في شارع الحسينية في منطقة برج البراجنة".

لعل ما هو أخطر من استراتيجية اندماج الأبعاد المحلية والإقليمية والدولية لتنظيم الدولة الإسلامية، وطبيعة الهجمات المنسقة المشهدية الاستعراضية، أن ما أطلق عليه التنظيم "الإرهاب العادل" يجد لأول مرة في تاريخ الجهادية العالمية والعمليات الإرهابية تفهما، وربما قبولا وأحيانا تبريرا في صفوف الأجيال الشابة، ذلك أن قطاعا واسعا من المسلمين السنة يشعرون بالمهانة وغياب الكرامة محليا وإقليميا ودوليا، حيث أصبح الانتقام من الدكتاتورية المحلية والطائفة الإقليمية والإمبريالية العالمية جزءا من مكونات الهوية الإسلامية السنية، التي لم تعد تحفل بوصف دينهم بالإرهاب ولا وصمهم بالإرهابيين، ذلك هو الخطر الأكبر، فالأيديولوجيات لا تقصف بالطائرات.