متى يرتقى وعينا
الفكري والمعرفي لإدراك الظواهر إدراكا واقعيا؟ أي كما هي في حقيقتها على الواقع، كما تقتضى العلوم الاجتماعية، حتى يتأتى القرب من فهم طبيعتها، وأسبابها، ومؤثراتها وتأثيراتها، وأحجامها الحقيقية التي تمثلها، ما يساعد على مقاربتها فهما وتفسيرا واستنتاجا.
حضرت مؤتمرين مؤخرا حول الظاهرة أحدهما مشاركا والثاني متابعا؛ أحدهما تناولها من جميع النواحي حسب جدول أعماله، لكن المؤسسة التي نظمته مؤسسة دينية إسلامية، فانغمس في التنديد والشجب، والعويل على مصير الأمة في ظل التطرف والتكفير، وتكرار الفتاوى الشرعية التي في مجملها صارت من المعلوم السائد معرفته، فضلا عن مواعظ تحذيرية، وتحاشى معظمها القرب من الدوافع الواقعية التي أنشأت الظاهرة في الساحة العربية والإسلامية، إلا على ندرة.
بينما المؤتمر الثاني نظمته كلية علوم اجتماعية في جامعة عربية، أطره باحثون من مختلف أنحاء العالم، فانصبت الأبحاث على مقاربة الظاهرة ثقافيا، واجتماعيا، وسياسيا، ونفسيا، واقتصاديا، وفق قواعد وأسس البحث الاجتماعي. فاكتنزت من المسائل والمثيرات، ما أثرى المعلومات اللازمة حول الظاهرة، من خلال النقاش والتحليل.
وعلى الرغم من امتلاك المؤتمر الأول للحقيقة وجوهر العلاج بحكم المرجعية الإسلامية، ومحكم آيات الهدى القرآني والسني الكريمين الشريفين، إلا أن إغفاله الدرسي البحثي لمقاربة الظاهرة، واقعيا بقواعد البحث المنهجي الاجتماعي، على ضوء موجهات النصوص والمبادئ الإسلامية المكتنزة لأنوار الدرك والسبر للحقائق في عمق الكينونة الإنسانية، نفسيا وعقليا واجتماعيا حرم -في تقديري- مؤتمرا كبيرا أنفقت عليه أموال طائلة كي ينتج مادة معرفية، مفسرة ودلالية، ومرشدة، و مهيئة للمعالجة.
وبالمناسبة، أذكر لما عقبت في إحدى الجلسات مشيرا إلى أننا لسنا وحيدين في درس الظاهرة، فلا بد من التفطن لإشراك نظرائنا من الباحثين الاجتماعيين والنفسيين وحتى الأمنيين والإعلاميين لتناول ومقاربة الموضوع بمنهجية علمية مثمرة ومفيدة، وواقعية. خاصة إذا وضعنا في حسباننا طبيعة جيل الشباب (وقود الظاهرة) الذي تغيرت طرائق تفكيره، بانفتاحه على العالم والوقوف على نموذج الممارسات السياسية القويمة في العالم الديمقراطي، فعرف الحياة السياسية السليمة، بل وعالمه الافتراضي البديل. لكن صبر مسير الجلسة المداهن نفد واستعجلني للتوقف معقبا بكلمة باردة لا تدل إلا على العقلية والنفسية الخانعة والمغطية للشمس بالغربال.
عذرا الهموم كُثر ؛ لقد حدثت ارتكاسة ملحوظة ومؤلمة في تفكيرنا الإسلامي ؛ فبعد أن بشرت اتجاهات فكرية وبحثية منذ سبعينيات القرن العشرين (بذرا)، ثم الثمانينيات تنمية نظرية ومحاولات تطبيقية لبذور نظريات واتجاهات في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية خصوصا، تمتاح من النصوص الإسلامية (القرآن الكريم والسنة النبوية خصوصا)، والتراث الإسلامي الغني بالروئ والجواهر الفكرية العقلية والنفسية والروحية، يحدو طموح أصحاب تلك التأسيسات ابتكار المنهجية الإسلامية في هذه العلوم والمعارف الاجتماعية والنفسية، ما يوفر لقضايا وواقع العالم الإسلامي أطرها النابعة من ذاتيته من ناحية، والبديل الواقعي العلمي المنتج معرفيا.
لكن الانتكاسة الفكرية والمعرفية لاحت منذ مطلع التسعينيات تحديدا مصاحبة لصعود ظواهر فكرية وثقافية و اجتماعية وسياسية داخل النسيج الإسلامي، أبرزها :
1- ظواهر العنف باسم الإسلامي التي رعاها خطاب مغالٍ من مرجعيات تنتسب للإسلام، صنع شخصياتها القيادية والتأثيرية وسائل إعلامية، و مراكز صنع الأفكار والاتجاهات من وراء حجب مُحكمة التخفي، ووظفوا خطابا دينيا ينتسب للسلفية مصادرة لمفهوم أنصع صفحة في تاريخ أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأقدس مصدرين للأمة، فوجهت التفكير الإسلامي إلى خلافات فرعية، وإنهاك العقل فيها مما صبغه بالسطحية.
2ــ الاضطرابات الأمنية والسياسية التي هزت المنطقة العربية (قلب الإسلام)، مذ غزو الكويت ثم الحرب على العراق، لتُركسها أحداث 11 سبتمبر وعواقبها المشؤومة من غزو أفغانستان، وإدخال العالم الإسلامي في واحدة من أقسى مراحل تاريخه ؛ ثم تُتوج بتاج الحقبة الإرهابية أو عصر الحرب على الإرهاب ؛ كي تغدو سمة العصر العالمي لعشريتين من الزمن، وكل المؤشرات تشير أنها تُرعى بعناية فائقة نادرة، لتينع أنماطا تتنوع إليها الظاهرة البغيضة، وتنبسط على الفسيح الإسلامي (عقيدة وشريعة ونموذج حضاري تاريخي، وواقع عالم ينتمى للإسلام)، يصلح تقديم الإسلام عالميا بالصورة التي تروق لمراكز القرار العالمي التي تسهر وتجد بكل إمكاناتها المادية والنفسية والفكرية والإعلامية لنسج هذا الصورة البديلة في وعي ولا وعي الإنسانية، التي يراد لها أن تكون أعمق وأخطر عملية تغيير يذهب إلى أبعد ما يمكن بلوغه، ولا أقول تصوره ؛ لأن عموم عقلنا الإسلامي ــ للأسف ــ يعيش من غشوات واقعه، وآنية همه، وسطحية تفكيره، ما يحرمه إدراك الغور الرهيب المُرام، إلا من رحم ربي من ذوي الأناة والحصافة، والقراءات المؤسسة على المعطيات الاستراتيجية لاتجاهات التفكير والسياسات العالمية.
3- الحالة الطائفية، أحد مواليد الحالة التطرفية، الناتجة عن سببين أحدهما تطور طبيعي للتحولات الفكرية والسياسية، والمرافقة الراعية له من قبل المراكز التي أشرنا إليها. فحولت التفكير الإسلامي بصورة طبيعية لاجترار مآسيه التاريخية، خصوصا أمام الصور المأساوية التي حملتها ممارسات أنظمة وجماعات تحت عناوين هذا البعد البغيض، والمأساوي في تاريخنا الإسلامي.
4- الهزة العنيفة التي اجتاحت المنطقة العربية للانعتاق من الوضع السياسي؛ بيت قصيد أزمات واقعنا المأساوي، بكل المعايير. ثم ما أعقب تلك الهزة النوعية التي تعادل في عمقها ؛ أي على هذا المستوى من القوة والأثار والتأثيرات حركات التحرر والانعتاق من الاستعمار الحديث، دون أ ن يُفهم من كلامي مقارنتها موضوعيا مع حركات الشعوب التحررية من الاستعمار ؛ لتباين الحالتين والنموذجين، من كل الجوانب، بأكثر المعايير.
أما طبيعة الأثر الذي جرَته هذه الهزة ـــ إذا قدرناها من زاوية تظافر العوامل في تكوين الظواهر وتوجيهها ـــ، فهي إما جرفت الفكر الإسلامي نحو مواقع التخندق تبعا للإملاءات الفكرية والسياسية، و القبوع في حصونها وتفسير كل الحوادث والمتغيرات على ضوء مقررات مبادئ وفلسفة تلك الولاءات؛ مما حرم الفكر الإسلامي من طاقات كبيرة، كان يمكن أن تواصل الجهود التأصيلية والتطبيقية التي أثارتها قضايا هذا المقال. وإما اضطرتها للتفاعل مع الهزة الأصلية وارتداداتها العنيفة، التي بلغت في بعض صورها حالة الدمار العنيف المُهلك لأسباب الحياة في البلاد التي المهتزة. فصار قصارى الفكر والإبداع، السجال المصاحب للحالة، الذي فرض في كثير من الأحوال منطقها، رغم لؤم وسطحية، وعفونة الانتقام والشماتة، ونفث الأحقاد التي اجتاحت الكيان الإسلامي في أسباب وجوده وإنسانيته، ومعتقده وشرعته.
ولعل من النتائج المأساوية التي انجرت عن هذين العاملين الأخيرين خصوصا، انشطار الموقف الفكري الإسلامي الذي كان يجمعه الدفع قُدما نحو استعاد ة الحياة الإسلامية ؛ إذ ارتسمت صورة ذات وجهين متناقضين أحداهما هزلي ؛ يتمثل في تناقر شبيه بتناقر الديكة ؛ بتأويل ما هو متفق عليه جوهريا على مستوى المناقير، مع تآلف جسميهما في الحقيقة. والثاني مأساوي؛ لانفراط عقد الجهد الإسلامي بقضايا فكرية و عملية يشدها عزم متفائل ومجامع توافق، خفت معها أثار الاختلافات الحركية والتنظيمية.
5- عامل آخر قد يبدو ضئيل الشأن في صنع الحالة الارتكاسية محل الخطاب؛ هو ما طرأ على الساحة الدعوية والثقافية والإعلامية من حمى التطوير الذاتي والتنمية البشرية، بوصفها ممارسات وإجراءات سحرية يمكن أن تنقل الأفراد خصوصا نحو العبقرية والإبداع الخارقين، وإن لم يكونا مؤهلين بحكم القدرات الذاتية، والرغبات الشخصية لمثل تلك المراتب العليا التي هي أصلا مواهب الجليل لبعض خلقه. فانجذبت نحوها طاقات دعوية وفكرية كبيرة، كان يمكن أن تستثمر في مشروع التأصيل المعرفي والتطبيقي الإسلامي، فضلا عن الأداء الدعوي الذي أنشأته الدعوة والصحوة الإسلامية في الساحة الإسلامية.
ومما مكن كثيرا لهذه الهجمة التطويرية الذاتية، إنشاء عقود مالية استثمارية كبيرة، أغوت كثرين ليس لهم من المؤهلات الفكرية والنفسية والعقلية والتخصصية، لتصدر إعلانات (المدرب العالمي)، مع الإشارة اللازمة لامتهان صفة (العالمي) التي ليس لها من رصيد في واقع أكثر هؤلاء شرو نقير.
وأعتقد أن من المناسب ها هنا التفكير بمنطق بسيط كي نهتدى إلى قدر كبير لحقيقة هذه الظاهرة المبددة ــ في كثير من ممارساتها وممارسيها ــ للتنمية والذات معا. إذن لو قارناها بحالة أشخاص يخضعون لدورات تدريبية وتوعوية حول بعض الأمراض و علاجاتها على أيدي أطباء مختصين، ثم حصلوا على شهادات تلك الدورات، لينطلقوا نحو المجتمع يدعونه للخضوع إلى تدريبهم على أمراض وعلاجاتها ؟ النتيجة لا تحتاج للتنويه بها، لكن الاعتبار من المقارنة ضروري في تقديري.
و مشجعات ودواعي هذا الهجمة التطويرية كثيرة خصوصا في عالم الشباب (الشريحة المستهدفة طبعا) منها: الأزمات التي اجتاحت حياتهم –استبدالهم العالم الافتراضي الإنترناتي بالعالم الواقعي الذي يحيونه - الواقع الجديد الذي صنعته العولمة بشتى وسائلها الطاغوتية.
في خضم كل الذي ذُكر هل من حل ؟ بالطبع حادي المسلم دوما في هذه الأحوال يقينه في الله تعالى العظيم، إيمانه بأنه تعالى مُتم نوره ولو كره الكافرون: والعود لاستئناف النور الذي بعثته ـ في سماء فكرنا الإسلامي المعاصر أعلام اتصفوا بالعلم العميق والفكر الثاقب، والإدراك المنير لمتطلبات العصر ومستقبل الإسلام والمسلمين في عصرنا، وما حباهم المولى تعالى به من طاقة روحية هائلة أفنوها في مدد من الإخلاص لله ولكتابه ولرسوله ولأمة محمد صلى الله عليه وسلم ؛ نذكر ــ تمثيلا فحسب ــ عبقرية إقبال في أعماله التأسيسية لفلسفة إسلامية معاصرة تدفع العقل المسلم نحو التجديد ــ أعمال الشهيد إسماعيل راجي الفاروقي العميقة في قضايا الأديان، والتأسيس لقاعدة معرفية إسلامية على أساس عقيدة التوحيد- إبداع مالك بن نبي في رسم طريق المسلمين نحو حضارة إسلامية معاصرة. وأختم بنموذجين قائمين سائرين في الإنجاز أحدهما فلسفي يمثله الدكتور أبو يعرب المرزوقي المفكر والفيلسوف التونسي المبدع، الذي يرسى جذور تفكير فلسفي عميق على نمط الفلاسفة الكبار في العالم. والنموذج الثاني من عالم الإعلام المتمثل في (النظرية القيمة الإعلامية) التي وضع أسسها المبدع الجزائري الدكتور عبد الرحمن عزي، ويواصل تطويرها، وأخذت تجمع حولها مريدين ؛ من باحثين يجتهدون في تطبيقها على في مختلف المجالات والقضايا والظواهر الإعلامية. ومما يشجع كثيرا على التفاؤل بهذا الإنجاز، القبول الذي أخذت تحظى به هذه النظرية، في الدوائر الأكاديمية العالمية الإعلامية، بتصنيفها مثلا على أنها إحدى النظريات الإعلامية الحديثة.