حتى في أحد أحلك أيام
القضاء المصري، السبت 28 شباط/ فبراير 2015، ظل هناك من أنصار نظام الرئيس عبد الفتاح
السيسي مَن يكرر على الشاشات بلا تردد عبارة: القضاء المصري الشامخ!
تلك العبارة التي رافقت أجيالا من متابعي الشأن المصري ومطالعي صحف مصر ووسائل الإعلام المصرية، تكررت على مسامع ملايين المشاهدين في ذلك اليوم الذي شهد صدور أحكام قضائية غريبة، منها تصنيف حركة
حماس الفلسطينية منظمة إرهابية والحكم على قيادات في تنظيم الإخوان بالإعدام والمؤبد.
القضاء الشامخ الذي كان من غير الجائز التعليق على أحكامه، بات من شبه المستحيل تجنب الوقوف عند ما يصدر عنه من أحكام. بل أصبح يوفر لخصومه الذخيرة المطلوبة لرميه بكل أنواع النقد.
في أقل من ثلاثة أشهر، أصدر القضاء المصري أحكاما مثيرة ستدخل التاريخ: البراءة لحسني مبارك وولديه جمال وعلاء، ولوزير داخليته وعدد من مساعديه. في المقابل، أحكام إعدام وسجن مؤبد بالجملة على معارضي النظام، وأخرى أقل قساوة بحق من قادوا الثورة التي أطاحت بمبارك وكانوا في 2011 رموزاً لمصر الديمقراطية التقدمية. أبرز هؤلاء أحمد دوما وعلاء عبد الفتاح. وفوق هذا كله أصدر القضاء عينه الحكم المتعلق بتصنيف حركة حماس، وقبلها كتائب عز الدين القسام.
ربما لن يفيد كثيرا الوقوف عند الأحكام في حد ذاتها لأنها تحمل من التناقضات والغرابة ما يستعصي
فهمه في هذه المساحة الضيقة. لكن من الضروري التذكير بأن هذه الأحكام تصدر لأن مصر تسير، سياسيا، عكس تيار ثورة 2011 وتعيد النظر في أهداف هذه الثورة التي لم يتحقق منها سوى واحد هو إطاحة مبارك ورجاله كأشخاص. كما تصدر الأحكام بينما مصر تتراجع عن أدبيات تلك الثورة وتصنفها، شيئا فشيئا، من المحرمات.
لا يمكن عزل تلك الأحكام التي صدر بعضها بالجملة في زمن قياسي مثير للاستغراب، لا يمكن فصلها عن النهج السياسي العام الذي اتجهته مصر منذ استيلاء الجيش على الحكم مدعوما بجزء من الرأي العام في صيف 2013.
توجُهُ ما بعد استيلاء الجيش على الحكم هو الذي جعل أيضا أن القضاء المصري شهد في هذه الفترة عملية تصفية مقصودة ومدروسة أُبعدَ على إثرها الكثير من القضاة المحسوبين على تيارات المعارضة، والمشكوك في ولائهم المطلق للعهد الجديد. كان على رأس المستهدفين المصنفون في خانة الإسلاميين، وبالذات الإخوان المسلمون.
ما من شك أن في مصر جهاز قضاء عريقا يتوفر على رصيد وأسباب القوة والاستقلالية عن أجهزة الحكم الأخرى. غير أن هذا القضاء يعجز إلى حد بعيد عن حماية نفسه من هيمنة السياسة والحكم وتدخلهما في عمله.
مصر اليوم، عمليا، بلا مؤسسات حكم باستثناء المؤسسة الأمنية وهي خليط من شرطة وجيش ومخابرات. وهذه المؤسسة في خدمة سياسة وضعها رجل واحد أو مجموعة ضيقة محيطة به واستطاعت أن تحيِّد كل الأجهزة الأخرى من صحافة وقضاء ومنظمات مجتمع مدني.
أسوأ من ذلك، أن المؤسسة الأقوى لم تكتف بتحييد الآخرين بل وضعتهم تحت تصرفها مثلما يحدث مع وسائل الإعلام والمحطات التلفزيونية الفضائية، وتستعملهم في توجيه المجتمع وقمعه عندما يتطلب الأمر.
من هنا يصبح المشهد في مصر اليوم أن القضاة والعاملين في جهاز العدالة يتعرضون لكمِّ هائل من الضغوط السياسية والإعلامية بحكم أنهم يعملون في أجواء مشحونة وموجهة ليست في صالحهم. لكن هذا لا يكفي ولا يشفع لأحد، لأن الأجواء المشحونة والضغوط تعني في ما تعنيه سوء التقدير وإصدار أحكام خاطئة أو غير مقنعة، بينما القضاء في مصر اليوم لا يصدر أحكاما خاطئة بل موجه نحو إصدار أحكام مدروسة بعناية وتحمل الكثير من الدلالات والرمزية السياسية.
فضلا عن غياب المؤسسات، مصر بلا جهات تستطيع الاعتراض أو المحاسبة أو تدفع جهات الحكم الى التفكير مرتين قبل اتخاذ قرار ما: لا مجتمع مدني، لا أحزاب، ولا حركات شبابية.. كلٌ نال المصير الذي «يستحقه» ووُضع في الرف الذي يليق به. هكذا قرر العسكر.
وسط هذه الظروف غير السويّة لا يمكن لعاقل أن يتوقع غير أحكام قضائية مسيّسة وموجهة، وغير الحكم ونقيضه. ولا يحق لعاقل أن يستغرب أو يستهجن تصنيف حماس منظمة إرهابية.
حتى في عهد حسني مبارك كان القضاء أقل انصياعاً للجهات الحكومية والسياسية، وأقل تأثراً بالضغوط والظروف المحيطة به، لأن البلاد لم تكن تعيش هذا التوتر السياسي والأمني. كانت ديكتاتورية مستقرة ثابتة وأقل ارتباكاً من نظام الحكم الحالي.
وسط هذه الأجواء المشحونة وغير السويّة لا يحتاج وزير العدل أو النائب العام إلى الاتصال بالقاضي ليملي عليه حكما معينا في قضية بعينها. القاضي وحده، مع جرعة قليلة جدا من الاعتزاز الذاتي والقومي، يصدر احكاما من النوع الذي نشاهد هذه الأيام. ومن حق المسؤولين الحكوميين بعد ذلك أن يصرخوا عاليا وباعتزاز بأن القضاء مستقل وبأنهم لا يتدخلون في عمله.
وهم على حق لأن هذا القضاء، والظروف ككل، وفرا عليهم التدخل ورفعا عنهم الحرج.
(نقلا عن صحيفة القدس العربي)