لا شك أن قرار الرئيس التركي رجب طيب
أردوغان، تعيين
هاكان فيدان مدير الاستخبارات، وزيرا للخارجية التركية، عقب فوزه بولاية رئاسية جديدة، شكل علامة فارقة تشير إلى عزم أنقرة اتخاذ توجهات جديدة في تفاعلاتها الدبلوماسية، مع محيطها والقوى الفاعلة في العالم.
وجاء تعيين هاكان فيدان، الذي عمل 13 عاما مديرا لجهاز الاستخبارات التركي، على رأس الدبلوماسية التركية في إطار التوجه الجديد الذي انتهجه أردوغان خلال السنوات الثلاث الأخيرة، الذي يسعى إلى تصفير المشكلات مع دول المنطقة خصوصا والعالمية عموما، لاسيما أن جل الخلافات التي تضرب العلاقات التركية مع العديد من القوى الفاعلة تتعلق بجوانب أمنية، لدى هاكان باع طويل في التعامل معها.
تعزيز "صفر مشكلات"
وفي حزيران /يونيو الماضي، سارع أردوغان عقب فوزه بولاية رئاسية ثالثة تمتد حتى عام 2028 إلى إقصاء جميع وزراء حكومته السابقة عدا وزيري الصحة والسياحة، مشكّلا حكومة جديدة تمثلت أبرز مفاجآتها في تعيين هاكان فيدان وزيرا للخارجية، وهو الشخص الملقب بـ "رجل الظل" في
تركيا، الذي اعتاد الأتراك التساؤل حول ماهية صوته بسبب ندرة ظهوره الإعلامي.
وشهدت السياسات الخارجية التركية خلال الشهور التي تلت تقليد فيدان مهام منصبه الجديد، نقلة نوعية حيث توجهت أنقرة بشكل ملحوظ وبوتيرة متسارعة نحو تخفيف حدة التوترات على الجبهات الدبلوماسية كافة قدر المستطاع، لاسيما مع مصر ومنطقة الخليج ودولة الاحتلال، إلا أن عدوان الأخير الوحشي على قطاع غزة أعادت الاضطرابات بين الجانبين إلى ذروتها.
الباحث في الشؤون التركية، محمود علوش، أشار إلى أن
عام 2023، خصوصا مع تعيين هاكان فيدان على رأس الدبلوماسية التركية خلفا لمولود غاويش أوغلو، شهد انتقال تركيا إلى المرحلة الثانية من إعادة تصفير المشكلات مع القوى الفاعلة في المنطقة.
وقال في حديثه لـ"عربي21"؛ إن تركيا استطاعت إعادة العلاقات الدبلوماسية بشكل كامل مع مصر وإسرائيل، فضلا عن دخولها في حوار مع النظام السوري، إضافة إلى تحولات السياسات التركية تجاه الغرب، والنهج التركي الجديد نحو إعادة إصلاح العلاقات مع الدول الغربية.
ولفت علوش، إلى أن تعيين هاكان فيدان في منصب وزير الخارجية، كان من أهم التحولات التي طرأت على السياسات التركية الخارجية بعد فوز أردوغان بولاية رئاسية جديدة.
وأضاف أن هذا التعيين يعكس رغبة أردوغان في الموازنة والمواءمة بين الأمن والدبلوماسية في السياسة الخارجية التركية في المرحلة الجديدة، خصوصا أن فيدان بحكم عمله في جهاز الاستخبارات كان لديه خبرة كبيرة في مجال الأمن والاستخبارات، مبيّنا أن هذا المجال من الجوانب الأساسية التي تشكل علاقات تركيا مع القوى الفاعلة، سواء في محيطها الإقليمي أو على مستوى العلاقات مع روسيا والدول الغربية.
وأتى اختيار هاكان فيدان تتويجا لرؤية الرئيس التركي لتوجهات سياسات بلاده الخارجية خلال ولايته الجديدة، التي كشف عن خطوطها العريضة في أول خطاب النصر الذي ألقاه عشية فوزه بالانتخابات الرئاسية.
حينها، شدد أردوغان على أن المجتمع الدولي سيشهد المزيد من المبادرات التركية في حل الأزمات العالمية، موضحا أن وجهة بلاده ستكون إلى الشرق والغرب في الوقت ذاته، للعمل مع جميع الشركاء على تأسيس نظام عالمي أكثر عدلا، بحسب تعبيره.
وعلى الصعيد الدبلوماسي، أوضح الرئيس التركي عزم بلاده "توسيع نطاق تأثير الدبلوماسية الريادية والإنسانية".
وشكلت توجهات أردوغان الجديدة في السياسات الخارجية، المتوافقة مع رؤية "قرن تركيا"، محور تحركات هاكان فيدان ونشاطه الدبلوماسي، حيث "ساعد إلى حد كبير في القيام بمبادرات مهمة خلال عام 2023"، كما يقول علوش.
رؤية هاكان للسياسات الخارجية
من جهته، أوضح هاكان بنفسه الأهداف الدبلوماسية الرئيسية التي يضعها في مرمى ناظريه خلال عمله على رأس الدبلوماسية التركية.
وأشار هاكان في مقال نشره باللغة الإنجليزية في الرابع من تشرين الأول /أكتوبر الماضي في مجلة "Insight Turkey" الدولية، الصادرة عن المركز الحكومي للدراسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التركية "سيتا"، إلى أن بلاده تهدف للمساهمة في نظام دولي قائم على التضامن لا القطبية.
وأضاف في المقال الذي حمل عنوان "السياسة الخارجية التركية في قرن تركيا: المصاعب، الرؤية، الأهداف والتحول"، أن "النظام الدولي الذي تهدف إليه تركيا يتجاوز المفهوم التقليدي للنظام الدولي الذي تحدده القطبية، سواء كان أحادي القطب أو ثنائي القطب أو متعدد الأقطاب"، وفقا للأناضول.
وأعرب عن رغبة الحكومة في أن تكون حلا للمشاكل في ما يسمى "قرن تركيا"، موضحا أنها تريد إنشاء نظام دولي يقوم على التضامن بدلا من الاستقطاب.
وشدد على أن تركيا "تهدف إلى المساهمة في نظام دولي أكثر شمولا وفعالية وعدالة وأمانا قادرا على مواجهة التحديات العالمية والإقليمية الحالية؛ نظام متين يقوم على التضامن، لا القطبية"، موضحا أن رؤية بلاده للمساهمة في السلام والأمن بالمنطقة مبنية على شقين اثنين، الأول منهما هو "القضاء على عناصر التهديدات ومكافحة الصعوبات"، والجانب الثاني هو "استكشاف الفرص لنماذج التعاون السياسي".
ورغم الدلالات المهمة التي يحملها مقال نشر باسم وزير خارجية لدولة ذات ثقل إقليمي مثل تركيا، إلا أن ما نشره هاكان فيدان لم يلق صدى واسعا، فيما أرجع مراقبون ذلك إلى تزامنه مع بدء العدوان على غزة، وتحدث آخرون أن ذلك يرجع لعدم طرحه شيئا جديدا مختلفا عما كان الرئيس التركي قد حدده للسياسات الخارجية.
وقال الدبلوماسي التركي المتقاعد، سليم كونيرالب؛ إنه "من المتوقع أن يكون لمثل هذه الدراسة الشاملة التي يجريها وزير الخارجية تأثير كبير. وحقيقة أنها لم تحدث تأثيرا كبيرا قد ترجع إلى حقيقة أن محتوى المقال لم يتجاوز حدود المعتاد. وهذا دليل جديد، إذا لزم الأمر، على أن السياسة الخارجية التركية في ورطة، كما قيل دائما"، بحسب تعبيره.
وأضاف في مقال بمجلة "
سيربستيه" التركية، أنه "يبدو أن الخطاب الهادئ وغير العدواني لفيدان يتماشى مع الخط الذي اتبعه منذ توليه منصبه. ومع ذلك، في تركيا اليوم، بغض النظر عن مدى كفاءة وزير الخارجية، فإن الكلمة الأولى والأخيرة تعود للشخص الموجود في الأعلى"، في إشارة إلى الرئيس التركي.
من جهته، تحدث الدبلوماسي التركي السابق فاروق لوغ أوغلو عن نهج هاكان فيدان في السياسات التركية الخارجية منذ توليه منصبه، موضحا أنه "لا يوجد فرق كبير لأن الرئيس أردوغان يواصل تحديد السياسة الرئيسية".
وأضاف في حديث سابق لوكالة "سبوتنيك تركيا"، أن "هاكان فيدان يختلف عن سابقه تشاووش أوغلو بأسلوب دبلوماسي أكثر ليونة".
ما أثر الانتقال من الظل إلى الدبلوماسية؟
وحول النقلة النوعية من جهاز الاستخبارات والعمل وراء الكواليس إلى أضواء الدبلوماسية، شدد أوغلو على أن الانتقال من عالم سري للغاية إلى عالم مفتوح وشفاف، قد يكون تسبب في مواجهة هاكان بعض الصعوبات.
الباحث بالشأن التركي، محمود علوش، تطرق بدوره خلال حديثه لـ"عربي21" حول هذه الجزئية، موضحا أنه "من الصعب دون أدنى شك على شخصية أدت دورا كبيرا في مجال إدارة الاستخبارات لما يقرب من عقد من الزمن، أن تبرز كفاءتها بسرعة في السياسة الخارجية التركية".
وأضاف أن الحقيقة كانت أن هاكان فيدان رغم أنه كان مديرا لجهاز الاستخبارات، إلا أنه كان مطلعا بشكل كبير على ملفات السياسة الخارجية، وكان أحد العوامل المشكلة لهذه السياسة، خصوصا فيما يتعلق بالجوانب الأمنية والاستخباراتية، التي تأخذ الحيز الأكبر من التفاعلات التركية مع القوى الفاعلة مثل روسيا والولايات المتحدة ودول المنطقة.
وأشار إلى أن فيدان معروف لدى جميع نظرائه الذين يتعاملون معه اليوم، بحكم أنه كان يؤدي دور خلف الكواليس في مجالات الأمن والاستخبارات، التي هي جزء من السياسات الخارجية التركية، وكل هذه العوامل ساعدت فيدان في إبراز كفاءته بشكل سريع في إدارة السياسة الخارجية.
وأوضح علوش أن" نتائج هذه الكفاءة ظهرت في غضون 6 أشهر، حيث استطاع فيدان أن يقود السياسة التركية نحو مبادرات مهمة، على غرار إعادة تطبيع العلاقات الدبلوماسية مع مصر وإسرائيل والوصول إلى مستويات متقدمة في الحوار مع النظام السوري، فضلا عن إعادة تشكيل العلاقات مع الغرب"، معتبرا أن فيدان نجح بشكل سريع في إثبات قدرته على أداء دور في إدارة السياسة الخارجية، لا يقل عن الدور الذي أداه فيما لا يقل عن عقد من الزمن في إدارة جهاز الاستخبارات.
كما لفت علوش إلى أن فيدان يملك معرفة أكاديمية في المجال الدبلوماسي، بحكم أن لديه شهادة جامعية في العلوم السياسية من جامعة "ماريلاند" الأمريكية.
وكان هاكان قد توجه أيضا إلى الحياة الأكاديمية، حيث ألقى محاضرات في مجال العلاقات الدولية بجامعة "حاجتبه" وجامعة "بيلكنت"، التي أنجز فيها رسالتي الماجستير والدكتوراه حول دور الاستخبارات في السياسة الخارجية التركية.
وفي حين تطوي تركيا العام الجاري بعد أحداث استثنائية مرت بها على الصعد كافة، يُتوقع أن تواصل السياسة التركية نهجها حول تصفير المشكلات مع دول المنطقة والقوى الفاعلة حول العالم، فضلا عن تعميق شراكتها الجديدة مع منطقة الخليج العربي، وفقا لعلوش.
وأشار علوش إلى أن عام 2024، سيكون في تقديره عام اختبار مهم للعلاقات التركية الغربية بشكل أساسي، موضحا أن الملفات السياسية المطروحة على جدول العلاقات التركية الغربية خلال 2024 تتمثل في ملف عضوية السويد، بالإضافة إلى ملف مقاتلات إف16، فضلا عن العلاقات التركية الأوروبية، ورغبة تركيا في تحديث اتفاقية التبادل الجمركي وتحرير التأشيرة.