يقف الإنسان في هذه اللحظات الدقيقة التي تمر بها
غزة، بعد أكثر من خمسين
يوما على العدوان وأربعة أيام من الهدنة، بخشوع أمام جلال ما حدث في أسابيع
العدوان الثقيلة وتصدي
المقاومة له، والأيام التي أنجزت فيها المقاومة هدنة وصفقة
تبادل للأسرى مع المحتجزين لديها في غزة.. نشهد لحظات ممزوجة بالألم عاشها الشعب
الفلسطيني من فداحة العدوان الشامل على غزة، وبالفرح لتحرير أسيرات وأسرى فلسطين
من سجون الاحتلال.
بالنسبة للفلسطينيين وللشارع العربي، كانت عملية طوفان الأقصى حدثا كاشفا
بكل معنى الكلمة، فلقد أبانت ليس فقط استحالة قدرة إسرائيل على السيطرة كل الوقت
عسكريا، بل وإمكانية التصدي لهذه الغطرسة والعنجهية لمن يريد أن يغادر فرضياته
القديمة عن أسطرة العدو أمام جيوش أنظمة عربية انكشفت مهامها ووظائفها منذ اندلاع
الثورات العربية وتفعيل هذه الجيوش في الثورات المضادة.
كانت عملية طوفان الأقصى حدثا كاشفا بكل معنى الكلمة، فلقد أبانت ليس فقط استحالة قدرة إسرائيل على السيطرة كل الوقت عسكريا، بل وإمكانية التصدي لهذه الغطرسة والعنجهية لمن يريد أن يغادر فرضياته القديمة عن أسطرة العدو أمام جيوش أنظمة عربية انكشفت مهامها ووظائفها منذ اندلاع الثورات العربية وتفعيل هذه الجيوش في الثورات المضادة
على أية حال، العدوان المستمر في مدن الضفة النازفة شهداء وجرحى ومعتقلين،
من جنين شمالا إلى الخليل جنوبا مرورا بالقدس ونابلس وطولكرم وأريحا وبقية الأرض
الفلسطينية، يشكل إلى جانب هذا المشهد الغزي صوره متكاملة ترك فيها العدوان أثرا كبيرا
من الحطام والشهداء والجرحى، وكشف عن جرائم كبيرة عمد الاحتلال لارتكابها كعقاب
جماعي لغزة تُضاف لجرائم كثيرة مصنفة بالقانون الدولي والانساني من جرائم الإبادة
والحرب وضد الإنسانية إلى جريمة التطهير العرقي، وما كان لها أن تحدث بهذه الفظاعة
لولا تخلي بعض النظام الرسمي العربي عن غزة وبطريقة مهينة ومذلة.
بمرارة المواقف العربية والدولية، تذوق الشعب الفلسطيني مُجددا مذاق
الخديعة وكلفتها العالية جدا من دماء أبنائه. فكانت الهدنة لإدخال مساعدات قليلة
بعد تدمير القطاع الصحي في غزة وكل القطاعات الحيوية التي تجعل حياة الفلسطينيين
في غزة مستحيلة وأكثر قسوة، بعدما عجز المجتمع الدولي والنظام العربي عن مد يد
العون لغزة، وبقي يتفرج عليها على مدار الساعة بمراقبة "فنون" جرائم
الاحتلال الصهيوني في استهداف كل شيء مُحرم على الهواء مباشرة؛ في بث تلفزيوني لم
يدفع بحمية العرب ولا بقوانين النفاق الدولي للتحرك العاجل لوقف العدوان.
علقم المواقف العربية من العدوان الصهيوني الشامل، وإعلان البعض بأعلى
الصوت وقوفهم لجانب المحتل وتبني روايته المُبررة لوحشيته، ووقوف البعض الآخر درعا
حاميا يصون حدود المحتل رغم تعاظم المذبحة، بقيت أصابع عربية تتحرك وتعبث في
الخفاء والعلن ووجدت لها بعض الصدى في تل أبيب وواشنطن، فدفع الغزيون دمهم ثمنا
لهذه المواقف؛ التي يبقى فيها موقف السلطة الفلسطينية هو الأبرز في مشهد الحدث
الفلسطيني، في أسابيع العدوان وأيام الهدنة وتبادل الأسرى.
غاب الرئيس عن مشهد الترحيب بالأسرى أو احتضانهم، لكن ألسن فلسطينية رسمية
ونخبوية لعلعت كثيرا في أسابيع العدوان رغم تعميم الرئيس لأعضاء السلطة الالتزام
بالصمت وعدم التعليق على ما حدث في غزة " طوفان الأقصى"، ثم تطور الأمر
الى أن نطق نبيل أبو ردينة، مستشار أبي مازن، في لقاء مع قناة "الحرة"
التلفزيونية، أنه لا علاقة للسلطة بما يجري من مواجهة بين حماس وإسرائيل في
غزة". وهو محق بذلك، فالسلطة لا علاقة لها بكل ما يجري على الأرض، لا في غزة
ولا في مدن الضفة والقدس والداخل الفلسطيني المحتل عام 48، باستثناء ما بات معروفا
لدى الشارع الفلسطيني عن عمل وفاعلية أجهزة الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية
المنصبّة على قمع الشارع الفلسطيني، وملاحقة أي تحرك يشكل خطرا على الاحتلال أو
يعيق مشاريعه.
بموازاة العدوان الشامل على غزة، يشن الاحتلال عدوانا واسعا على كل المدن
الفلسطينية المحتلة بالضفة والقدس وبحصيلة شهداء مرتفعة أيضا، وكما كل جولة عدوان
يكون فيها الغائب أمن السلطة الفلسطينية الذي يظهر عندما ينتهي الاحتلال من عدوانه،
ويحاول أن يستعرض عضلاته على الشارع الفلسطيني.
انبرت بعض الألسنة والأبواق العربية والفلسطينية للتقليل من كل ما جرى، بالتركيز على جوانب الكلفة البشرية والمادية التي يدفع ثمنها الشعب الفلسطيني؛ ليس بسبب وحشية الاحتلال وطبيعته العنصرية والسادية الفاشية بالتعاطي مع الشعب الفلسطيني، بل لأسباب تتعلق بالطعن بالمقاومة، وتركيز الهجوم عليها، وبالعزف على وتر مشروخ لم ينته منذ الانقسام الفلسطيني مرورا بالثورات العربية وانتهاء بعملية طوفان الأقصى، فهناك محاولات بائسة للتقليل من شأن الإنجازات والابتعاد عنها ومحاصرتها وحتى لا تكون نموذجا
وبعد ما صنعته المقاومة في عملية "طوفان الأقصى" وبالمواجهة التي
تخوضها في غزة، ثم إبرام صفقة التبادل، تغيب السلطة الفلسطينية عن المشهد المؤازر
والمساند للأسرى الفلسطينيين، ولتفادي إنجاز حركة المقاومة "حماس"
للصفقة انبرت بعض الألسنة والأبواق العربية والفلسطينية للتقليل من كل ما جرى،
بالتركيز على جوانب الكلفة البشرية والمادية التي يدفع ثمنها الشعب الفلسطيني؛ ليس
بسبب وحشية الاحتلال وطبيعته العنصرية والسادية الفاشية بالتعاطي مع الشعب
الفلسطيني، بل لأسباب تتعلق بالطعن بالمقاومة، وتركيز الهجوم عليها، وبالعزف على
وتر مشروخ لم ينته منذ الانقسام الفلسطيني مرورا بالثورات العربية وانتهاء بعملية
طوفان الأقصى، فهناك محاولات بائسة للتقليل من شأن الإنجازات والابتعاد عنها
ومحاصرتها وحتى لا تكون نموذجا وقدوة في الساحة الفلسطينية والعربية.
أخيرا، من قال إن غزة والمقاومة والشعب الفلسطيني كله، سينجز نصرا عسكريا
على إسرائيل وعلى الولايات المتحدة؟ ونعتقد أنه لا تدور في خلد الفلسطينيين أوهام
من هذا النوع، بقدر ما يسعى الضحايا الفلسطينيون لتحقيق انتصار سياسي ومعنوي
وأخلاقي وتاريخي يؤشر لتفكيك المشروع الاستعماري على أرض فلسطين في ظروف معينة، وهذه
طبيعة الثورات والشعوب الخاضعة للاحتلال، ولإنجاز كثير أو قليل من ذلك، الشعب
الفلسطيني بحاجة ماسة اليوم بعد أيام الهدنة وصفقة التبادل مع الاحتلال؛ لوضع أسس
وقواعد تمكنه من بحث ومناقشة أو معالجة الإخفاق الكبير في عملية السلام لعقود ثلاثة
ماضية، أسس تراعي حقيقة شرعية الحقوق الفلسطينية، لأن أي مسعى عربي أو دولي يحاول
أن يتجاوز عدالة الحقوق الفلسطينية مصيره الفشل، وكل تخل عربي وفلسطيني رسمي عن
أوراق المقاومة الرابحة من يديه ستكون أثمانه باهظة بغير البكاء على أطلال غزة. وقد
ذرفت السلطة الفلسطينية بتجربة العملية السلمية دموعا كثيرة على دولة لم تولد وعلى
قدسٍ تتهود وأرض تُسرق وشعب يقتل، وهي تحصي فقط تزايد عداد المستوطنين بعد تخليها
عن كل ورقة رابحة ليس آخرها الدفاع عن المقاومة، أو عدم الابتهاج بتحرير أسراها
والخضوع لتهديد بن غفير والبكاء فقط على أطلال غزة.
twitter.com/nizar_sahli