افتتح
الغنوشي عالم الكتابة بمقال صحفي في جريدة الصباح اليومية ناقد وساخر، "يمتدح"
فيه التحاق مدينته الحامة بركب التنمية من خلال فتح "خمارة". ذلك المقال
كشف عن البعدين الرئيسيين في اهتمامات الغنوشي التغييرية المبكرة، وهما البعد القيمي
والبعد السياسي.
اجتماع
هذين البعدين في مقاله "الافتتاحي" أعطيا البنية التكوينية لرؤيته التغييرية
والإصلاحية.
بعد
سنوات ثلاث افتتح الغنوشي عالم التأليف بكتاب كان مجرد صدوره عنوانا وتأليفا كاشفا
عن توجهات غير تقليدية متميزة عن التوجهات التي انطلقت بها الصحوة الإسلامية أواخر
الستينات وبداية السبعينات. فأول كتاب ألفه ونشره الشيخ هو كتاب: ما هو
الغرب؟ وكان
تأليفا مشتركا مع مصطفى النيفر شقيق احميدة النيفر.
لم يكن
مصطفى النيفر ضمن المجموعة ولم يكن "إسلاميا" بل كان مثقفا ناقدا مستقلا.
والكتاب والاشتراك في تأليفه مع مصطفى النيفر يحمل دلالات مهمة تكشف هي أيضا عن التوجهات
الفكرية والتغييرية الإصلاحية عند الغنوشي. فأن يكون أول تأليف مرتبط بالمسألة الحضارية
وليس العقائدية كما كانت أغلب اتجاهات التفكير في الصحوة آنئذ، وأن يتم تأليفه مع من
هو خارج "الصف"، إنما يشي بما سينضج مع الأيام من نزعة تتجاوز المنحى العقائدي
في التعامل مع الآخر الوطني وحتى الآخر الحضاري، إلى التركيز على التعامل المنهجي الذي
يبحث عن المشترك الحضاري والوطني. هذا الهم الحضاري دفع الغنوشي إلى أن يكون كتابه
الثاني يدور في نفس الدائرة ألا وهو كتاب: طريقنا إلى الحضارة.
الغنوشي
الذي كشف لاحقا - في طبعة ترجمة كتاب حول
الديمقراطية في الإسلام لمالك بنبي الذي ترجمه
بمعية الحبيب ريحان في السجن - عن ذلك الصراع النفسي والفكري الذي اعتمل في كيانه بين
منهج سيد قطب ومالك بنبي، والذي انتهى بانحيازه إلى رؤية بنبي ودون أن يسقط سيدا من
حسابه، هو الذي جعل النقد المزدوج خصيصة من خصائص بنيته الفكرية ونزعته التغييرية والإصلاحية.
فكان في كل ما يكتب حريصا كل الحرص على نقد الذات يقدر حرصه على نقد الآخر.
ففي
كل مسألة حضارية كانت أو سياسية أو قيمية أو تنظيمية تطرح على بساط التفكير أمامه كان
لا يفتأ يوجه سهام نقده للذات تصورا وممارسة وللآخر المقابل بنفس القدر. من هنا تبدو
مدرسة الغنوشي متميزة من حيث تلازم فعلي التأصيل والمعاصرة التي سيخلفها مبكرا مصطلح
التحديث والحداثة.
الغنوشي
الذي تأثر مبكرا بنظرية توينبي في أن "التاريخ احتفاظ وتجاوز"، جعل من ذلك
منهجا في تناول كل مسألة، فكان حريصا على تمييز ما علينا الاحتفاظ به من ذاتنا وما
علينا تجاوزه، وما علينا الأخذ به من غيرنا وما علينا عدم الأخذ به.
ما يلفت
الانتباه أن الغنوشي بقي وفيا لهذه النزعة في كل ما يكتب ويطرح من قضايا. وكان لا يستنكف
في جرأة نادرة عن أن يكون المبادر لتوجيه النقد الذاتي قبل غيره كل ما تعلق الأمر بالذات
حضارية كانت أو تغييرية سياسية أو تنظيمية أو شخصية. ففي دراسة تقدم بها كمساهمة في
تقييم تجربة الحركة ضمن مشروع الأولويات سنة 1982 وتسربت من "مدرسة يوسف"،
كان الغنوشي جريئا في تقديم نقد ذاتي نادر لتجربة الحركة التنظيمية والسياسية ومن ضمنها
أداؤه هو شخصيا كـ"أمير للجماعة". اعترف فيها بقصور أدائه الإداري وتردده
في الحسم في قضايا كانت تحتاج وضوحا وفي استسلامه لسطوة الجهاز التنظيمي.
بنفس
القدر الذي قدم فيه نقدا لضعف الأداء التنظيمي العام، ولما خضعت له الجماعة من تأثير
مشرقي جعلها تغفل عن الاهتمام بالإرث الوطني في مجال الفكر والإصلاح. ولخضوعها لمنطق
الاستقطاب الهووي من خلال التركيز على التصنيف العقائدي مقابل التصنيف السياسي الذي
كان على الجماعة التركيز عليه، وهو ما نبهت إليه مبكرا أحداث اجتماعية سياسية داخلية
(26 جانفي78/قفصة80) وأحداث خارجية أهمها الثورة الإيرانية.
غالبا
ما كان الغنوشي يسبق جماعته في متابعة التحولات الفكرية والسياسية، في نفس الوقت الذي
كان فيه قادرا على احتضان التطلعات التجديدية. ومن هذا المنطلق تعامل مع "الحركية
الفكرية" التي دبت في الحركة مبكرا من طرف احميدة وجماعته بروح أوسع من روح التنظيم
الذي يغلب عليه المحافظة داخل المدرسة الفكرية المهيمنة في ذلك الوقت، وهو نفس التعاطي
الذي تعاطاه مع الجناح الطلابي الذي كانت الحركية الفكرية والسياسية في الجامعة تدفعه
إلى البحث عن آفاق أرحب من الإطار التنظيمي المنكفئ على ذاته والمتوجس من الوافد عليه.
عاد
الغنوشي من جديد لـ"الغرب" في مقال مطول نشر في ثلاث أعداد من مجلة المعرفة
على وقع التحولات الداخلية والخارجية: داخل الجماعة وخارجها وداخل الصحوة وخارجها وداخل
تونس وخارجها. فكان حريصا على التزام نهجه في النقد المزدوج في جرأة ازدادت وتيرتها
مع حدة الأحداث داخل الحركة وخارجها. كان النص/المقال يحمل من نقد الموروث بقدر ما
حمل من نقد الوافد. ومحاولا نهج طريق لا يقتصر على "الهدم" بل يستخلص ما
لا بد من الاحتفاظ به من الذات، ومما لا بد من الأخذ به من الغرب.
وقد
حدد الغنوشي مبكرا أي منذ سنة 1978 في مقاله ذاك الجوانب الإيجابية في الحضارة الغربية
بمنظور يتجاوز التقييم التقليدي الذي درج عليه رموز الصحوة الإسلامية وقتها، مؤكدا
على الجوانب المنهجية ذات الطابع الفلسفي المضموني وليس فقط المتعلقة بالاستفادة من
الاكتشافات التقنية. فتحدث عن التحولات الإيجابية التي ارتبطت بـ"تحرير الإنسان"
باعتبارها أهم ما أنجزه الغرب، وهو ما سيكون من أهم مراجع الفكر السياسي للغنوشي وبناء
رؤيته في التغيير والإصلاح. يقول: "ومن ثمار ذلك شعور الإنسان بقيمة
الحرية على
أنها بعد أساسي من أبعاد وجودنا إن لم تكن هي البعد الحقيقي له. ويستتبع هذا الشعور:
1- إدراك
الإنسان أنه مسؤول عن وجوده مسؤولية كاملة فلا يلقي تبعات أعماله على قوى خارجية ظاهرة
أو خفية.
2- التمرد
على كل سلطة تستبد بالإنسان وتنال من استقلاله وحقوقه فلا يتردد في العمل على الإطاحة
بها، حتى أن تاريخ الغرب ثورات متواصلة من الثورات والرفض.
3- والنظام
الديمقراطي هو الآخر ثمرة من ثمار شعور الإنسان بحريته واستقلاله. إذ يقوم هذا النظام
على الاعتقاد أن المجتمع إنما وجد نتيجة التعاقد بين مجموعة من الأفراد على العيش المشترك
يحكمون أنفسهم بواسطة سلطة تعبر عن إرادتهم المشتركة ... ومن هذا الأساس تستمد السلطة
شرعيتها. إنها تعبر عن إرادة الشعب الذي يتولى رقابتها بواسطة نوابه وصحفه ويجابهها
بلوائح اللوم إن هي أخطأت ويسقطها إن هي أصرت. بينما كانت أنظمة الحكم في ما سبق تستمد
شرعيتها من حقوق وهمية تاريخية أو دينية كادعاء الملك أنه ظل الله في الأرض فلا يسأل
عما يفعل. فالديمقراطية
صححت هذا الوضع المقلوب فجعلت الحكومة خادمة للشعب واستعاد بها الإنسان حقه من أنه
هو الأصل وليس الدولة".
تعمدت
نقل هذا النص لأهميته ولمحوريته في فكر الغنوشي، رغم أن ذلك لم يمنعه من إحاطته بسياج
من النسبية، حينما تحدث عن أن تحرير الإنسان في الغرب افتقد إلى قاعدة وجودية صلبة،
وأن الديمقراطية مثلا لم تسلم من التلاعب بها من طرف أصحاب المال.
يختم
الغنوشي مقاله بخلاصة أن ما في الغرب من إيجابيات هي جزء من "برنامج الإسلام"
الذي استوعبها ووضع لها أسسا وجودية وقيمية أعمق وأسلم من التي وضعها الغرب، ومن هنا
قصوره - أي الغرب - الذي تحدث عنه فلاسفته ومفكروه. لكنه لا يقدم خلاصته بالطريقة الدغمائية
المنتشرة في فضاء الصحوة حينها ولعلها مستمرة عند قطاع عريض حتى الآن. إنه يقدمها بروح
خالية من عقد النقص وأيضا عقد الاستعلاء الذي تغلب عليه المكابرة وليس الوعي الدقيق
بما في الإسلام من عناصر القوة.
المتابع
للغنوشي والدارس لما كتبه ولما قاله وما فعله، يلاحظ أنه بقدر ما كان يمتلك جرأة في
الصدع بما يرى في أي وضع كان وفي أي مناسبة و أي قضية، إلا أنه كان شديد الحرص على
الاستماع لمخالفيه وخصومه وأعدائه في الداخل والخارج، ومستعدا دائما للحوار. وبقدر
ما كان حريصا على جرأته إلا أنه لا يتواني عن استعمال الطرق البيداغوجية المختلفة التي
تجعل لفكرته مسالك في عقول وقلوب الآخرين، مدركا ما في تعدد المخاطبين واختلاف مراتبهم
من صعوبة في استقبال ما يقول. وحين "ينتشي" البعض طربا بما يقول "يصرخ"
آخر غضبا فيشنع عليه ما قال. لذا فلا عجب أن قامت عليه حملات في داخل حركته وخارجها
أحيانا لموقف أبداه أو فكرة نادى بها.
من ذلك
موقف النقد الذاتي للحركة الإسلامية في ندوة الحوار القومي الديني في القاهرة سنة
1989 التي جمعت لأول مرة القوميين والإسلاميين. فقد كان موقفه مفاجئا وربما "صاعقا"
للطرفين. فقد وضع الطرفين في موقف حساس فلا القوميون كانوا قادرين على التسلح بتلك
الجرأة لنقد تجربتهم ولا الإسلاميين كذلك.
لقد
انشغلت بنقد الشيخ راشد الغنوشي زمنا، كنت أرى أن ذلك من واجبي. وكنت أقول له إننا
تلاميذك في هذا ... وكان للتاريخ يستقبل ذلك بصدر رحب. لكن ذلك لم يكن ليخفي عني تميزه
وثراء تجربته، وكونه يحمل مشروعا جمع بين فكر تجديدي ثاقب ورؤية تغييرية جامعة بناء
على قراءة عميقة لتراث الأمة وتاريخها وتأمل لا يقل عمقا لعوامل النهوض والسقوط فيها
صاهرا كل ذلك دائما على أرض الواقع، فالممارسة عنده وإن لم تكن حاكمة إلا أنها محكمة
فلا معنى للفكرة إن لم تر النور واقعا. ذلك الموقف الذي وسم شخصيته والذي استخلصه من
الجمع بين سيد قطب ومالك بنبي ... شخصيتان شديدتا الإيمان بما تكتبان فتحولت نصوصهما
إلى قوة دفع في الواقع .... سيد الذي حول القلوب إلى نار لا تنطفئ ومالك الذي جعل العقل
نورا لا يخبو ... وراشد جمع بينهما في شخصيته فأثمر ذلك النقد المزدوج وتلك الممارسة
الإصلاحية التغييرية التي لا تستنكف عن الخروج عن المألوف والسائد ... فلا مكان في
الحياة إلا للحركة ... للتغيير.
تلك
رسالته التي آمن بها واستمر عليها واستقبل بها وهو في عقد الثمانين السجن بتصميم ووضوح
رؤية وإصرار على الكدح إلى أن يلقى الله.
(صفحة الكاتب في
فيسبوك)