مدونات

مـديـنـتــي

إنه الوطن
صباح شاحب برداء خريفيّ، يحمل بعض أوراقٍ يبِستْ وكثيرا من الغبار. أطلّت أمّي، مسحت ملامح وجهها وَكَنَات الكسل من عينيّ، قسمات رزينة تومئ إلى حياة غير منعّمة. هي على أعتاب الأربعين، لكن شعاع الرّصد لم يَتُه في وجهها الفتيّ ليخدعك فتظنّ أنها أقل عمرا بعشر سنوات، قد يكون لذلك علاقة بطبيعتها فهي أقرب إلى التّصعيد، مع أنّ أبي صبور جدا.

عادات الصباح حجريّة، ومواقيته حديدية يصعب العبث بها، خصوصا عند رجل مثل والدي؛ ملتزم بعمله حتى العشق، لكن الأمر مختلف عندي.

- ماذا يحدث لو تغيّبت عن محاضرتي الأولى؟

- لا شيء.

إني بحاجة لسكنة صافية أفكّر فيها بروية، قرار كبير، لم تعد عندي رغبة في إطالة الروغ أكثر. أريد امرأة مثل أمّي..!

عيناها بداية إقلاعي، وأضِلّ طريقي، تستعر في صدري رغبة نارية باكتشافها، تبهرني المسارب، هسيس الأجراس يقودني -منذ زمن لم يهتزّ قلبي- شوارع بسقوف حجرية مقوّسة. عتمة يتخللها ضياء باهت يدفن الرهبة وتتسلق عليه الغبار فأمضي، أجوب المسارب المتشابكة، يرشدني ضوء يزداد وَهَجُه كلما مضيت إليه.

المسيح قد وهب هذه المدينة كل يوم حبا أكبر وعشقها حتى اختارته السماء، واغتالها من بعده الطين، تشقّق وجهها من تلوّح الشمس وجمُدت الأجراس.

تلك الحيرة في العينين حرّكت أجراسا صغيرة في مدينة تسكن جسدي وتتخلّل روحي، أتُراها شوكة من طوقه تلك التي أحدثت ندبا في الوجنة اليمنى بقدر لؤلؤة صغيرة. ذاك الطّوْق كان فداءً وهذا النّدب بداية دربٍ إلى السماء.

كان همّه البشر، ونحن همّنا الأرض، إنه الوطن يا صديقتي.

هل مؤمنون بلا جنّة؟ من هنا إذن نبدأ.

كفّاك تلوّحان كلّ مساء فتشيّعهما نظراتي مثل عصافير تنأى حتى تختفي، كم تشهّيْتُ تمريغ وجهي في تيْنك الراحتين، وأبكي حتى الثّمالة من فرحة بالتوحّد.

لكنّه الخريف يا صديقتي لم يزل يُنازل الأوراق ويصرعها، وبريحه يقلعها، وبعيداً يلقيها حيث تحتضر بتأنٍ مفجع، هه.. أتسمعين تُهْرَس أضلعها تحت وطء قدميه.. هه اسمعي.

إنه الشوك المزروع بيننا، سأبقى أمامه حتى يسيل النّدى من عروقي، ويكفّ وجهي عن كونه حشفا، وتكفّ راحتاك عن كونهما يبابا.

أتعرفين كيف أحبّ عيسى؟ كان قويا فانْتشى حبّه وأوْرق ثم تخلّف دِينا واتباعا.

قِفي بنا! الضّعف يرسُف -في أعناقنا- أغلاله ترددا حتى أصبحنا نخاف من الأشباح، أتدركين؟

وجع في قلبي، بتنا نخاف الهواء، أشباح.. هواء، وهل خُلقنا لنتوق لشيء كالْوَهْم، أو لأن نقول:

- لم يكن بمقدورنا.

هاتي رأسك أغمره بصدري، لو كنت جثّة لسرت حرارة هذا القلب في أوصالك حتى تتراقص الأغصان مع أهدابك، وتطير الحمائم مع كفيك فتلوّحان لحبيب قادم. أعشقك أيتها المدينة ولو أخفاك الطين عن عيني فأنت قلبي وأنت أمّي.. جوهرة.

ترقُّبٌ طال في عينيك حتى سهدتا، تصلّبت النّظرات حتى لم يعد لها معنىً، وتتساءلين:

- أتهَدَّمَ المجْدُ؟

- أو أنظر إلى فراغ؟

كل هذي الجموع ليست غبارا لكنّ شعاعَ شمسٍ واحدٍ يكشف عن وَهَنِه.

وأنا رابضٌ هنا لا أعطيك سوى الحب، بِتِّ لا تودين سماعي، فقد مللتِ وأرْمَدَ حبّي، بودّك لو ألفظ كل الكلمات من فمي، شوقي لذلك مثل تشوّقك لأن تطردي الغبار يعُجّ في رُباك، أتُراه يَسْلَم القلب فيرعى عهده ويدحَر الأيام أم ينكبّ على ما يقرب من اليد والعين وأنت البعيدة دوما. أتراه يغزو النسيان قلوع ذاكرتي التي تجوبين فيها ممسكةً بيدي.

أترين ما أرى، كانت بيوتنا من صفيح وحائطٍ خفيض، والآن كالداعرات يضطجعن بين ظهرانينا المركباتُ، تسلّلت لأرواحنا المدينة، أضواء ومالا ففزعتُ إليك وأنت حصنٌ بداخلي.

صليب يتلألأ فوق صدرها، لكن الطين يغطيها والأجراس كانت قتيلة.