الكتاب: "السلطان والثائر الفتان: صراع السلطة في شمال شرق المغرب
1902- 1907، مراسلات مختارة"
الكاتب: عكاشة برحاب
الناشر: دار القلم ط 1، الرباط 2018
عدد الصفحات: 510
1
عصفت ثورة "الروكي" باستقرار المغرب في بداية القرن
العشرين. فأنهكت الدولة وقوّضت الأمن وأنهكت الاقتصاد المتعثر بطبعه ومهّدت الطريق
لانتصاب الحماية الفرنسية. ومن خلال مراسلات المخزن المعتمدة لمحاولة التصدي لها،
يعود أثر "السلطان والثائر الفتان" إلى بعض تفاصيل حركة التمرّد التي
كادت أن تعصف بالحكم العلوي في المغرب بعد قرن ونصف من الاستقرار والتي قادها "الجيلالي
الزرهوني" في نهاية سنة 1902 منطلقا من ناحية تازة ثم اتجه إلى الشرق
المغربي. ويعود فضل هذا الكتاب إلى عرض ما تبادلته السلطة من أمناء محليين للجيش
وسلطات جهوية ووزراء وممثلي السلطة المركزية، من المراسلات للتصدي لهذه الحركة أو
لطلب مساعدة القوات الفرنسية.
2
ولهذه الحركة سياق سياسي واجتماعي محفّز. فقد تولى السلطان عبد
العزيز السلطة سنة ولم يتجاوز 16 سنة 1894، بعد وفاة أبيه الحسن الأول إثر مرض ألم
به وهو في الطريق بمنطقة تادلة. ولحداثة الصبي كلّف السّلطان حاجبه أحمد بن موسى
الشرقي المعروف بـ"ـبا أحمد" بزمام البيعة لابنه الأصغر. ولكنّ الحاجب استولى عمليا على السلطة. وبعد
وفاته سنة 1900 استعاد السلطان الحدث نفوذه، فحاول تنفيذ إصلاح جبائي موجع ليجابه الصعوبات
المالية التي كانت تعترض الدولة عُرف باسم "الترتيب" ولكنه كان في الآن
نفسه ينغمس في حياة البذخ وينفق على ترفه الأموال الطّائلة. وهذا ما أثار الغضب
ضده فظهر معارضون لحكمه. وسيعمل الروكي الذي كانت عينه على السلطة على توظيفه في محاولة الاستيلاء على العرش معوّلا على
مساعدة الدول الأوربية التي تراقب الوضع في البلاد وكل منها يتحيّن الظرف المناسب
للتحكّم في مصير البلاد دونا عن بقية منافسيه.
3
كان الاستيلاء على العرش البوصلة التي توجه مختلف أعمال الجيلالي
الزرهوني قبل إعلانه لثورته. فقد في الجيش
طالبا مهندسا وعقد صلات بالأمير أبي حفص شقيق السلطان لمعرفة أسرار القصر وزوّر
توقيع الخليفة. ثم بعد أن خرج من السّجن ركب حمارة واتجه شرقا إلى الجزائر لخوض
تجربة روحية في زوايا مدينة غليزان قرب مستغانم ليجعلها رصيده في حشد الأتباع
ولاستثمار مظاهر التقوى في الإقناع بفساد الحكّام. وعند عودته أشاع بين الناس
موالاة السلطان ومخزنه إلى "الكفار الذين يحاولون فرض معتقداتهم على المغرب
وأهله" معوّلا على قدرته على التأثير في الحشود. وانتحل اسم مولاي محمد بن
السلطان الحسن الأول وادعى أنّ "شقيقه" السلطان عبد العزيز قد استولى
على ملك أبيه واستبد به دونه بعد أن رماه في السجن.
وعرف الرّجل بكنيات مختلفة عند مناوئيه. فهو بوحمارة، إشارة إلى
الدابة التي ركبها في تجربته الجزائرية وتحقيرا له لنزع ما يريد من وراء التجربة
من شرعية دينية. وكان المخزن العزيزي ينعته بأسماء متعددة منها الفاسد والشيطان
والملعون والزائغ. وغلبت على الوثائق كنيتا الثائر والفتّان وشاع بين الناس لقب
"الروكي"، وهو لقب كان يطلق على كل من يثور على السلطان منذ عهد محمد بن
عبد الرحمان.
4
أقام الرّوكي، في طريق عودته من الجزائر، بمدينة وجدة لبعض الوقت.
واتصل بقبائلها. وطاف بالأسواق لينشر دعوته، ويحرض الناس على معاداة السلطان عبد
العزيز. ووجد عندها قبولا لخطابه وفتنة ببلاغته ولأمل كان يحدوها في التصدّي
لمشروع الإصلاح الضريبي المرهق لها. فبايعته على نصرة الدين وتعهدت بحمايته. وشكّل
أنصارا واجهوا جيش السلطان، وحققوا بعض الانتصارات عليه. ثم احتل مدينة تازة
واتخذها مقر حكمه وخُطب على منابرها باسمه المنتحل "السلطان مولاي
محمد". ثم ولّى وجهه بداية من نيسان/ أبريل 1903 شطر شمال شرق المغرب فأوفد
رسله وأتباعه لبث دعوته بين قبائله واستمالتها إليه، وفي البال الحصول على منفذ
على البحر ييسّر له الاتصال بالخارج، والتزود بالأسلحة والذخائر الحربية. وحرص على
الاتصال بالسلطات الفرنسية في الغرب الجزائري، فبعث برسائله إلى حكام وهران
وتلمسان ومغنية ووجه كل اهتمامه للسيطرة على المناطق الشرقية والقضاء على القوات
المخزنية المرابطة بهاء وذلك اتقاء لكل هجوم على أنصاره وأتباعه.
5
فرضت انتصاراته وانتشار دعوته بين قبائل شمال شرق المغرب استسلام
غالبية قبائل الناحية الشرقية ودخول دخل قواته لمدينة وجدة بدون قتال بعد أن أحكم
محاصرتها. فبويع بها. ولمواجهة هذا التمرّد الكبير عوّل السلطان عبد العزيز على
القائد محمد الصغير بن البشير اليزناسي الذي كان معتقلا. وعمل على دحض ادعاءات
الروكي بانتسابه إلى العائلة العلوية وحاول تمتين الروابط بين المخزن الشرعي
والقبائل وعلى المصالحة بينها وجمع كلمتها على قتال الثائر ومؤازرة السلطة
الشرعية. وعوّل على الخطابات المكتوبة حينا وعلى بذل المال والعطاء حينا آخر.
وسريعا ما تراجع الروكي. فغادر وجدة بعد سقوط مدينة تازة 1903.
ثم أضعفت انقساماتٌ في جيشه وأخرى بين أنصاره من سكّان وجدة قوتَه
نحو العام 1905. وتخلت عديد القبائل عن موالاته خاصة بعد أن ثبت لديها اتصالاته
بالفرنسيين والإسبان وطلبه لمساعدتهم، وهو الذي كان يؤاخذ المخزن على ذلك. ويجعل
اتصاله بهم حجته للتمرّد على حكمهم.
6
مثل تمرّد الرّوكي هبة منحتها التقلبات السياسية لفرنسا المتأهبة
للانقضاض على البلاد. فاستجابت لطلب السلطان عبد العزيز بمساعدته في مواجهة هذا
التمرّد الذي يهدّد عرشه. وقدّمت له التسهيلات المختلفة مثل نقل الجنود والأسلحة
عبر الجزائر أو السماح للبعثة مخزنية بالاستقرار في مدينة مغنية القريبة من وجدة.
ولكن "لا ودّ بلا سبب". فقد جعلت من الأزمة المالية بعد أن فرض على
السلطان أن يتخلّى عن المشروع الضريبي (الترتيب) وبعد أن تضاعفت نفقات إخماد الثورة بابها لاستهداف المغرب. فعقدت اتفاقات
مع كل من إيطاليا وإسبانيا وأنجلترا، منافسيها على احتلاله. ثم عرضت قرضا مشروطا
على المخزن في العام 1904. واستثمرت في تمرّد الرّوكي. فكانت تبتز القصر بإيقاف
تعونها الذي ذكرنا ومساعد خصمه.
وبالفعل فقد عقدت معاملات تجارية مع الروكي. وكلما اعترضت قوات
المخزن قوافلها احتجت وطالبت بالتعويضات الضخمة ثم منحت أنصاره حق اللجوء إلى
الجزائر. وهكذا استمرت في إنهاك الطرفين تمهيدا لفرض الحماية التي ستتحقّق في 30
مارس 1912. "ويستفاد مما سبق، وفق الباحث، أن فرنسا قدمت المساعدة للمخزن
كلما قبل التعاون معها وخضع لمشاريعها الاستعمارية في المغرب وكلما أظهر رغبة في
حرية في التصرف وحرية في القرار حسب ما تقتضيه مصلحة البلاد بادرت إلى الادعاء
أنها تتبع
سياسة الحياد في الصراع الدائر في المغرب بين المخزن العزيزي والروكي".
7
أخذ الفرنسيون في السير حثيثا لتحقيق مبتغاهم بعد أن ضمنوا الذريعة
التي يحتجون بها أمام منافسيهم الغربيين. فدخلوا مدينة رأس عين بني مطهر في
جوان1904 بطلب من قائد المخزن العزيزي المرتبك أحمد الركنية أمام هجمات الروكي. ثم
احتلوا وجدة في مارس 1907 بذريعة مقتل طبيب فرنسي بمراكش، وكانت وقتها القوات
المخزنية منشغلة وقتها منشغلة بمواجهة التمرّد. وفي أوت انشق الأمير عبد الحفيظ
وأعلن نفسه سلطانا على مراكش. وهذا ما أضعف السلطان عبد العزيز كثيرا. وعالج نفسه
بالتي كانت هي الداء، فزاد من تقربه لفرنسا التي استغلت ضعفه وأخذت منه وجدة رهنا
نظير القرض. ثم منح الأمان للروكي في إطار مصالحة لإنقاذ العرش. ذلك أنه كان يرى
في انشقاق فرد من العائلة خطورة أكبر. واقترح عليه أن يتولى الحكم باسم السلطان
على منطقة شرق فاس.
سينزع أهل الحل والعقد بيعتهم المشروطة من السلطان عبد الحفيظ إثر توقيعه لمعاهدة الحماية الفرنسية بعدئذ، لتكون محصلة الصراع على السلطة قتل الروكي شرّ قتلة وعزل السلطان عبد العزيز ومن بعده السلطان عبد الحفيظ. وليست هذه النهاية غير إعادة لمآسي سابقة سببها شهوة السلطة وغير سوابق لمآسي لاحقة نعيشها اليوم في مختلف أصقاع بلداننا العربية.
ولكن حلم الروكي كان أكبر من حكم محلي. فرفض المقترح وقدّم بالمقابل
تنازلات لإسبانيا لم تفده بل أججت ثورة القبائل عليه وأفقدته قاعدته بشرق الريف
ودفعته إلى مغادرة المنطقة في 1908. وفي الآن نفسه أطيح بالسلطان عبد العزيز في
أوت 1908 بفتوى من فقهاء جامع القرويين بسبب ما عدّ خيانة كبرى للأمة "باعت
المغرب وأفرغت نصف الخزانة العامة" وحل محله أخوه عبد الحفيظ بن الحسن ببيعة
مشروطة.
8
يمكن أن ننزل نشر هذه الوثائق ضمن حركة نشيطة تشمل مختلف المباحث
والفنون في المغرب بعد الانفتاح السياسي، فتعود إلى مسائلة الذاكرة تمهيدا
للمصالحة مع الماضي. ويحسب للباحث النظر الجاد فيها وتحقيقها وترتيبها زمنيا
والتعليق عليها وحتى تكون الوثائق في متناول القارئ غير المختص عمل الكتاب على
تصديرها كل وثيقة بتقديم مقتضب يتضمّن التوضيحات الضرورية التي تحيط بالسياق
التاريخي أو تعرّف ببعض الشخصيات أو تشرح بعض الكلمات الخاصة بقاموس المخزن عندئذ.
لقد عرضت هذه الوثائق بوضوح مراحل الصراع بين السلطان عبد العزيز
والروكي في شمال شرق المغرب ما بين نهاية سنة 1902 ونهاية سنة 1907. ولكن للأسف
جاءت أحادية الصوت. فمصدر جلها مديرية الوثائق الملكية بالرباط وتضمنت الرسائل
التي صدرت على المستوى المركزي والمحلي
وتضمنت الوقائع من منظور المخزن العزيزي وعكست سياسة الدولة الرسمية، فيما غابت
مراسلات الروكي التي وجّهها إلى الأعيان والشرفاء وشيوخ الزوايا والقواد المعيّنين
من طرفه. ولعل ذلك أن يعود إلى إتلافها من قبل المرسل إليهم خوفا من بطش المخزن
العزيزي. ويستنتج الباحث عكاشة برحاب ذلك من واقعة مثبتة في الوثائق المنشورة.
ومدار الأمر على شيخ زاوية أولاد سيدي بن عزة. فقد كان بحوزته مراسلة من طرف
الروكي يذكر له فيها توقيره واحترامه. فكلّفته القتل والتشنيع .
9
عُزل السلطان عبد العزيز للأسباب التي ذكرنا أعلاه. وألقي القبض على
الروكي فجعل في قفص وظلّ يُعرض في فاس على
الملإ طيلة أيام حتى يتأكد الجميع بأنه ليس "مولاي امْحَمد" الذي تقمص
شخصيته والمطالبة بالعرش باسمه. وأُصدر الحكم بإعدامه رميا بالرصاص في مشور بلاطه
العامر بفاس، بعد رفض الأسود التي تم إيداعه في قفصها المعروض في ساحة البلاط،
التهامه، مكتفية بمذاق لحم وشحم أحد ذراعيه فقط. "وفي الأخير يتبين أن حصيلة
الصراع لم تفد أيا من الخصمين، حيث خرج السلطان عبد العزيز والروكي خاويا الوفاض،
إذ تم عزل عبد العزيز من طرف أخيه، وانسحب الروكي من المنطقة منكسرا حيث لقي حتفه
بعد ذلك إلا أن تركة هذا الصراع كانت ثقيلة على قبائل شمال شرق المغرب حيث ساد
الانقسام والشقاق بينها، وهو أثر لم ينمح بسهولة، مما أضعف تلك القبائل لما عزمت
على التصدي للاحتلال الفرنسي والإسباني بينما وقع تنسيق بين الحكومتين الفرنسية
والإسبانية لطرد الروكي من شمال شرق المغرب، وبذلك خلا الجو للحكومة الإسبانية
لمحاولة توسيع احتلالها"..
10
سينزع أهل الحل والعقد بيعتهم المشروطة من السلطان عبد الحفيظ إثر
توقيعه لمعاهدة الحماية الفرنسية بعدئذ، لتكون محصلة الصراع على السلطة قتل الروكي
شرّ قتلة وعزل السلطان عبد العزيز ومن بعده السلطان عبد الحفيظ. وليست هذه النهاية
غير إعادة لمآسي سابقة سببها شهوة السلطة وغير سوابق لمآسي لاحقة نعيشها اليوم في
مختلف أصقاع بلداننا العربية. ذلك أنّ شهوة السلطة واختزالها في المجد الشخصيّ
محصّنة ضد كل العِبر. فتظل أبد الدهر تعمي وتصمّ وتخرّب العمران.