لم تمثّل حالةٌ إقليمية
كابوسا للعرب شعوبا وأنظمة مثل ما مثلته الحالة التركية خلال العقد الأخير من
الزمن.
تركيا اليوم على باب انتخابات رئاسية وتشريعية هي الأهم في تاريخها وفي
تاريخ المنطقة وتاريخ الإقليم ككل بشهادة الخارج قبل الداخل. وليست الحرب
الإعلامية التي تُخاض ضد المرشح الرئيس طيب أردوغان في الغرب إلا دليلا على محورية
هذه الانتخابات المصيرية.
غربيا وأوروبيا وكذا
أمريكيا يمكن فهم الأسباب التي تفسر سبب الهجمة الإعلامية على رئيس تركيا لأنه نجح
خلال السنوات الخيرة في تحويل تركيا إلى قوة إقليمية ضاربة على كل المستويات وهو
ما يشكل تهديدا للمصالح الغربية. لقد كانت تركيا قبله بلدا تابعا للمنظومة
الأمريكية عبر القيادات العسكرية التي أخرت نهضة تركيا وأبقتها سجينة قائمة الدول
المتخلفة.
لماذا تشكل الحالة
التركية مصدر قلق للمنطقة
العربية؟ ومن هي الأطراف المعنية بهذا القلق؟ وكيف يتشكل
وعي العرب بالحالة التركية؟
تركيا وأثقال التاريخ
تاريخيا لا يمكن القفز
على معطيات أساسية تتعلق بقوة الحضور التركي على طول المساحة العربية من المشرق
إلى المغرب خلال القرون التي سبقت الحرب العالمية الأولى وصولا إلى سقوط الخلافة
1924. في هذه المساحة الزمنية حكمت تركيا عددا كبيرا من الدول العربية بشكل مباشر
أو غير مباشر وتركت بصمات واضحة هناك سلبا وإيجابا اختلف المؤرخون العرب في
تقييمها بسبب خضوع الروايات التاريخية إلى الإكراهات السياسية أو الأيديولوجية في
الغالب.
لكن القوى التي حكمت المنطقة
بعد الانسحاب العثماني والمتمثلة أساسا في القوى الفرنسية والبريطانية فقد اجتهدت
في شيطنة الحكم التركي ونجحت في تأليب العرب على العثمانيين مستفيدة من النفخ في
شرار النزعة القومية ومن سذاجة العرب الذين وعدتهم بريطانيا بدولة عربية موحدة بعد
هزيمة ألمانيا. لكن البريطانيين لم يكتفوا بخيانة وعودهم بل عمدوا إلى زرع الكيان
المحتل في قلب المنطقة وأشرفوا على كل الانقلابات العسكرية وتنصيب الدكتاتوريات
مشرقا ومغربا إلى جانب الفرنسيين.
انحسر الوجود التركي في
البلاد العربية بعد وصول العلمانيين إلى السلطة هناك حيث استطاع كمال أتاتورك فصل
تركيا عن محيطها العربي لغة وثقافة وتاريخا واقتصادا وهو يحلم بأنها ستتحول إلى
قلعة أوروبية. كذّبه التاريخ بأن كانت جذور تركيا المسلمة أقوى من رداء العلمانية
ثم أنكرته أوروبا وهيمنت على تركيا بسيطرتها على القرار السياسي عبر الانقلابات
العسكرية.
انقسم الشارع العربي من تركيا أردوغان انقساما فرأت فيه الشعوب رمزا سلاميا ورجلا صالحا وقف مع مطالب الشعوب خلال الثورات ورفض الهيمنة الغربية وحقق لشعبه سيادة وكرامة مفقودة. أما الأنظمة العربية باستثناء قطر تقريبا فقد رأت فيه تهديدا لعروشها لأنه يذكرها أولا بفسادها وتواطئها من جهة ولأنه يقدم إلى لشعوب العربية نموذجا حيا للتحرر من ربقة الهيمنة الغربية.
ثم وصل حزب العدالة
والتنمية إلى الرئاسة بانتخابات ديمقراطية منذ 2003 ونجح في وقت قياسي بتجاوز أقوى
الدول الأوروبية في القدرات العسكرية والتكنولوجية والاقتصادية. هنا تحولت تركيا
إلى عدوّ استراتيجي للدول الغربية بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية التي رعت
كل الانقلابات العسكرية فيها. فأوروبا لا تريد نهضة أية قوة إسلامية على أبوابها
خاصة وأن التاريخ المشترك بين أوروبا والإمبراطورية العثمانية كان قائما على
الصراع الذي امتد قرونا من الزمان.
لم تعد معاهدة سيفر
1920 ومن بعدها معاهدة لوزان 1923 سارية المفعول بعد انقضاء قرن على توقيعها ولم
تعد تركيا ملزمة ببنود المعاهدة المذلّة وهو الأمر الذي سيفتح جنحيها في المتوسط
والبحر الأسود وكامل محيطها مشرقا ومغربا. بناء عليه فإنّ القوى الغربية ترى في
هزيمة أردوغان وحزب العدالة والتنمية فرصتها الأخيرة لكبح جماح الصعود التركي خاصة
بعد فشل انقلاب 2016.
تركيا والعرب
إذا وضعنا أثقال
التاريخ المشترك جانبا واقتصرنا على المرحلة المعاصرة من تاريخ تركيا فإنها خلال
حكم أتاتورك ثم حكم الجنرالات لم تخرج تقريبا عن نفس المنوال العربي في الدول
الكبرى مثل مصر وسوريا والعراق والجزائر مثلا. لكنها نجحت خلال العقود الأخيرة في
التحرر من القبضة الأمريكية المباشرة وتمكنت من اجتثاث جزء كبير من القوى العميقة
التي كانت تكبّل الإرادة الوطنية. نجحت تركيا كذلك في تجاوز دائرة اللهب التي أشعلت حولها في البلقان وفي سوريا ومع اليونان وحتى العمليات الإرهابية التي
ضربتها في العمق.
لكن طور الثورات
العربية سارع بدفع الفاعل التركي إلى سطح الأحداث العربية المشتعلة في أكثر من
مناسبة وكان حضوره حاسما في مواقع كثيرة منها الصراع في ليبيا والمحاولة
الانقلابية خلال حصار قطر والصراع الدائر في سوريا بعد التدخل العسكري الروسي.
من هنا بدأ يتبلور موقف
عربي متباين من تركيا وخاصة من الرئيس أردوغان حيث انطلقت موجه كبيرة من الحملات
الإعلامية ضد تركيا متهمة إياها بمحاولة إحياء الخلافة وتمزيق الدول العربية كما
اتهمت بالأخونة وبدعم الإرهاب والإسلام السياسي ... وغيرها من التهم التي صاغتها
أذرع الثورات المضادة خلال فترة الربيع العربي.
انقسم الشارع العربي من
تركيا أردوغان انقساما فرأت فيه الشعوب رمزا سلاميا ورجلا صالحا وقف مع مطالب
الشعوب خلال الثورات ورفض الهيمنة الغربية وحقق لشعبه سيادة وكرامة مفقودة. أما
الأنظمة العربية باستثناء قطر تقريبا فقد رأت فيه تهديدا لعروشها لأنه يذكرها أولا
بفسادها وتواطئها من جهة ولأنه يقدم إلى لشعوب العربية نموذجا حيا للتحرر من ربقة
الهيمنة الغربية.
تركيا من جهة مقابلة
دولة مسلمة ودولة شرقية واقعة على أبواب أوروبا ومنغمسة بشكل مباشر في أغلب
الملفات العربية وهو ما حوّلها خلال السنوات الأخيرة إلى فاعل أساسي في الملفات
الإقليمية. بناء عليه فإن مراهنة النظام الرسمي العربي والنخب المرتبطة به على فشل
أردوغان "الإسلامي" هو موقف موضوعي لأنه ينسجم مع سعي هذا النظام إلى
منع ظهور أية تجربة إقليمية ناجحة قد تكون ملهمة لشعوب المنطقة.
من الصعب أن تعود تركيا
إلى منوال الدول العربية التي فاتها قطار التحرر بل هي ماضية في ترسيخ نموذجها
الحضاري بعيدا عن العدوى العربية. أما المنطقة العربية فلن يطول بها المكوث في قاع
الهاوية التي سقطت فيها لأن منطق التاريخ يأبى ذلك بعد أن استنفذ الاستبداد فيها
كل شروط وجوده. فإما أن تصنع نموذجا لنهضتها تحاكي به النموذج التركي مثلا أو أن
تتحول إلى كيانات متحلّلة تأبى دخول التاريخ.