بعد بضعة أعوام من رئاسة قيس سعيّد التي انتزعها من الشعب في انقلاب على "الديمقراطية"، أصبحت أوضاع
تونس ما بعد الثورة تقترب في سوئها مما كانت عليه ما قبلها، ويُتوقع أن تتجاوز تلك الحقبة السوداء التي كان فرسانها حكام مستبدون بدءا من الحبيب بورقيبة حتى زين العابدين بن علي.
في كلا العهدين، كان هناك شخص اسمه راشد
الغنوشي الذي انتمى في شبابه لجماعة الإخوان المسلمين، يرفع شعارات لا ترضي أولئك
الحكام. كان يدعو للحرية والتعددية والتداول على السلطة، كما لم يُخف حماسه
للديمقراطية. فكان مصيره الاعتقال والمحاكمة في عهد بورقيبة والهجرة في عهد بن
علي.
اعتقد الغنوشي الشاب أن تلك
"الديمقراطية" سوف تداوي علل الأمة في مجالات الحكم، وما أكثر ما طرح الرجل من
محاولات للمواءمة بين الإسلام والديمقراطية، محاولا تسويق المشروع الإسلامي للغرب،
متأثرا بمحاولات المرحوم حسن الترابي الذي كان قريبا منه، فكلاهما تربّى في أحضان
جماعة الإخوان المسلمين. وفات الغنوشي أن حماس الغرب للديمقراطية يتراجع باستمرار
من جهة، وأن الديمقراطية الغربية تقدّم المصلحة على المبدأ وليست وفيّة لنفسها، فضلا عن حماسها للدفاع عن حرية الآخرين. فأقصى ما حظي به هذا الشيخ الوقور بعد
اعتقاله، تصريحٌ خجول من فرنسا بأنها "قلقة" ولم تطالب بإطلاق سراحه. أما الخارجية
الأمريكية فقالت؛ "إن إلقاء القبض على زعيم حزب
النهضة المعارض في تونس راشد
الغنوشي وإغلاق مقرات الحزب وحظر اجتماعات جماعات معارضة، يمثل تصعيدا مقلقا من قبل
الحكومة التونسية". فقد اعتقل باتهامات مزيّفة تتبادلها أجهزة الأمن التابعة
لأنظمة الاستبداد في المنطقة. فما اتهم به الغنوشي لا يختلف لفظا أو جوهرا عن
الاتهامات التي اعتقل على أساسها محمد بديع في مصر أو سلمان العودة في السعودية، أو حسن مشيمع في البحرين، وغيرهم من سجناء الرأي في بقية أرجاء عالمنا
العربي.
لقد اجتهد نظام قيس سعيّد كثيرا لتوصيف
"الجرم" الذي ارتكبه الغنوشي ليكون مبررا لاعتقاله، فزعم أنه خطط لتنفيذ "انقلاب"
بعد أن قام الرئيس بحل البرلمان في 2021 وبدأ مباشرة الحكم بالمراسيم وصاغ دستورا
جديدا، واتضح أن المخطط الذي ينفذه سعيّد يتجاوز شخص الغنوشي ويشمل التنكيل بحركة
النهضة التي كان مؤسسها ومنظّرها، فقد اعتقد الغنوشي، كما هم أغلب رموز الحركة
الإسلامية، أن تحاشي استخدام انتمائهم الفكري والروحي للتيارات التي تغذّى شبابها
في ريعان شبابهم من أفكارها سوف يجنّبهم سخط حكوماتهم، وبذلك أضعفوا تلك التيارات
ولم يحموا أنفسهم. هذا ليس لوما بل هو توصيف لحالة مرّ بها أغلب الإسلاميين، الذين
كانوا أشد الناس حرصا على الانخراط في مجتمعاتهم وتحاشي التصادم معها. قبله كان
المرحوم الترابي قد أطلق على الحركة السياسية التي تزعّمها بعد الانقلاب العسكري
الذي قاده البشير في العام 1989 مسمّى "الجبهة الإسلامية القومية"، متحاشيا العمل
باسم الإخوان المسلمين، فكانت النتيجة بقاء تنظيم الإخوان في السودان تحت قيادة
أخر،ى تمثلت بالشيخ صادق عبد الله عبد الماجد. وحتى في مصر، التي ولدت فيها حركة
الإخوان على يدي الشهيد حسن البنّا، ساد الاعتقاد بضرورة العمل بمسمّى سياسي آخر
"حزب الحرية والعدالة". وتكرر اسم "حزب العدالة والتنمية " في كل من تركيا
والمغرب.
أما في الجزائر، فقد كانت هناك الجبهة
الإسلامية للإنقاذ بقيادة عباسي مدني وعلي بلحاج، بينما استخدم المرحوم محفوظ
نحناح الذي كان منتميا للإخوان اسم "حركة مجتمع السلم ـ حَمَس". وحتى في العراق
كانت هناك محاولات لتجاوز أسماء التيارات الفكرية التي أنتجت كوادر الحراك
السياسي، فاستبدل اسم "حزب الدعوة الإسلامية" باسم "ائتلاف دولة القانون" الذي
تزعمه نوري المالكي.
والواضح أن استخدام مسمّيات تختلف عن
الحركة الأم في هذه الحالات جميعا لم يشفع لأصحابها، فتم استهدافهم من قبل مناوئي
"الإسلام السياسي" بدون رحمة، وفي الوقت نفسه تم إضعاف الحركة الأم التي كانت
تتطلع لإقامة نظام حكم سياسي، ضمن المشروع الإسلامي الذي قامت تلك الحركات من أجله.
خلال اجتماع للمعارضة الأسبوع الماضي، قال الشيخ راشد الغنوشي: "تونس من دون النهضة، بلا إسلام سياسي، من دون اليسار أو
أيّ مكوّن آخر مشروع حرب أهلية". وقبل اعتقاله بيوم أطلق مقطعا مصوّرا أكد فيه
تمسك شعب تونس بالديمقراطية التي تحققت بالثورة، وأنها ستعم العالم العربي، مؤكدا
أن الصراع في بلده إنما هو بين الحرية والاستبداد، مستسخفا التهم المزوّرة التي
وجهها الحكم إليه. ولتبرير سجن رئيس البرلمان السابق، قال الرئيس التونسي قيس
سعيّد؛ إنه يرفض "التدخل الخارجي السافر"، وألمح إلى أن سجن زعيم حركة النهضة راشد
الغنوشي كان بسبب "الدعوة لحرب أهلية". وكان قاضي التحقيق أصدر يوم الثلاثاء الماضي
قرارا بإيداع الغنوشي في السجن بتهمة مختلقة "التآمر على أمن الدولة". وهكذا
تدخل تونس فصلا آخر من الصراع بين رئيس انقلب على إرادة الشعب، وقطاعات وطنية ترفض
التخلي عما تسميه "قيم الثورة ومبادئها"، وتعبّر عن استعدادها للتضحية من أجل ذلك.
فما أهمية ما يحدث في تونس داخليا وإقليميا؟
ليس خفيّا أن الربيع العربي الذي كان
في ذروته في مثل هذه الأيام قبل اثني عشر عاما، إنما انطلق في إثر ما حدث في تونس
آنذاك. يومها كان ذلك البلد العربي الأفريقي محكوما بديكتاتور آخر صادر حريات
الشعب وتربّع على كرسي الحكم بدون منازع. يومها كان الغنوشي وآلاف آخرون مضطرين
للعيش في المنافي بسبب مواقفهم. كان الوضع الداخلي متوترا جدا في ظل استبداد شامل
ومصادرة كاملة للحريات العامة. وشاءت الأقدار أن تحدث حادثة غير متوقعة لتوفر
الصاعق الضروري لتفجير ثورة شعبية، تجاوزت حدود تونس وأشعلت الثورات في عدد من
الدول العربية. كان جسد الشاب محمد بوعزيزي (من مدينة سيدي بوزيد) الذي اشتعلت فيه
نيران الغضب 2010 بعد أن أحرق الشاب نفسه؛ رافضا إهانة موظف حكومي استهدف كرامته
بلطمه على وجهه، كافيا لإحداث أكبر حراك شعبي عربي ضد الاستبداد والديكتاتورية.
هنا انطلق تحالف قوى الثورة المضادة (الذي يضم الكيان الإسرائيلي أيضا)، ليس لإخماد
الثورات فحسب، بل لاستئصال العناصر التي يعتبرها "عوامل تأزيم"، بسبب إصرارها على
إحداث تغييرات جوهرية في العالم العربي، بعد عقود من الركود الناجم عن الاستبداد
والديكتاتورية. وكانت أساليب الاستئصال مؤلمة جدا، فقد اعتقل عشرات الآلاف من
أبناء الأمة، ما يزال أغلبهم يرزحون وراء القضبان في عدد من البلدان العربية، وليس
ثمة أفق للإفراج عنهم. هنا تضافرت قوى الثورة المضادة لارتكاب واحدة من أبشع حملات
القمع والاضطهاد في ظل صمت دولي غير مسبوق. وبقيت تونس أيقونة يتشدق بها الغربيون
للتعتيم على ما كان يحدث في كواليسها من تآمر؛ للقضاء على آخر ما يذكّر الجماهير
بالثورات التي كادت تغير ملامح المنطقة بشكل جوهري.
من خلال السياقات التاريخية لقضية
الاحتلال الإسرائيلي من جهة ونضال الشعوب من أجل الحرية والديمقراطية من جهة أخرى،
يتضح وجود معادلة ثابتة: بقاء الاحتلال لا يضمنه إلا الاستبداد في دول المنطقة.
ويمكن التأكد من ذلك بملاحظة أن رفض الاحتلال ينطلق من البرلمانات التي ينتخب
أعضاؤها بقدر من الحرّيّة، كما في لبنان والأردن والكويت والمغرب وتونس والسودان
(قبل الانقلابات على الممارسات البرلمانية في هذه الدول). أما التطبيع، فلا يتحقق
إلا في ظل غياب الحريات وغياب التمثيل الشعبي في منظومة الحكم. وكان لافتا رفض
التونسيين مشروع التطبيع مع الاحتلال، فكان متوقعا حدوث تغيير يصادر إنجازات
الثورة التي تدخّلت قوى الثورة المضادة لمنعها من إقامة نظام مستقل تماما، وحصر
التغيير بإزاحة الرئيس فحسب. لذلك أصبح راشد الغنوشي مستهدفا لأمور عديدة: أولها
انتماؤه لما يسمى "الإسلام السياسي" ثانيها؛ أنه آخر رموز الصحوة الإسلامية
المعاصرة، ثالثها: رفضه التطبيع مع الاحتلال واستحالة حدوث ذلك طالما بقي رئيسا
للبرلمان، رابعها: تدخل دول عربية أخرى بشكل سرّي وعلني لإزالة النتائج كافة التي
تمخضت عن ثورات الربيع العربي، وعلى رأسها تونس. ومن زاوية أخرى قد يؤدي الإجهاز
على التجربة التونسية إلى حالة احتقان في البلاد بشكل خاص يؤسس لاحتمال قيام ثورة
أخرى.
القدس العربي