كنت في ضيافة "معهد قرطبة للسلام" بجنيف، وهو منظمة سويسرية
احتفلت هذه الأيام بمرور ثلاثين عاما على تأسيسها. وما قامت به هذه المنظمة طيلة
مسيرتها القصيرة نسبيا يتجاوز حجمها وإمكانياتها البشرية والمالية، ووضع المعهد
هدفا استراتيجيا له "الوقاية من العنف، ترشيد الخلاف وتعزيز السلم".
أن تتصدى جمعية أو جهة ما لمعالجة تحديات وعقبات السلام في منطقة حساسة مثل
العالم العربي والاسلامي فتلك مهمة ليست هينة، خاصة وأن العديد من النزاعات التي
تندلع من حين إلى آخر ذات طبيعة معقدة يتداخل فيها السياسي بالديني والقبلي
والاقتصادي، وهو ما يتطلب قدرا عاليا من التبصر والحكمة والوعي والصبر. وقد نجح
معهد قرطبة في التعامل مع عديد الملفات التي شغلت ولا تزال المنطقة بحكوماتها ونخبها
وشعوبها، معتمدا في ذلك على آليات الحوار وحسن الاستماع وتوسيع قاعدة المشترك.
وخلافا لما يعتقد الكثيرون، فإن المشترك موجود بين الناس مهما اختلفوا وهو قابل لتطوير
محتوياته وتوسيع دوائره، المهم أن تتوفر الإرادة ويتخلى المتحاورون عن التعصب
المدمر لقيم التسامح والتعايش.
بهذه المناسبة دعي الجامعي
التونسي أحميدة النيفر لعرض كتابه الجديد الذي
صدر تحت عنوان "العالم والزعيم". ويعالج الكتاب مضامين الرسائل
المتبادلة بين جد المؤلف الشيخ النيفر والرئيس الحبيب بورقيبة خلال مرحلة تأسيس
الدولة الوطنية، حوار دار بين عقليتين متناقضتين من حيث الرؤية والمنهج.. عالم
زيتوني يريد أن يفهم الأسباب التي دفعت بورقيبة نحو اختيار العلاج الجذري لتغيير
وضع متداع للسقوط مثل إلغاء الزيتونة والمراهنة كليا على تعليم حديث يتخذ من
النظام الفرنسي نموذجا يقتدي به، وفي المقابل زعيم حريص على استغلال الظرف
التاريخي ليتخذ جملة من الإصلاحات التي كانت تسكن مخياله منذ أن كان طالبا في السوربون.
لم ينجح الحوار بين الرجلين، ولم تنجح محاولة الوصول إلى تسوية تاريخية كان البعض
يعتقدون إلى اليوم بأنها ممكنة.
يعود اهتمام معهد "قرطبة" بعلاقة الديني بالسياسي إلى وعي
المسؤولين عليه بأن هذا الإشكال لا يزال يمثل أحد محاور الصراع والانقسام في الشرق
الأوسط. لهذا وضع المعهد من بين أهدافه "معالجة الاستقطابات والتوترات بين الفاعلين
المسلمين بمختلف
مرجعياتهم الدينية في السياقات المحلية لدول الشرق الأوسط"، أيضا العمل على الحد
من
التطرف العنيف بين الشباب المسلم من خلال "زيادة الوعي بالخطاب الإسلامي
الوسطي".
اعتقدوا بأن الانتقال السياسي أصبح مضمونا. لم يتوقعوا أن تختلط الأوراق من جديد، وسيتغير اتجاه الريح، وستبرز معادلة جديد، وسيعود الحكم الفردي بسرعة عجيبة لتجد تونس نفسها مرة أخرى في معركة الدفاع عن الحريات، وتعود الأطراف السياسية والثقافية والاجتماعية إلى الاستقطاب الثنائي والتناحر الأيديولوجي من أجل الحكم، على حساب تونس ومصالح شعبها
وتم في هذا السياق تنفيذ برنامج متنوع، شارك فيه عدد واسع من
الفاعلين من مناطق متعددة، بما في ذلك من دول جنوب الصحراء الأفريقي. وتولت وزارة
الخارجية السويسرية دعم هذا البرنامج الطموح من خلال قسم "الدين، السياسة،
النزاع" التابع لها.
اهتمام معهد قرطبة بتونس ليس جديدا، إذ سبق له أن حاول مواكبة الانتقال
الديمقراطي، ونفذ برنامجا بالتنسيق مع منتدى الجاحظ، كان الهدف منه السعي لتقييم
التجربة من زاوية العلاقات الممكنة بين مكونات النخبة بتياريها الأساسيين؛
الإسلاميين من جهة والعلمانيين من جهة أخرى. كما تعاون المعهد مع "رابطة تونس
للثقافة والتعدد".
تم الاهتمام بتونس بعد تجربة الترويكا، وصعود حزب نداء تونس إلى السلطة.
ويبدو أن الحوار الذي دار بين سياسيين ومثقفين قريبين من المشهد السياسي، بمن في
ذلك البعض ممن تحملوا مسؤوليات في الحكومات السابقة، جعل المسؤولين في هذا المعهد
يطمئنون نسبيا على مستقبل التجربة التونسية، ويظنون بأنها سلكت طريقا يصبح من
الصعب التراجع عنه. صحيح أنهم لاحظوا أن المسافة بين الفريقين لا تزال عميقة
ومحفوفة بالمخاطر، خاصة بين حركة النهضة وعموم اليسار الراديكالي، لكن كانوا
يتوقعون بأن التقدم في المسار الديمقراطي كفيل بتذويب الخلافات وتنضيج الفريقين،
واعتقدوا بأن الانتقال السياسي أصبح مضمونا. لم يتوقعوا أن تختلط الأوراق من جديد،
وسيتغير اتجاه الريح، وستبرز معادلة جديد، وسيعود الحكم الفردي بسرعة عجيبة لتجد
تونس نفسها مرة أخرى في معركة الدفاع عن الحريات، وتعود الأطراف السياسية
والثقافية والاجتماعية إلى الاستقطاب الثنائي والتناحر الأيديولوجي من أجل الحكم،
على حساب تونس ومصالح شعبها.
سيبقى التحدي الرئيسي في تونس وفي دول المنطقة يتمثل في توفير الضمانات الكفيلة "بترقية الحوار وتمكين الناس من الوقاية من العنف ومن ترشيد الخلاف في المجتمعات التي يعيش فيها مسلمون".
سيبقى التحدي الرئيسي
في تونس وفي دول المنطقة يتمثل في توفير الضمانات الكفيلة "بترقية الحوار وتمكين الناس من الوقاية من العنف ومن ترشيد الخلاف
في المجتمعات التي يعيش فيها مسلمون". لا يعني ذلك أن المسلمين يشكلون بالضرورة
عقبة أمام قيمة التعايش، لأن هناك آخرين من أديان أخرى يصدر عن بعضهم سلوك عنيف ورافض للحق في الاختلاف،
لكن ذلك لا يقلل من خطورة الأفكار والسياسات التي يمكن أن تهدد الاستقرار والتعايش
وتجعل الدين ضد الحرية.
هناك مفاهيم لا تزال تفعل فعلها لتبرير الإقصاء والفرز الديني
والاجتماعي في العديد من الدول والساحات، وهو ما جعل
الديمقراطية متعثرة إلى حد
الآن في المجتمعات العربية والإسلامية، مما دفع بالبعض للتأكيد على حتمية "الاستعصاء
الإسلامي". وهو منهج قاصر لتفسير ظاهرة
الاستبداد، رغم أن تجارب هنا وهناك
تأتي لتدعم هذه الفرضية، وتجعل أصحابها يحاولون أن يجعلوا منها "حتمية
تاريخية". وآخر حججهم ما يحصل في تونس التي يصفونها بآخر محاولة فاشلة للرهان
على التحرر من الاستبداد، لكن الشعوب ستثبت خلاف ذلك، وستؤكد أن طريق المسلمين نحو
الديمقراطية اختيار ممكن.