قضايا وآراء

تونس.. أي حاضر؟ وأي مستقبل؟ (1)

1300x600

يؤسفني أن أقرأ لبعض من كانوا ضد إجراءات قيس سعيد من الكتاب والمثقفين غير ما كانوا يقولونه من قبل، فبعضهم بعد أن كان يمسك العصا من حيث تضرب فتوجع، بات يمسكها من المنتصف، وبعضهم ألقى بالعصا جانبا، وآثر أن يكتب وهو يقوم بتمسيد شعر كلبه أو قطته المدللة، متخيلا أنه يؤدي دور الكاتب الموضوعي الذي يقول الحق ولو على نفسه، بل لعله يتعمد أن يؤدي لعبة الموضوعية بعبثية بعيدة عن المنطق والحقيقة.

لقد أجمع معظم الحقوقيين والسياسيين المشهود لهم بالإنصاف في العالمين العربي والغربي بأن ما قام به قيس سعيد انقلاب كامل الأركان، وعدّوه إجراء باطلا، وكل ما بني على باطل فهو باطل. ويتحقق البطلان بناء على كونه باطلا من حيث الشكل والمضمون، وبناء على حقيقة مفادها استعداد مَن قام بإجراء باطل للقيام بمزيد الأباطيل؛ لدعم باطله الأول، كذلك الذي بدأه قيس سعيد في 25 تموز/ يوليو 2021، حين قام بحل البرلمان وإقالة الحكومة بذريعة كذبة (الخطر الداهم)، ليقوم بعد ذلك بوضع نظام سياسي جديد من خلال دستور على المقاس، بما لا يحتمل عنوانا آخر غير (الانقلاب على الدستور والوطن والشعب)، وهو دستور يحمل في طياته كل عائب وشائن، ومراسيم جمهورية غاية في العشوائية والتخبط غير الواثق.

لقد منح المنقلب نفسه صلاحيات واسعة وأعاد تونس إلى الوراء سنوات طويلة، وكرس الدكتاتورية في أجلى صورها وأحط مفرداتها؛ ذلك أنه مضطر لدعم باطله الكبير بمجموعة من الأباطيل الجديدة، ومن أخسها الاتهامات الكاذبة لخصومه، وتقديمهم للمحاكمات العسكرية، بما يؤشر على نواياه القبيحة وحقده المبيت على الديمقراطية، وبما يشير بوضوح على كذبه وتدليسه على البسطاء والزوالية، وتحديه للسياسيين والأحزاب بشكل عدائي سافر، ينم عن حقد وانتصار للذات لا للوطن.

 

لقد أجمع معظم الحقوقيين والسياسيين المشهود لهم بالإنصاف في العالمين العربي والغربي، بأن ما قام به قيس سعيد انقلاب كامل الأركان، وعدّوه إجراء باطلا، وكل ما بني على باطل فهو باطل.

 



لا يمكن أن ندافع عن قيس سعيد بصورة من الصور، وهو الذي أقال رئيس الحكومة وحل البرلمان والمجلس الأعلى للقضاء والهيئة الوطنية للانتخابات، ذلك دون الدخول في عشرات الإجراءات الباطلة الأخرى، التي لا تخفى على المتابع، وكان آخرها إلغاء الدستور، وكتابة دستور جديد يمنحه صلاحيات الدكتاتور المطلق المحصن الذي لا يعزل ولا يحاسب. وننتظر المزيد من الإجراءات الكارثية التي ستطالعنا بها الأيام المقبلة.

ويكفي لمعرفة دونية ما يفعل، أن كل إجراءاته قام بها منفردا من خلال ممارسات ضبابية، أدت إلى غياب الرؤية، دون أدنى اعتبار لآراء الآخرين، وكأنه الشخص الفاهم الوحيد في تونس، والآخرون ـ ممن استخدمهم مؤقتا ـ مجرد محطات لا قيمة لها ولا معنى، وهو ما يؤشر على شخص مريض لا يقيم وزنا لأحد. وهو إلى ذلك جاهل تماما بالتوازنات الدولية والعلاقات بين الدول، فهو يتحدى الولايات المتحدة، ويعادي المغرب وتركيا، ويناصر الأنظمة الدكتاتورية بكل بجاحة.

إن أهم سؤال يمكن أن نطرحه اليوم ـ بعد المصادقة الهزيلة على الدستور ـ هو: منذ كان سعيد رئيسا بعد الانتخابات الرئاسية حتى اليوم: ماذا قدم لتونس والتونسيين؟ وماذا بمقدوره أن يقدم؟

لم يفعل قيس سعيد شيئا إيجابيا، سوى أنه ملأ الفضاء عويلا وصراخا وشتائم واتهامات باطلة في كل اتجاه. لم يفعل شيئا سوى التنظير والتدليس والافتراء والوعود الكاذبة، ولا شيء غير ذلك؛ فقد ازدادت الأوضاع سوءا، وقد تحدثنا كثيرا عن الغلاء الفاحش وانقطاع المواد الأساسية، وازدياد عدد العاطلين عن العمل يوما بعد يوم، ونسبة التضخم التي بلغت مبلغا لا يمكن تصوره بعد أن وصلت حسب الأرقام الرسمية إلى نحو 8.5 نقطة، وشخصيا أشكك في هذا الرقم، إذ ربما بلغت ما يزيد عن 10 نقاط في ظل الغلاء المتصاعد وثبات الرواتب، ناهيك عن تأخر صرفها لعديد القطاعات. ويحدث ذلك في ظل انقسام ينذر بعواقب اجتماعية وخيمة، بينما رئيس الدولة يمارس سلطته بدوغماتية لا تبشر بخير.

لقد توقف بقيس سعيد التاريخ والمدنية والحضارة عند حقبة بورقيبة التي ما فتئ يمجدها ويستشهد بها لتمرير كثير من قراراته ومراسيمه غير الدستورية، لعلمه بأن كثيرا من الناس، وخصوصا كبار السن يؤمنون بأبو رقيبة، فهو بذلك يمارس نوعا من التدليس على الناس، حتى لكأنه لم ير ولم يسمع شيئا عن أنظمة الحكم الحديثة؛ فقد اختصر كل ما هو قائم في العالم من أنظمة بما يراه هو، لا بما يقتضيه واقع الحال وتطور الأمم وتقدمها، لا سيما أن التجارب أثبتت بأن الدكتاتورية عاجزة عن التنمية والنهوض والتقدم على المستويات كافة، وما مصر السيسي عنا ببعيد، فمصر على شفا كارثة اقتصادية واجتماعية خانقة، قد لا تمر مرور الكرام، وما فتئ قيس سعيد يمتدح السيسي وحكمته في إدارة البلاد!!

لا شك بأن سعيد سيتسبب في مزيد من الإفقار للشعب، وسيستمر في تحطيم الطبقة الوسطى لتنضم إلى الفقيرة، وسيقضي على آمال الشعب بالمستقبل المشرق الذي وعدهم به. كيف لا وهو الذي لا يرى سبيلا لإنقاذ البلاد غير القروض، فلا شيء يشغل باله سوى أن يحقق شروط البنك الدولي، تماما كما يفعل السيسي. هذه هي غاية مطمح سعيد وغاية آماله. أما تصريحاته التي أصم بها آذاننا عن محاربة الفساد والاحتكار التي ستحقق الازدهار، فما هي إلا أكاذيب خدع بها الشعب ليجد مؤيدين من الزوالية المطحونين الذين اعتادت الدكتاتورية على استخدامهم عند الضرورة، ثم الانقضاض عليهم بعد انقضاء الحاجة إليهم؛ لأنهم سيبدؤون بالاعتراض وإثارة الأسئلة المصيرية حال إحساسهم بأن كل ما كان لم يزد عن كونه خداعا وكذبا. وها هي جولات الحرق (الهجرة غير الشرعية عبر البحر) بلغت أرقاما قياسية، ولم تستثني بعض موظفي القطاع العام، ناهيك عن الأطفال دون سن الثامنة عشرة، والفتيات من أعمار مختلفة.

إن اتكاء قيس سعيد على الخطاب الشعبوي الذي قسّم المجتمع، وأعاد إلينا سيرة داحس والغبراء، بعيدا عن الأولويات الاقتصادية والاجتماعية التي فتكت بالعباد، سيكون مرده فواجع اجتماعية وفقرا وقهرا وجوعا وصراخا وعويلا قريبا جدا، لا سيما أن المنقلب لا يرى إلا ما تراه عيناه، ولا يعبأ برؤى غيره من المخلصين الذين شيطنهم وناصبهم الحقد الأسود والكراهية العمياء؛ ذلك أن مجتمعا مفككا ومقسما إلى ملائكة وشياطين في ظل انعدام الرؤية والمسؤولية، سيأخذ البلاد إلى أسوأ حالة اجتماعية ممكنة، وسيعجل بتغير الولاءات واتساع جبهة المعارضة، لتبدأ حالة القمع البوليسي ولتملأ السجون بالمعتقلين السياسيين وغير السياسيين.

 

إن اتكاء قيس سعيد على الخطاب الشعبوي الذي قسّم المجتمع، وأعاد إلينا سيرة داحس والغبراء، بعيدا عن الأولويات الاقتصادية والاجتماعية التي فتكت بالعباد، سيكون مرده فواجع اجتماعية وفقرا وقهرا وجوعا وصراخا وعويلا قريبا جدا، لا سيما أن المنقلب لا يرى إلا ما تراه عيناه، ولا يعبأ برؤى غيره من المخلصين الذين شيطنهم وناصبهم الحقد الأسود والكراهية العمياء

 



وليس ضربا من التخيل أن نقول بأن قيس سعيد يفقد يوما بعد يوم كثيرا من أنصاره، وتلك حقيقة ملموسة لا يمكن نكرانها أو القفز عليها، ونحن نلمسها بأنفسنا من خلال التعامل اليومي مع أهلنا وأقاربنا وأصدقائنا وبقية أبناء المجتمع، فقد مل الناس الوعود والأكاذيب، وهم يبحثون اليوم عن واقع أفضل، لن يجدوه مهما صبروا ما دام قيس سعيد على رأس سلطة دكتاتورية مقيتة، لن تكون أفضل من سلطة السيسي وزبانيته الذين أفرغوا البلاد من خيراتها، ولم يتوانوا عن الاعتداء على مقدرات الشعب ونهب خيراته وسلب أرزاقه وطرده من أرضه، ناهيك عن التنكيل بكل من يقول لا، ولو بصوت خافت.

تونس اليوم تعيش أسوأ فتراتها في ظل النقص الشديد في عدد من المواد الغذائية الأساسية أو غيابها التام الذي يتفاقم بوتيرة سريعة، فقد أصبحنا نبحث عن كثير من المواد الغذائية الأساسية فلا نجدها، ولو عددتها فربما لا يصدق كثيرون ما سأقول، كذلك في ظل النقص الحاد في مشتقات النفط، والسكر الذي تسبب في إغلاق شركات ومصانع، ناهيك عن إغلاق عدد من محطات الوقود التي ازدحمت السيارات، وأغلقت الطرق بما تبقى منها مفتوحا، وفي ظل ثبات الرواتب والارتفاع الجنوني للأسعار التي تضاعفت بشكل هستيري، وخصوصا زيت الطعام الذي أصبح شراؤه بطولة يفخر بها رب البيت أمام أسرته، تماما كما يفخر المصري بوقوفه في طابور الخبز وتحمل ألم الانتظار الطويل، ليعود لأبنائه بثمانية أرغفة، وهو يسرد لهم قصته البطولية في الصبر والاحتمال من أجل ملء بطونهم الخاوية، ولا ينسى أن يحدثهم عن شجاعته في ردع رجل حاول تجاوز الدور، وكيف أنه وبخه وأعاده إلى آخر الطابور.

الأوضاع في تونس لا تبشر بخير، والقادم أسوأ حتى في حال الحصول على القرض المنتظر، فلن يكون له أي أثر ملموس على الشعب؛ لأن معظمه سيذهب لتغطية ديون المشتريات الحكومية التي لم تدفع أثمانها للموردين. فلننتظر قيس سعيد لنرى ما هو فاعل في ظل الوضع الكارثي الذي تعيشه البلاد.