قلت في
المقال السابق إن أفضل خيار استراتيجي متاح للقوى السياسية
المصرية
حاليا هو ترك النظام وعدم إعارته أي انتباه؛ لأن النظام ماض في طريقه نحو مصيره
المتوقع كما جرت سنة الحياة في كل النظم المستبدة، والتي تظن أن "الجو قد خلا
لها" وإذ فجأة تحدث الكارثة التي سوف يتعامل معها النظام بنفس آليات تعامله
مع الكوارث السابقة: تلطيف وتخفيف واحتواء وبروباجندا إعلامية عن مصر أم الدنيا
وكل الدنيا، وعن الوضع المميز لها، وعن الأمور التي هي وعلى حد تعبير رأس النظام
"زي الفل".
وقلت أيضا إن على القوى السياسية المصرية أن تفكر في حلول خارج الصندوق
للتعامل ليس مع الموقف الراهن، لأنه سينتهي بالتدمير الذاتي للنظام (self- destruction)، ولكن يجب
الاستعداد بوضع استراتيجية ما بعد النظام ولو استمر النظام لعقد من الزمن لا قدر
الله، فهذا لا يعني الوقوف مكتوفي الأيدي بل التحرك في اتجاه صناعة البديل الحقيقي
مع مراعاة "فروق التفكير"، وأعني بها تفكير الشعب وتطلعاته وبطء
المعارضة وحسابات بعض الرموز الشخصية.
النظام لديه مشكلات تزداد تعقيدا مع مرور الوقت، وأبرزها مشكلة سداد القروض
والحاجة الماسة لقروض جديدة في ظل التراجع الاقتصادي في البلاد، وهذه القروض تتطلب
إجراءات اقتصادية أشد قسوة على المواطنين، ولا يملك النظام سوى الاستجابة لشروط
صندوق النقد أو إعلان إفلاسه والهروب كما حدث في سريلانكا مؤخرا، وهذا يعني أنه
يحتاج إلى جبهة سياسية تدعمه في قراراته ولحين ميسرة، وهذه الجبهة لن تكون شريكا
سياسيا للأبد بل شريكا مؤقتا كما قلت.
البعض يرى مجاراة النظام بحجة الضغط عليه للحصول على أي ميزات سياسية من
شأنها تحسين الوضع السياسي الراهن، ولكن هؤلاء ينسون أن النظام مستعد للتنفيس
السياسي في مقابل تحمل الشركاء المتحاورين لضريبة الغضب الشعبي ضد قرارات صندوق
النقد، وعلى رأسها تعويم جديد وتضخم جديد وارتفاع جديد في الأسعار وزيادة حجم
الدين الداخلي والخارجي، مع ثبات أو تراجع دخل الفرد وتراجع إجمالي الناتج القومي
للبلاد.
الحلول محدودة جدا، وحتى رحيل النظام حاليا ليس حلا استراتيجيا بل أراه حلا
مؤقتا، وعلى الجميع مواجهة التعامل مع إرث هذا النظام لعقدين على الأقل لحين سداد
فواتير سياسات النظام المدمرة.
ذهاب النظام لن يكون دفعة واحدة اللهم إلا إذا استعادت الثورة حيويتها، وهو
أمر يتمناه كثيرون ويخشاه النظام ومعاونوه ومؤيدوه وداعموه ويبذلون قصارى جهدهم
لتأجيل وقوعه لحين التفكير في مخارج أخرى لحلحلة الوضع، بحيث يكون من الممكن إحداث
تغيير تدريجي تكون كلفته أقل من كلفة التغيير الشامل المتوقع.
هنا لا بد أن نفهم كيف يفكر النظام وكل النظم المشابهة، فهذه النظم لا تفكر
في مصلحة البلاد ومستعدة للذهاب إلى أبعد مما يتصوره عقل عاقل، وهو التمسك بالسلطة
لأن البقاء في السلطة هو ضمانة البقاءء على قيد الحياة، وهذا يعني مرة أخرى أن النظام
غير مستعد لا بحوار وطني ولا بغيره للتخلي عما حصل ويحصل عليه من ميزات بقائه في
السلطة (بقائه على قيد الحياة) دون رقيب أو حسيب.
لقد كانت خطوة
الإخوان المسلمين ذكية وإن جاءت متأخرة في نزع فتيل التبرير
المستمر لعقود عن ثنائية العسكر/ الإخوان، وهو إعلان واضح بأنهم
لن ينافسوا على
السلطة، وكما فهمت فهو إعلان بالابتعاد عن العمل السياسي الحزبي التنافسي (البعض
يراه مؤقتا) مع إبقاء مشاركتهم في العمل العام بكل مكوناته من اجتماعي وفكري ودعوي
ونقابي. وهذا يعني أنهم وجهوا ضربة
قاضية لثنائية الإخوان/ العسكر قد يكون من شأنها إخلاء مسؤوليتهم عن العملية
السياسية (المغيبة) برمتها وتركها للأحزاب لكي تطالب بعودة الحياة السياسية، وإن
كنت أشك في ذلك لأن معظم هذه الأحزاب لا تكره الإخوان بسبب الثنائية (عسكر/ إخوان)،
بل تكرههم لأنهم أكثر قدرة على التنظيم والتفاعل والاشتباك مع المواطن، بينما معظم
هذه الأحزاب الكرتونية أكثر قدرة على إحداث جلبة وضجيج دون طحين. ويبدو لي -وبعض
الظن إثم- أنها خلقت لتبرر وجود العسكر في السلطة، وأنها لا تسعى ولا تسمح لنفسها
بالمنافسة أبدا، بل تسعى أن تكون دائما في ظل الجنرالات.
الوضع الجديد
بعد إعلان الإخوان يؤهل المعارضة المصرية في الخارج على الأقل
للإعلان عن حكومة ظل أو منفى؛ تتشكل من التكنوقراط وتكون مؤهلة خلال عام أو عامين
للقيام بدورها في المرحلة الانتقالية التي يجب أن يفكر فيها الجميع (النظام ومؤيدوه)
لأنها المخرج الوحيد والبديل الأفضل للدمار الشامل المتوقع إن استمر الوضع على ما
هو عليه.
إن
حكومة المنفى أو حكومة الظل هي طلب قديم، وقد شاركتُ في عام 2014 في
اجتماعات لن أفصح عن أسماء من شارك فيها، ولكن للأسف الشديد قامت قيادة إخوانية
بعرقلة المشروع لأنها كانت ترى أن الموضوع ليس نابعا من التنظيم آنذاك، وبالتالي أُجهض
المشروع كما أُجهضت أفكار ومشاريع أخرى.
وقد قمت بعرض بعض هذه الأفكار عبر البرنامج التلفزيوني "مع زوبع"،
وطالبت بعقد مؤتمر موسع للمعارضة والقوى الثورية في لقاء لي مع الإعلامي محمد ناصر
في برنامجه "مصر النهاردة" على قناة مكملين، ولكن بعض تجار السياسة
والثورة أجهضوا الفكرة وتحايلوا عليها، وقام بعضهم بتنفيذها بطريقة مشوهة نتج عنها
المزيد من التشرذم السياسي للمعارضة في الخارج.
هذا ليس وقت عتاب ولا تصفية حسابات ولا وقت السعي لتحقيق مآرب سياسية، بل
هو وقت إعداد العدة من أجل انقاذ الوطن. والفكرة على بساطتها عميقة، والهدف
منها تقديم برنامج للمرحلة الانتقالية وليس تلميع أشخاص وتأهيلهم للمشاركة في "
الحوار
الوطني" المزعوم. وأظن -وبعض الظن فطنة كما هو إثم- أن البعض يحزم حقائبه
للعودة بمجرد أن ينادي المنادي ويهتف الهاتف "هلم إلينا"، وسيقدم للرأي
العام مائة مبرر ومبرر، ولن يسلم الإخوان المسلمون من اتهامات لهم بالتسبب في تأخر
حالة العودة أو المشاركة.
إن حكومة منفى (وسآتي عليها بالتفصيل في مقالي القادم إن شاء الله) رغم
تأخرها هي حل وسط بين الثورة المعطلة و"الحوار الوطني" المؤمم، وسيكون
من شأن الإعلان عنها إعادة الاعتبار للشعب المصري ووضعه في الصورة، وليس التعامل
معه كما يتعامل النظام معه كطرف غير مهم أو غير معني بما يجري عليه.