للدين في نفوس أمتنا الإسلامية والعربية مكانة مهمة، باعتراف خصوم الدين قبل معتنقيه، وما تعيشه الحالة الإفتائية في زماننا يثبت بيقين هذه القيمة، والمتابع للنقاشات الدائرة في كل أمر يتعلق بالشأن العام، سيجد الفتوى والرأي الديني حاضرا بقوة، سواء كان استدعاءً من الجماهير، أو من السلطة.
فاستدعاء الجماهير للفتوى أمر طبيعي بحكم تدين هذه الشعوب، وحاجتها لمعرفة الرأي الشرعي في ما تقوم به، وبخاصة في قضايا الشأن العام، والتي بطبيعتها قضايا مهمة وكبيرة، حتى لو ابتعد العالم أو الفقيه عن هذه القضايا، ونأى بنفسه عنها، فإنه يتم استدعاؤه سواء من الناس أو السلطة.
فالفقيه الذي يبتعد عن السياسة يستدعي الناس كلامه استدعاء في الموضوع، رأينا ذلك قديما وحديثا، بداية من فتوى الإمام مالك في عدم وقوع طلاق المكره، وبالتالي فهم منها عدم صحة بيعة الحكام والتي تتم بالإكراه، وهي بالمناسبة لم تصدر عنه فتوى بهذا المضمون، لا تصريحا ولا تلميحا، بل حديث رواه في غير توظيف منه للشأن السياسي، ولكن جمهور الناس فسرها على هذا المنحى السياسي، وقام بالإسقاط السياسي لها، وهو ما يبين دور الجماهير في تحميل كلام الفقيه ما لم يقله، تصريحا أو تلميحا.
والسلطة تستدعيه كذلك، سواء تأييدا لموقفها، أو تحريضا على خصومها ومعارضيها، وإن أعلنت أنها سلطة علمانية، أو مدنية، أو لها موقف غير مشجع للدين، كما رأينا في عصرنا الحديث منذ عبد الناصر وحتى الآن، وكل من تلوه من الحكام في موقفهم من الفتوى السياسية واستدعائها، بل حتى في أحكام الإعدامات السياسية يتم استدعاء الفتوى، وهو ما كان حاضرا على مر العصور قديما وحديثا أيضا.
وسبب عنونتي للمقال بفوضى الفتاوى السياسية، وتسميتي لما حدث ويحدث ـ غالبا ـ حتى الآن بالفوضى الإفتائية، وليس الاختلاف الفقهي المحمود، لأسباب مهمة، من أهمها: أن الاختلاف الفقهي تحكمه آداب الاختلاف وقواعده، مثل قاعدة: لا إنكار في المسائل الاجتهادية، لكن في معظم الفتاوى السياسية ما تم غير ذلك تماما، فقد بنيت في معظمها على التخوين أو الوطنية، والدين أو المروق منه، وهو ما نراه طافيا على سطح النقاش الآن في مثل هذه القضايا.
وأضرب لذلك نماذج في الفتوى السياسية الحديثة، مثلا: حكم زيارة الأراضي الفلسطينية في ظل الاحتلال الإسرائيلي، فتم تناولها لا على أنها قضية فقهية تتعلق بالسياسة، والتي من طبيعتها التغير والتبدل، وعدم الديمومة، على أنها قضية تطبيع مع الكيان، وأنها قضية يفتى فيها بأنها حرام، رغم أن الحرام كلمة كبيرة جدا أصوليا، لا ينطق بها الفقيه إلا بدليل واضح بين لا يعتريه شك، ولست هنا أؤصل لجواز الزيارة أو عدمه، بل أناقش مستندات الفتوى.
ثم الحكم على كل من يزور بأنه من المطبعين مع الكيان الصهيوني، وتجد الخطاب في منابرنا العربية شديدا تجاهه، سواء كان الزائر سياسيا أم هيئة دينية، بينما نفس الأشخاص الذين حكموا على هذا الشخص، يصمتون عندما يجدون الزائر التركي يزور الأراضي المقدسة، حيث إن الفتوى عندهم تجيز ذلك، ولا تنكر على من يقوم بذلك.
كم الفوضى التي رأيناها في الفتاوى المتعلقة بالشأن العام، وبخاصة مرحلة الربيع العربي، قبل بدايته وأثنائه، وحتى مرحلة الثورات المضادة، حتى الآن، يحتاج إلى نظر بعيد في الفتوى السياسية، وفي فقيه الشأن العام، ومؤهلاته، وأدواته، وكيف يعد إعدادا قويا علميا بعيدا عن التحزبات، أو الممالئة لسلطة هنا أو هناك، أو الجماهير؟
ومن الفتاوى السياسية التي تدل بوضوح على فوضى الاستدلال، وفوضى التعامل، ما حدث في العراق وبلاد أخرى، في قضية الاستفتاء على الدستور العراقي في ظل الاحتلال الأمريكي، فخرجت فتاوى تقول بأن التصويت واجب، وخرجت فتاوى مضادة بأن التصويت حرام، ويقف الناخب العراقي حائرا بين الحرام والواجب ولو وقفت الفتوى عند الحرام والواجب، لهان الأمر، لكن الأمر تعدى ذلك، وتحول إلى الوطنية والخيانة، وهو ما أعنيه هنا بالفوضى في الفتوى.
ثم ما رأيناه في مصر بعد الربيع العربي، فرأينا جهات كانت تحرم العمل السياسي، وفجأة بدون مقدمات، أو مراجعات علمية لموقفها السابق، أصبحت تصدر فتاوى تتعلق بالسياسة، عكس ما كانت تقوم به، فمن كانوا يحرمون المشاركة في الانتخابات، بل تبنوا خطاب الرسالة التي كتبت في هذا الشأن بعنوان: القول السديد في إثبات أن دخول المجلس النيابي ينافي التوحيد، إلى المشاركة والدخول، بل التنافس السياسي، ومن أصدروا كلاما في الدستور وأن أي مادة فيه تخالف الشريعة فهو مرفوض، بل وصل إلى حد يلتقي مع التكفير، ثم بعد ذلك رأينا نفس هذه الجهة تقبل بدساتير فيها مواد واضحة تخالف الشريعة حسب فهمهم لها، وأبرز من قاموا بذلك حزب النور في مصر وبرهامي وأنصاره.
بل كان الأنكى والأشد أن تكونت هيئة، مع تقديرنا للنوايا الحسنة، وهي: الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح، والتي عندما جاءت الانتخابات الرئاسية في مصر، وحدث اختلاف بين المرشحين وخاصة الإسلاميين منهم: د. محمد سليم العوا، د. عبد المنعم أبو الفتوح، د. محمد مرسي، أن عددا من الشخصيات الدينية أحالت أمر الحكم بين المرشحين لهذه الهيئة، وبالطبع الموقف هنا سيخرج في صورة رأي سياسي من مشايخ شرعيين، وليس لدى كثير من أعضاء هذه الهيئة أدنى حد من قراءة الواقع السياسي، ولا المتغيرات السياسية، فضلا عن حسن التقييم لمرشحين، وهذا لا يقدح في شخصهم، بل يقدح في قدرتهم على الحكم، ومطالبة الجماهير بالأخذ بموقفهم!!
ساهم في هذه الفوضى في الفتاوى السياسية عدة جهات، بقصد أو دون قصد، وعلى رأس هذه الجهات: الأنظمة الحاكمة، والحركات الإسلامية، ومشايخ السلطة، ومنصات الثورات سواء التابعة للربيع العربي، أو الثورات المضادة، ولأن منصات الثورة المضادة كانت ولا تزال من الضعف بمكان، فلم يكن صوتها عاليا، ولا قدرتها غالبة، ولا تثق فيها الجماهيرة بشكل كبير، حيث إن تبعيتها للسلطة كانت واضحة وبارزة، والشعوب العربية والإسلامية جبلت بطبيعتها على عدم الثقة بالسلطة، حتى لو خرج منها ما يحقق مصلحتها، فالشك هو الأصل في العلاقة بينهما.
كلا الثورتين سواء الربيع العربي أو المضادة، نتج عنهما خطاب ديني ممزوج بالفتوى السياسية، فمن يفتي لصالح الثورات فهو شيخ الثورة، وخطيب الثورة، ومفتي الثورة، أما الطرف المخالف في الثورات المضادة فيطلق عليه: مفتي الدماء، ومفتي الخراب، وخونة الأوطان، وخوارج العصر، إلى آخر الأوصاف المعروفة.
وما كان من ثورات الربيع العربي، وما حققته من انتشار، وميل طبيعي من الشعوب لها، بسبب ما تعانيه الشعوب من مظالم، سواء صحت الفتوى أم لم تصح، وليس المقصود هنا الدفاع عن شيوخ الثورة المضادة، لأنهم مرتبطون بالسلطات التي أتت بهم، وإن لم يخل الأمر من مشايخ لم يكن دافعهم فيها الدفاع عن سلطة، بل الأمر كما فهموه وتصوروه، محافظة على الدولة، والوطن، ومقدرات الشعوب، كما رأينا في المرحوم الشيخ البوطي، وغيره، ولكن المقصود هنا أن كلا الثورتين سواء الربيع العربي أو المضادة، نتج عنهما خطاب ديني ممزوج بالفتوى السياسية، فمن يفتي لصالح الثورات فهو شيخ الثورة، وخطيب الثورة، ومفتي الثورة، أما الطرف المخالف في الثورات المضادة فيطلق عليه: مفتي الدماء، ومفتي الخراب، وخونة الأوطان، وخوارج العصر، إلى آخر الأوصاف المعروفة.
كما أن الحركات الإسلامية كانت أحد هذه الأسباب، لأنها بدل أن تكون بديلا قويا لفتاوى السلطة المرفوضة، لم تستطع أن تقدم بديلا قويا ومحايدا في كثير من القضايا، بل ارتكبت أخطاء تجاه الحالة العلمائية بداخلها قبل خارجها، وهو ما يحتاج لمقال تفصيلي عن ذلك، فقد حدثت فجوة بين الفقيه في الحركات الإسلامية وبين هذه التنظيمات، وهو ما عبرت عن بعض مشاكله في دراسة لي بعنوان: العلاقة بين المفكر والتنظيم، وفي مقال آخر لي على عربي 21 بعنوان: محنة الفقيه الإخواني.
كم الفوضى التي رأيناها في الفتاوى المتعلقة بالشأن العام، وبخاصة مرحلة الربيع العربي، قبل بدايته وأثنائه، وحتى مرحلة الثورات المضادة، حتى الآن، يحتاج إلى نظر بعيد في الفتوى السياسية، وفي فقيه الشأن العام، ومؤهلاته، وأدواته، وكيف يعد إعدادا قويا علميا بعيدا عن التحزبات، أو الممالئة لسلطة هنا أو هناك، أو الجماهير؟
حاول البعض تلمس بعض هذه النقاط، من باب الحديث عن المفتي المعاصر وأدواته، لكن فتاوى الأمة، وفتاوى الشأن العام تحتاج إلى تكوين مختلف من عدة جهات، من جهة التكوين التأصيلي الفقهي والشرعي، ومن حيث التكوين المعاصر من العلوم الإنسانية والسياسية، وغيرها، مما لا غنى عنه الآن للفقيه بوجه عام، ولفقيه الشأن العام والفتاوى السياسية بوجه خاص، وهو ما نفتقده – للأسف – في الكثيرين ممن يتعرضون للفتاوى السياسية حاليا.
هل يعود قطار تونس إلى سكة الديمقراطية؟
في أسباب تدهور دور الاتحاد العام التونسي للشغل
الحركات الإسلامية والقرارات السياسية