قضايا وآراء

ثورتنا التي أُجهِضَت (2-2)

1300x600
أسلفنا -في القسم الأول من هذا المقال- الحديث باقتضاب عن خلفيَّة تعاون "الحركات الإسلامية" المصريَّة مع السلطة، وبعض ملامح دورها في "الردَّة" التي اعتَرَت مواقف الإسلاميين السنة من الثورة الإيرانية، بدعم وتمويل سعودي؛ ما أجهض كل محاولات الإفادة من التجربة الإيرانية. وسنواصِل هاهُنا تتبُّع بعض مآلات هذا "التنسيق الأمني"، وكيفيَّة إجهاضه لثورة حقيقيَّة كانت تَعتَمِلُ بها الحياة الدينيَّة والاجتماعيَّة في مصر.

جدير بالذكر أن "الإسلاميين" قد تأخَّروا -عموما- في رصد نشاط الحركة الإسلامية في إيران، بل وفي إدراك طبيعة الحدث، رغم احتفاء الطيف الحركي الإسلامي الكاسِح بالثورة، بادئ أمرها. فكانت صحيفة الأهالي (التي يُصدرها حزب التجمع)(١)-مثلا- أسبق من صحافة "الإسلاميين" في ذلك، وفي تتبُّعه، بل وفي نشر أول حوار مع الإمام الخميني. بل كان اليسار عموما أسبق من الإسلاميين السُنَّة، في كل مكان(٢)؛ لسببين: أولهما أن الحل الثوري جزء من التكوين النظري للعقليَّة الماركسيَّة، ومن ثم فهي تملك مقدرة إضافيَّة على استشفاف إرهاصاته مُبكرا، وذلك على عكس ذهنيَّة "الإسلاميين" السنَّة المسيَّسين؛ إذ لم يكن مثل هذا الحل جزءا من تكوين الإخوان المسلمين، الذين كانوا يَسعُونَ للدمج في النظام السياسي القائم، بتجسيد سياسات السادات الرأسمالية، ومعاونته في تقليم أظافر اليسار بطوائفه.
"الإسلاميين" قد تأخَّروا -عموماً- في رصد نشاط الحركة الإسلامية في إيران، بل وفي إدراك طبيعة الحدث، رغم احتفاء الطيف الحركي الإسلامي الكاسِح بالثورة، بادئ أمرها. فكانت صحيفة الأهالي (التي يُصدرها حزب التجمع)-مثلا- أسبق من صحافة "الإسلاميين" في ذلك، وفي تتبُّعه، بل وفي نشر أول حوار مع الإمام الخميني. بل كان اليسار عموما أسبق من الإسلاميين السُنَّة

أما السبب الثاني، فهو ذهنيَّة إخوان السبعينيات الاندماجيَّة/ الانبطاحيَّة، ورغبتهم في تصوير أنفسهم بوصفهم تنظيما سياسيّا قُطريّا "معتدلا"، وشبقهم إلى نيل شرعيَّة قانونيَّة من الدولة ما بعد الكولونياليَّة؛ فكانوا لا يَملُّون التصريح بأنهم "لا يدعون للثورة ولا لجهاد الحكومات، أو الانقلاب عليها؛ وإنما إلى وحدة الحكام والمحكومين تحت راية الإسلام"!! لكن، وعلى إثر رفض الإيرانيين للوساطة الإخوانيَّة في أزمة الرهائن، واتهامهم كل من يتوسَّط بهذا الصدد بأنه عميل أمريكي؛ بدأ الإخوان يَبتَعدون تدريجيّا عن موقف التأييد (تزامُنا مع التمويل السعودي). وبعد أن كانوا يَدعمون الثورة في إيران، حتى في مواجهة الدعوات الانفصاليَّة للعرب والأكراد السنة في إيران، التي اعتبروها "خيانات قوميَّة" للإسلام؛ إذا بهم يذهبون إلى تأثيم فعل اتخاذ الرهائن، وصولا إلى نهيهم الشيخ المحلاوي عن محاولة تجسيد نموذج الخميني في مصر (ونصحوه باتخاذ مواقف أكثر اعتدالا!!)، مرورا بالشجب الرخو لعدوان البعث العراقي على إيران، الذي آل إلى صمت شبه كامل بعدها، بإيعاز من مُسعِّر الحرب وممولها.. وممولهم!

نعم، كان الجيل الذي باع الثورة شابّا للسعوديين والسادات والأمريكان -قبل أربعة عقود- هو عينه الجيل الذي حطَّم "الربيع العربي" وباع شظاياه شيخا -لأطراف شتى- تحت سمع وبصر التاريخ. ولا عزاء للمغفَّلين!

لقد كان تغيُّر استراتيجيَّة السادات مع الإخوان، من محاولة قصم ظهورهم كعبد الناصر إلى محاولة تفريغ تعاليمهم من المحتوى، وصب ما يُلائمه في قوالبها (اتباعا للنمط الأمريكي في العلمنة)، بالتوازي مع وضع عدد من القيادات المفرَج عنها حديثا من المعتقلات على رأس تنظيم قوامه طلاب جامعيون صغار السن (من التنظيم الجامعي المشار إليه في مقالنا السابق)، مخترقين أمنيّا؛ تغيُّرا لاقى دعما غير محدود من السعوديين، وشاركه فيه بالجهد والمال كبير استخباراتهم، الساحر المرموق كمال أدهم؛ خصوصا بعد اغتيال الملك فيصل. بل لقد ذهب الخوف بالسادات أن أقرَّ (في تموز/ يوليو 1979م) تعديل المادة الثانية من الدستور، ليجعل الشريعة الإسلاميَّة مصدرا للتشريع، ويصير تدريس الدين إجباريّا في المدارِس (بعد أن ألغاه ناصر!)؛ في محاولة منه لتخفيف الاحتقان، وتجنُّب الدواعي السوسيو-معرفيَّة لـ"استيراد الثورة"!
كانت الثورة الإسلاميَّة في إيران تهديداً صريحاً ومباشراً وخطيرا، قد يؤدي إلى إخراج الوضع الحركي الإسلامي عن السيطرة الكولونيالية، بعد إذ أوشكت جهود مصر والسعوديَّة وباكستان على النجاح في أدلجة "الإسلاميين" وترويضهم ودمجهم في "العمليَّة السياسيَّة"، ما يَسَّر الدفع بهم لاحقا إلى جهاد السوفييت في أفغانستان

لكل ما سبق، كانت الثورة الإسلاميَّة في إيران تهديدا صريحا ومباشرا وخطيرا، قد يؤدي إلى إخراج الوضع الحركي الإسلامي عن السيطرة الكولونيالية، بعد إذ أوشكت جهود مصر والسعوديَّة وباكستان على النجاح في أدلجة "الإسلاميين"(٣) وترويضهم ودمجهم في "العمليَّة السياسيَّة"، ما يَسَّر الدفع بهم لاحقا إلى جهاد السوفييت في أفغانستان -بتنسيق أمريكي- زرافات ووحدانا(٤). أضِف إلى ذلك أن السادات نفسه كان من أشد المعجبين بالشاه، إذ كان يرى فيه نموذجا مثاليّا لحكام العالم الثالث، الذين استطاعوا الحفاظ على نظامهم بموالاة الغرب. وكان يعتقد بأن الشاه سيكون ذا فائدة عظيمة له، لا في مسعاه للتقارُب مع الغرب فحسب، وإنما في مفاوضات السلام مع إسرائيل.

لقد كانت الثورة الإيرانيَّة خطرا داهما؛ لأنها تغيُّر استراتيجي حقيقي غير محسوب، تغيُّر طبيعته رفض الوضع القائم بالكليَّة، ونبذ النظام العالمي الكفري بلا مواربة. والأخطر، أن هذا الرفض كان يَستنِدُ إلى تأويل مخالِف للإسلام، تأويل مُناقِض (على الأقل في سنواته الأولى) للأسلمة البرانية (التي تُفضي إلى العلمنة)، التي تبنَّاها محور مصر والسعوديَّة وباكستان (وتركيا وماليزيا؟!)؛ بمباركة أمريكيَّة. ومن ثم، كانت أكثر مُدخلات هذا التغيُّر مما لا يُمكن لـ"الولي الأمريكي" التحكم فيه، ولا التنبؤ بمُخرجاته -مِنْ ثَمَّ- وإن كانت خطورته جليَّة. إنها خطورة الإسلام حين ينتفِضُ فجأة مُنعتقا من صولة الكفر.

أخيرا وليس آخرا، فإن القارئ يلزمه الاطلاع على حجم وأبعاد الخطورة التي مثَّلتها الثورة الإسلاميَّة في إيران -آنذاك- من واقع ما كتبه الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو عنها -مثلا-، ليتمكَّن من إدراك أن ما أشرنا إليه سلفا ليس سوى الخطوط العريضة، وغيض من فيض، ومجرَّد ومضات من الجهد الذي بُذِلَ في حصار الثورة وتشويهها ومنع مؤثراتها، ومن ثم؛ حصار محاولات الحركات الإسلاميَّة السنية في الانعتاق من النظام العالمي ودوله القُطريَّة. وهو ما سنُخصِّصُ مقالنا التالي إن شاء الله لبيان بعضه؛ فارتَقِب!

ــــــــــ
الهوامش

[1]- شكَّلت السياسات الداخلية لنظام السادات، والتبِعات الإقليمية لزيارته للقدس (1977م)؛ نمط تغطية الصحافة المصرية للثورة الإسلامية في إيران. بيد أن حذافير الموقف الرسمي من إيران لم تتجل إلا في كتابات رؤساء تحرير الصحف القوميَّة، وكبار كتابها؛ وما عدا ذلك فقد ظلت تغطية الصحافة المصريَّة غير مقيدة بالموقف الرسمي، إلى حد كبير؛ وإن كانت مقيدة بمصادرها: وكالات الأنباء العالمية؛ التي تحكم ما تتناوله الصحافة وما لا تتناوله، وتُسلِّط الضوء على قضايا بعينها، وتدفن أخرى تماما، فلا يبقى لها ذكر.

ومن أمثلة المنابر الصحفيَّة، التي تبنَّت الخط الرسمي؛ مجلة المصور وجريدة الأحرار، إذ اتهموا "العناصر الأجنبيَّة" بإشعال الثورة في إيران، وتبنوا مزاعم الشاه بأن الثوار هم "طائفة متطرفة من المسلمين والليبراليين، الذين يرومون تدمير إنجازات الشاه"! والعجيب أن موقف الصحيفتين لم يتغيَّر حتى بعد انتصار الثورة وإعلان الجمهورية الإسلامية. بل كانوا نموذجا لتبني الإعلام الحكومي للموقف الأمريكي بحذافيره، خصوصا في أزمة الرهائن، حتى وصفوا موظفي السفارة الأمريكية المحتجزين بأنهم "مجموعة من المدنيين الأبرياء"، في حين شيطنوا "طلاب خط الإمام". لمزيد من التفاصيل حول مواقف الصحافة المصريَّة من الثورة؛ راجع:

 - Hanan Hammad, “Khomeini and the Iranian Revolution in the Egyptian Press”, in Radical History Review, Issue no. 105 (Fall 2009), pp. 39-57.

2- اعترف كليم صديقي -رحمه الله- في غير موضع، أن مثله مثل باقي المفكرين والمثقفين السنة؛ كانت حُجب المذهبية قد رانت على بصائرهم، وكانت إيران منطقة معتمة، في خارطة الحركة الإسلاميَّة حول العالم؛ فلم يُدركوا طبيعة الحدث إلا متأخرا، وذلك رغم أن صديقي نفسه كان أحد المفكرين المسلمين المعدودين، الذين تنبؤوا بحدث من هذا النوع، بل وكان ينتظره؛ بيد أن إيران لم تجُل بخاطره.

3- للمزيد حول مسألة أدلجة التيارات الحركية، وتزامن ذلك مع تسميها بـ"الإسلاميين"؛ راجع مقالنا (من جزئين): "إسلاميون أم مسلمون"، وهو متاح على الإنترنت. وقد نشر المقال للمرة الأولى عام 2015م، قبل أن تُسرَق بعض أفكاره وتُنشر بالعنوان نفسه في مواقع أخرى، وبأسماء مرتزقة لا خلاق لهم!

4-كان عام 1979م شديد التوتر في أفغانستان، إذ قتل الجيش الأفغاني 25 ألفا في انتفاضة هرات (آذار/ مارس)، وانتهى العام بالاجتياح السوفييتي (كانون الأول/ ديسمبر)، الذي كان فرصة لحشد القوى الراديكالية والمسلحة كافة حول العالم الإسلامي، والتخلص من إزعاجها بتصديرها إلى أفغانستان؛ لا لاستنزاف السوفييت طيلة عقد كامل تقريبا فحسب، وإنما لإعادة توجيه أي مؤثرات "راديكالية" آتية من إيران. ولاحظ أن الجهاد الأفغاني لم ينته إلا في العام الذي انتهت فيه حرب العراق وإيران. أهي مُصادفة؟!