كتب

الهجرة واللجوء.. المقاربات الأمنية تطغى على الحقوق

ظاهرة الهجرة والتشريد القسريين تجد أسبابها في الأحوال السياسية والاجتماعية والاقتصادية

الكتاب: "الهجرة وحقوق الإنسان.. تكلفة الاقتصاد ورهانات السياسات الأمنية وتسييج الحدود"
المؤلف: مجموعة باحثين 
الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية، 2021


انتقل عدد المهاجرين حول العالم إلى 272 مليونا سنة 2019 بزيادة 51 مليون مهاجر على سنة 2019، وهو ما يعادل 3.5 في المئة من سكان المعمورة، وهي نسبة تتجاوز بثلاثة أضعاف نسبة الزيادة السكانية على الصعيد العالمي والمقدرة بنحو 1.10 في المئة. هذا المنحى التصاعدي للهجرة منذ بداية الألفية الثالثة يعد مصدر قلق متزايد لكثير من البلدان والمنظمات الدولية والإقليمية. أصول المهاجرين هؤلاء تتسم بالتنوع والتجدد، حيث ساهمت العولمة في إعادة رسم خريطة الهجرة الخارجية، بالنظر إلى ظواهر جديدة من قبيل التغيرات المناخية، وتنامي النزاعات والحروب، وفشل النموذج الليبرالي في تحسين أوضاع السكان في معظم بلدان الجنوب. 

ولهذا شهدت الهجرة الجبرية تطورا سريعا على حساب الهجرة الإرادية أو الطوعية، حيث تضاعف عدد اللاجئين بين عامي 2005 و 2019 ليصل إلى أزيد من 26 مليون لاجئ، يضاف إليهم ملايين اللاجئين الاقتصاديين واللاجئين المناخيين من غير المعترف بهم، فضلا عن ملايين المشردين داخليا.

هذا الكتاب الذي أشرف على إعداده كل من أستاذ القانون الدولي الحسين شكراني، وأستاذ الاقتصاد السياسي إبراهيم المرشيد، يضم مجموعة من الدراسات لعدد من الباحثين، تتوزع عبر مختلف التخصصات والحقول المعرفية، وتسعى للإجابة عن الإشكاليات التي تثيرها تداخلات الهجرة وحقوق الإنسان، من منظورات الاقتصاد والسياسة والقانون وعلم الاجتماع والجغرافيا.

إعاقة الاندماج

في الفصل الأول من الكتاب تبدأ يمينة ميري، الأستاذة والباحثة في كلية الأداب والعلوم الإنسانية بجامعة القاضي عياض بمراكش، بحثها بالإشارة إلى حقيقة أن التاريخ يؤكد أنه لم يسبق لأي جماعة مهاجرة أن نجحت في الحفاظ على هويتها لأكثر من جيلين أو ثلاثة، موضحة أن الهجرة نوع من التعبير عن رفض قبول العيش في ظل شروط جماعة الانتماء، وهي أيضا طريقة للمطالبة بالحق في تبوؤ مركز اجتماعي أفضل، وتبني قيم جماعية وفردية في ظل ديمقراطيات تشجع على المبادرة الفردية الحرة، وتوفر المساواة بين أفرادها. لكن مشكلة الاندماج الثقافي تظل تطرح نفسها في كل مشروع هجروي. 

وفي هذا السياق تستشهد ميري برأي دومينيك شنابر، الباحثة الفرنسية وأستاذة علم الاجتماع، التي تميز بين النواة المركزية لثقافة المهاجر والأنوية الفرعية، حيث أن المهاجرين بإمكانهم تغيير الأنوية الثقافية الفرعية من دون أن يضطرهم ذلك إلى الانسلاخ عن ثقافتهم، فالنواة المركزية لا يلحقها التغيير إلا نادرا واستثناء. فتقول" يبدو أن العناصر المتنوعة المكونة للنسق الثقافي للمهاجر هي غير قابلة بالدرجة نفسها للتفاوض خلال سيرورة التثاقف، فبعض السمات يمكن للفرد القبول بتغييرها من دون أن يضع هويته العميقة محل مساءلة، وأخرى لا.. والمهاجرون المثقفون المؤهلون فرديا واجتماعيا هم الذين يستطيعون استدخال جزء من معايير وسلوكيات السكان الأصليين مع الحفاظ على الجزء الأكثر حميمية من شخصيتهم.. ويتمكنون من الحفاظ على هذه الثنائية في حالة استقرار على الأقل لمدة زمنية معينة. 

 

                             لاجئون على الحدود البولندية

في حين أن أولئك الذين عجزوا عن هذه المزاوجة عادة يسقطون في التهميش والتطرف، وهذه المظاهر تعبر عن عودة مرضية وانطواء حول الذات.." لكن ميري تستدرك على هذا الرأي بالقول أن من عجزوا عن المزاوجة بين الثقافتين لم يكن انطواءهم تعبير فقط عن هذا العجز إنما قد أعيقوا عن الاندماج، و"عودتهم" المرضية هذه مشروعة في ظل تنامي خطر العداء المصاحب لظاهرة الخوف من الأجانب، وفي ظل مظاهر الإقصاء والتضييق على هؤلاء المواطنين غير الكاملي العضوية.

في فصل آخر يشير الباحث المغربي إدريس لكريني إلى الارتباك في التعاطي مع الهجرة القسرية بين ضفتي المتوسط، مع إمكان تزايد حدة هذه الهجرة تحت وقع تحولات الحراك العربي. راصدا واقع الهجرة القسرية من حيث أسبابها وتاريخها وتجلياتها والمخاطر الإنسانية الناجمة عنها، وتداعياتها بالنسبة إلى الجانبين ،الشمالي والجنوبي، من المتوسط. ويرى لكريني أنه رغم الجهود الوطنية والإقليمية والدولية لإدارة ملف الهجرة القسرية، ومحاولات الموازنة بين المتطلبات الأمنية التي تفرضها سيادة الدول من جهة، والاعتبارات الإنسانية للظاهرة من جهة أخرى، فإنها تظل غير كافية، ما يفرض ضرورة نهج سبل مختلفة تقوم على تدبير الأزمات المختلفة، كونها تمثل العامل الرئيسي والضاغط الأول لركوب غمار الهجرة القسرية، بطريقة تسمح بمعالجة الأسباب الجذرية بدلا من إضاعة الوقت والجهد والإمكانات في التعاطي مع التداعيات.

اللجوء الاقتصادي وأمننة الهجرة

في بحثه الذي يناقش الآثار الاقتصادية والمالية للهجرة في أفريقيا، يلفت أستاذ علم السياسة محمد صدوقي الانتباه إلى أنه إذا كانت ظاهرة الهجرة والتشريد القسريين على مدى العقود الماضية تجد أسبابها في الأحوال السياسية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية المتدهورة، فضلا عن الصراعات المسلحة، فإنها اليوم أضحت في كثير من جوانبها استراتيجية مهمة لكسب الرزق، خلال أوقات الانكماش الإيكولوجي والاقتصادي. ويقول إن المهاجرون الأفارقة يؤدون بالفعل دورا كبيرا في تعزيز التنمية، سواء في بلدان المنشأ أو بلدان الاستقبال الأفريقية، من خلال تأثيرهم في المالية العامة وسوق العمل. لكن هناك جانب سلبي يتعلق بهجرة الأدمغة، حيث تغادر أعداد كبيرة من المواطنين ذوي المهارات العالية بلدانهم الأصلية، وهو ما يعيق نمو قطاعات حيوية في تلك البلدان. كما أن التحويلات المالية للمهاجرين ، وإن باتت مصدرا رئيسيا للعملات الأجنبية لمعظم البلدان الأفريقية، فإن تأثيرها في التحولات الهيكلية في بلدان المنشأ لا يوازي الحجم الكبير لها.

المرشد وشكراني يحللان في الفصل الرابع البعد الاقتصادي لظاهرة اللجوء، مع التركيز على حالة المهاجرين الأفارقة العالقين في المغرب. وهما إذ يقران بأن هجرة الأفراد والجماعات بدافع الفقر وتدهور الموارد الطبيعية وغياب العدالة الاقتصادية ليست ظاهرة طارئة على المجتمعات، يلفتان إلى أن العولمة زادت من تعقيد هذا الوضع رغم انسياب التدفقات البشرية عبر الحدود. وينتقدان عدم دقة مفهوم المهاجرين الاقتصاديين، مستبعدان مقاربة الهجرة وفق آليات السوق(اليد الخفية)، لأنه بحسب ما يعتقدان فإن قرار الرحيل يكون خارج إرادة الفرد ورغباته أي تحت الإكراه والضغط، وهو ما يتطلب مقاربة مختلفة ومنهجية بحثية أكثر عمقا. 

ويعتمد الباحثان، للإحاطة بمختلف أبعاد هذه الهجرة، على منهج الاقتصاد السياسي، أي العلاقة التفاعلية بين ما هو اقتصادي وما هو سياسي، وفي هذا السياق يشيران إلى أن المغرب أصبح بسبب قربه من أوروبا واستقراره السياسي وأدائه الاقتصادي الجيد قببلة لآلاف اللاجئين الاقتصاديين المنحدرين من أفريقيا جنوب الصحراء. وهو ما دفع المغرب لتبني "سياسة هجينة وواقعية مبنية على البحث عن توازنات بين المقاربة الإنسانية والمقاربة الأمنية من جهة،وبين استمالة أوروبا واستمالة أفريقيا من جهة أخرى، ليرسل بذلك إشارات مهمة بشأن مكانته ودوره في تدبير ملف الهجرة واللجوء إقليميا ودوليا". لكن الباحثان يلفتان إلى مفارقة في تقسيم اللاجئين إلى صنفين: اللاجئون السياسيون المعترف بهم، واللاجئون الاقتصاديون الذين يعيشون أوضاعا سيئة بالمقارنة مع الصنف الأول، نظرا لعدم الاعتراف بهم كلاجئين. 

ويؤكدان أن الاتفاقيات الدولية والاقليمية المتعلقة بالهجرة واللجوء لن يكون لها تأثير حقيقي من دون الاعتراف باللاجىء الاقتصادي كمهاجر قسري من حقه الحصول على الحماية، وهو "اعتراف ضروري كخطوة أولى لإادة الاعتبار لكل أولئك الأشخاص الذين لقوا نحبهم بسبب الاضطهاد الذي تسببت به العولمة المتوحشة". 

يبدأ الباحثان لؤي عبدالفتاح وسعيدة بلمير دراستهما المشتركة، حول أمننة الهجرة وسياسات الحجز والتسييج، بالتأكيد على أن أمننة الهجرة أصبحت أمرا واقعا في عدد كبير من الدول، بمعنى أنها دخلت في صلب الانشغالات والسياسات الأمنية لهذه الدول. حيث لم يعد يقف الأمر عند نظم التأشيرات وتشديد الرقابة على الحدود، فصارت إقامة مختلف أنواع الحواجز والسياجات وبناء الجدران الممتدة لآلاف الكيلومترات ظاهرة عالمية واسعة الانتشار، وهي لإن كانت لها أهداف متنوعة إلا أن مواجهة الهجرة غير النظامية والحد من انتقال الأشخاص وتسللهم، أحد أهدافها الرئيسة. 

ويرى الباحثان أن هذه الجدران قد تبث الاطمئنان والأمن على المدى القريب، لكنها قد تزيد من تعقيد الوضع على المستوى البعيد، فهي "تكريس لسياسات الفصل والعزل والإغلاق، بما أن هذه الجدران تحمي فضاء عاما ومجتمعا مدنيا ضد زحف الآخر وتسلله. إنها إغلاق للمجتمع إما لتحسين مراقبته وإما لقمعه. وفي الحالتين فهي ترمز إلى التحول من مجتمع دينامي نشيط، إلى مجتمع محاصر في دائرة الخوف". 

ويوضحان إن عدم ثبوت فاعلية واضحة لسياسات التسوير والحجز في التحكم بتيارات الهجرة، ناهيك عن تسببها بنوع من التجاهل الرسمي لحقوق أساسية لمن يحاولون العبور، يضع خيارات أمننة الهجرة برمتها في موقع المساءلة والمراجعة. ويبقى الخيار الأكثر منطقية البحث عن حل مشاكل الهجرة في أطر ومقاربات أكثر إنسانية وإنصافا.

يضم الكتاب إلى ذلك عددا من الدراسات حول الهجرة البيئية، منها دراسة للباحث عبد الكبير بوحفيظ، يتناول فيها ظاهرة اللجوء البيئي القسري، ووضع المهاجر البيئي في القانون الدولي العام، في ظل الصراع المتنامي بين الدول حول الموارد الطبيعية المحدودة، ولا سيما في ظل "الاضطهاد الجديد" الذي تمارسه بعض الدول المتقدمة صناعيا، وهي الأكثر تلويثا للبيئة والمحيط الحيوي للإنسان، ما يدفع الكثير من المهاجرين البيئيين لمغادرة مواطنهم بحثا عن الاستقرار والأمان في أماكن أخرى، حيث تعد ندرة المياه وتجفيف منابعها من أهم العوامل الدافعة إلى الهجرة البيئية.