قضايا وآراء

جمهورية الحفرة

1300x600
منذ استيلاء البعث على السلطة في سوريا في الثامن من آذار/ مارس 1963، والشعب السوري يعيش في حفرة؛ حفرها له قادة البعث، ذيول الاستعمار الفرنسي، من بقايا جيش المشرق الأقلوي، حين تمت مصادرة حريات السوريين، وألغيت أحزابهم السياسية، ففرّ من فرّ إلى خارج الوطن، فنجم تصحّر في الحياة السياسية، ليتبعها تصحر ثقافي وتجاري لاحقاً.

ومع تحكم العسكر بالسلطة تراجع دور السياسيين، ومعا تراجع دور النخب السياسية والثقافية، إلاّ من لون واحد، وهو اللون الذي رفع شعاره حزب البعث قائداً للدولة والمجتمع. لكن مع مرور الوقت كشّر الأقلويون الطائفيون ذيول المستعمر الفرنسي عن أسنانهم، وأبانوا وجوههم، فصفّوا رفاق بعثهم ليستفردوا بالسلطة، وهو ما وثقّه رفاق دربهم، والذين كان أبرزهم الأمين العام للقيادة القومية للحزب منيف الرزاز في كتابه المهم "التجربة المرة"؛ الذي صاحبه هروبه وهروب المؤسسين للحزب من أمثال ميشيل عفلق إلى العراق، وصلاح الدين البيطار إلى فرنسا. واغتال النظام الأقلوي البيطار لاحقاً في باريس، بعد أن نشر اعتذاره للشعب السوري عن البعث وجرائمه بعنوان: "عذراً شعب سوريا العظيم".
شيئاً فشيئاً ترسّخت دولة الاستبداد، أو جمهورية العبيد، في ظل سلالة آل الأسد، حيث عاش السوريون لأول مرة أجواء الكبت والإرهاب السلطوي الذي لم يعهدوه من قبل، بعد أن كانت بلدهم من أوائل البلدان التي انتعشت فيها التعددية السياسية والحزبية والإعلامية

وشيئاً فشيئاً ترسّخت دولة الاستبداد، أو جمهورية العبيد، في ظل سلالة آل الأسد، حيث عاش السوريون لأول مرة أجواء الكبت والإرهاب السلطوي الذي لم يعهدوه من قبل، بعد أن كانت بلدهم من أوائل البلدان التي انتعشت فيها التعددية السياسية والحزبية والإعلامية.

ومع توسع بطش الدولة البوليسية المستهدفة إلى كافة شرائح الشعب السوري، لتطال حتى نقاباته المدنية أواخر السبعينيات ومطلع الثمانينيات، عقب المواجهة التي وقعت بين الإخوان المسلمين والنظام السوري قبل أن تلتحق بها شرائح مجتمعية أخرى؛ وعلى رأسها النقابات المحايدة يومها، فقد بلغ التوحش يومها ذروته. إذ نفّذ النظام قبلها مجزرة حقيقية بحق التعليم في سوريا، يوم نقل الآلاف من المدرسين الأكفاء إلى وزارات وإدارات خدمية، فكانت في حقيقتها تطهير التعليم من ذوي الخلفيات الإسلامية المتعارضة معه ومع مشروعه الاستئصالي، وهو الذي سبق تنفيذه عبر مجزرة بحق العسكرية السورية، حين سرح الآلاف من الضباط السنة أو الضباط المعارضين له خلال سنوات حكمه، ليخلو الجو له في تنفيذ برامجه بتدجين الشعب السوري، بعد أن تحكم بالجيش والأمن.

في تدمر كان السجن الأكبر للنخب السورية، حيث استطاع النظام الأقلوي سجن أكثر من 30 ألف معتقل فيه. ويقول من عاش تلك المرحلة بأن وجبتي الإعدامات التي كانت تنفذ أسبوعياً تواصلت على امتداد السنوات العجاف، فبلغ عدد من تم إعدامهم 30 ألف شخص، وذلك من النخب السورية المميزة. وترافق هذا مع مجزرة حماة في شباط/ فبراير 1982 التي كانت بحق مأساة العصر، يوم عزل النظام المدينة عن العالم الخارجي، وسط صمت عالمي مريب، وأعمل القتل الوحشي بالأهالي قصفاً بالمدفعية والدبابات والطيران، حتى قيل إن عدد القتلى بلغ أكثر من 40 ألف قتيل. ولم يكشف النظام حتى الآن عما جرى في تلك المدينة التي سعى من خلالها إلى تخويف وإرهاب الشعب السوري.
ما أكثر الحفر التي حُفرت للسوريين على امتداد الوجع السوري خلال العقد الماضي من ثورته، حتى دفع ذلك الأمم المتحدة إلى التوقف عن إحصاء القتلى، ربما كي لا تحرج نفسها، بينما يقدّر البعض عدد قتلى السوريين منذ اندلاع ثورتهم وحتى الآن بأكثر من مليون شهيد، ونصف مليون معتقل، يُعتقد أن معظمهم قضى تحت التعذيب

حفرة التضامن التي تم الكشف عنها أخيراً والتي قيل إن عدد من قتل فيها 41 شخصاً (بينما التحقيقات التي لم يتم الكشف عنها من قبل الباحثين السورية والتركي تشير إلى أن عدد القتلى ضمن الفيديوهات الأخرى التي بحوزتهما ووعدوا بنشرها لاحقاً؛ يتعدى 288 قتيلاً)؛ الشعب السوري عرف بها منذ اليوم الأول لوقوعها، وهو يعرف تماماً أنه يعيش في حفرة التضامن هذه منذ اليوم الأول لاستيلاء البعث على السلطة عام 1963. وما أكثر الحفر التي حُفرت للسوريين على امتداد الوجع السوري خلال العقد الماضي من ثورته، حتى دفع ذلك الأمم المتحدة إلى التوقف عن إحصاء القتلى، ربما كي لا تحرج نفسها، بينما يقدّر البعض عدد قتلى السوريين منذ اندلاع ثورتهم وحتى الآن بأكثر من مليون شهيد، ونصف مليون معتقل، يُعتقد أن معظمهم قضى تحت التعذيب.

لا زلت أتذكر وأنا أغطي بداية الثورة في ريف دمشق، حين قال لي صاحب منشرة أخشاب: "لأول مرة أشعر أن هذه المنشرة وهذا البيت هما لي، لقد تعوّدنا لعقود أن كل شيء ملك لآل الأسد، فنحن في جمهورية الأسد، ولا نملك شيئاً".

إنها جمهورية العبيد، أو جمهورية الحفرة لا فرق.