كتاب عربي 21

في "الكيد" بمكيالين: كفّة حلب وكفّة كييف

1300x600
ثمة تعاريف للكيل بمكيالين، غير التعريف الأشهر القائل: إن الكيل بمكيالين تكريم للظالم وتجريم للمظلوم، أو هو الميل لفريق دون فريق حكماً وقضاء حسب الدين واللون والمذهب واللحن.

شاع المصطلح منذ أن أصبحت أمريكا تحكم العالم بعد الحرب العالمية الثانية، ولا تزال في أمريكا مطاعم تحظر دخول السود والكلاب، وبالأمس قتل فلويد مخنوقاً. وأول اكتيال ظالم معروف كان بين الأخوين قابيل وهابيل.

تنصُّ أعراف العالم وقوانينه على المساواة، بما فيها الدستور الفرنسي الذي صارت ثورته نبراساً في الأدبيات العالمية، لكننا رأينا كيل "رئيس حرية التعبير الفرنسي"، عندما احتج على كارتون مسيء للاتحاد الأوروبي، وقد بارك كارتونا يسخر من مقدسات المسلمين، مع أن كارتون السفارة الروسية من الدرجة الثالثة، خطاً وفكرة، فالخطوط رديئة والفكرة عامة وقديمة. وقد طالب الرئيس الفرنسي الغيورُ السفيرَ بحذفها، فاستجاب سفير روسيا العظمى، فحذفه وكأنه مغرد هاوٍ، أو لاجئ سياسي، خوفاً من عقوبات جديدة بحق روسيا المحاصرة.
رأينا كيل "رئيس حرية التعبير الفرنسي"، عندما احتج على كارتون مسيء للاتحاد الأوروبي، وقد بارك كارتونا يسخر من مقدسات المسلمين، مع أن كارتون السفارة الروسية من الدرجة الثالثة، خطاً وفكرة

قالت المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخروفا ساخرة من المكيالين، في حديثها عن كلام ماكرون: "حقاً؟ أليس رؤساء ووزارة الخارجية الفرنسية من كانوا يعلّموننا أن أي رسوم كاريكاتيرية أمر طبيعي، حتى تلك الفظيعة التي نشرتها شارلي إبدو؟". لقد وصفت الرسوم بالفظيعة، وهو وصف متأخر، والوصف المتأخر تطفيف في مكيال الزمان، فالبكاء على رأس الميت يا زاخروفا.

وأضافت: "قررنا أن نتبع نصيحتهم، وأن نستخدم الهجاء الذي يعدّونه علامة على حرية التعبير، والآن لا يعجبهم شيء". ولو صدقت لقالت: إن دولتها فعلت الأفاعيل في الشعب السوري، فلم يتذمر أحد، فلمَ كل هذه الغيرة على أوكرانيا؟

ويبدو أن بوتين يريد أن يكيل بمكيال واحد، فيدمر بأسلحته الفتاكة التي جرّبها في حلب أوكرانيا أيضاً، حتى لا يتهم بالكيل بمكيالين، ويساوي بين النازية الأوكرانية وبين الإرهابيين السوريين، لكن الغرب يراقبه جيداً، وقد حذره، فكيل أوكرانيا ليس كيل سوريا، ذلك كيل يسير.

وتبدو حجج وزير الخارجية الروسي لافروف، الموصوف بالموسوعة لخبرته وثقافته، مقنعة وقوية ومفحمة، وهو يرد على الصحافية الفرنسية التي بكت مثل الحمامة على غصنها الميّاد: كفّي عن التمثيل أنت صحافية ولست ممثلة في فيلم هندي، أليس هذا ما تسمونه في تقاريركم أضراراً جانبية التي ابتدعتموها؟
يبدو أن بوتين يريد أن يكيل بمكيال واحد، فيدمر بأسلحته الفتاكة التي جرّبها في حلب أوكرانيا أيضاً، حتى لا يتهم بالكيل بمكيالين، ويساوي بين النازية الأوكرانية وبين الإرهابيين السوريين، لكن الغرب يراقبه جيداً، وقد حذره، فكيل أوكرانيا ليس كيل سوريا

وقد يطالب وزير خارجية روسيا بأن من حق روسيا الكيل بالميزان الذي تكيل به أمريكا لنفسها، فهي دولة عظمى مثل أمريكا التي غزت بلاداً كثيرة مثل العراق وأفغانستان وفيتنام والصومال، وقصفت بيت القذافي، واستخدمت القنابل النووية في اليابان، واليورانيوم المنضب في العراق والكويت، فلمَ تستكثرون على روسيا العظمى، زيارة حربية لكيان كان دولة من الاتحاد السوفييتي؟

بل إن الرئيس الأوكراني البطل الذي فتحت له شاشات الفضائيات العالمية، خطيباً، وحلَّ محل غيفارا مناضلاً عالمياً، كال خطاباً بحبرين؛ خطاب للكنسيت الإسرائيلي بحبر أحمر فقال: إن هذا يعني أن أوكرانيا في وضع محفوف بالمخاطر مماثل للدولة اليهودية في الشرق الأوسط، وفي الدوحة خطب خطابا بحبر أخضر فذكّر العرب بأن مليون مسلم مهددون بخطر الإبادة الروسية.

صفق كثيرون لوزير الخارجية السعودي البطل وزعموا أنه لقن المفوض الأوروبي درساً في العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وذكّره بأن ماريوبول الأوكرانية بمثابة حلب لأوروبا؛ فقال: حلب هي حلبنا، (وكاد أن يضيف الأسد أسدنا، وعلي مملوك مملوكنا)، فرد المفوض الأوروبي متبرئا: "لكننا الأوروبيون لسنا من دمّر حلب". قال الأمير فرحان فيصل: لا، لكن تفاعل المجتمع الدولي مع الأزمتين كان مختلفاً!

وبحثت عن الدرس فلم أجد سوى تباهي الأمير ببلاغته الإنكليزية، وهو الذي شجعت حكومته على تدمير حلب، وتواصل حكومته العلاقة مع بشار الأسد، وبذلت دولته جهدها في القضاء على الثورة السورية، وهي منهمكة حالياً في تنظيف السفارة السعودية في دمشق من الغبار والأتربة من أجل لمّ شمل الرؤساء المغتربين في دمشق بسبب الثورات العربية التي فرقت شملهم.

والمكاييل يمكن توحيدها بمكيال واحد، لكن من يصون العين إذا سقمت؟ المشكلة هي في العين، وقديماً قال الشاعر العربي:
شجعت حكومته على تدمير حلب، وتواصل حكومته العلاقة مع بشار الأسد، وبذلت دولته جهدها في القضاء على الثورة السورية، وهي منهمكة حالياً في تنظيف السفارة السعودية في دمشق

وعين الرّضا عن كلّ عيب كليلة   ولكنّ عين السّخط تبدي المساويا

لو صدق مكيال ولي العهد السعودي الرحيم بشعبه الذي غار على المرضى في بلاد الحرمين من أذى الأصوات العالية؛ لمنعَ بث الأغاني أيضا، كما منع بث القرآن من المساجد، ولو صدق السيسي لرفع أجور الموظفين جميعاً كما رفع أجور الجنود والعسكر، وهو أكثر الزعماء العرب مكاييلا وموازينا.

ويمكن أن نتذكر من تاريخنا وقوف علي بن أبي طالب رضي الله عنه أمام القاضي في مقام واحد مع خصمه اليهودي فناداه بكنيته، ونادى اليهودي باسمه، فاحتج وهو الخليفة لأن فيه ظلماً وتمييزاً، وأن نتذكر قصة ابن الأكرمين في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وكان ابن الأكرمين ابن أمير، والقبطي من أهل الذمة، وانتصف له الخليفة، وغيرهما كثير.

ازداد حظ السوريين من الذكر والندب عالمياً، بعد غزو روسيا أوكرانيا، فالأوربيون يلهجون بذكر حلب كمثال على وحشية بوتين، لكن ليس لحلب من الذكرى سوى اللفظ، فالسوريون هم السوريون، ولا يزالون منبوذين ومتهمين، ومحرومين من السلاح والغذاء والحج، ولو كان عندهم عُشر ما عند الأوكران لكان لسوريا شأن آخر.

تذكّر حلب التي كثر ذكرها في الإعلام العالمي بطرفة عن سيدة حسنة الجمال والمكيال، وجدت مسكيناً هزيلاً مقطّع الأسمال، فأقلته في سيارتها الفاخرة، وكل ظنّه أنها ستكسوه وتطعمه وتؤويه، فلما وصل إلى بيتها، أحضرت أولادها وقالت لهم منذرة بالوعيد: إذا لم تأكلوا سيكون مصيركم مثل مصير هذا الهيكل العظمي.

twitter.com/OmarImaromar