كتب

كيف حول الفساد تونس إلى دولة فاشلة؟ مفاهيم ومعطيات (2من2)

كيف تكون الديمقراطية غطاء وحاضنة للفساد في تونس؟

الكتاب: "الفساد والدولة الفاشلة: تونس أنموذجًا"
الكاتب: د. رابح الخرايفي
الناشر: دار الكتاب، تونس، الطبعة الأولى 2021
(311 صفحة من القطع الكبير)
 
كيف تكون الديمقراطية غطاء وحاضنة للفساد في تونس؟ 


سؤال يبدو من الوهلة الأولى غير وجيه لأنه سنستخلص من التقييم السطحي الأولي للسؤال أنه لا يوجد لا رابط موضوعي أو فكري بين الديمقراطية والفساد، وحجة ذلك أنه كلما كرسنا الديمقراطية كأسلوب للحكم لا سيما بعد الثورة فلا يمكن لأي أحد مهما كان مركزه الاجتماعي، أو السياسي، أو المالي أن يفلت من العقاب فتنتفي حينئذ أسباب الفساد.

غير أننا عندما نبحث جيداً في موضوع الفساد من جميع جوانبه، نجد أن إقرار علاقة الديمقراطية بالفساد مبني على تفاؤل مفرط من النخب الفكرية، والسياسية لأن الديمقراطية يمكن أن تكون حاضنةً للفساد وغطاءً له، ومرضاً من أمراضها.

كما يمكن أن تكون الديمقراطية إطاراً عاماً لانتعاشه ونموه خاصة في الدول الموصوفة بالنامية ومنها الدولة التونسية التي شرعت في تكريس مبادئ ديمقراطية حديثة في مرحلة انتقالها من نظام تسلطي دام خمسين سنة، إلى نظام جمهوري يكرس مدنية الدولة. 

الفساد ملازم للديمقراطية فلا ينفصل عنها بل ينتعش في ظلها ويحتمي بها ويصرف النظر على وجوده، وذلك ما وجب أن ننتبه له، فلا نسلم بقرينة وجود الديمقراطية على أنها كافية وحدها لمنع الفساد، وكافية لتجفيف منابعه، واقتلاع جذوره.
 
ينطبق هذا التلازم بين الديمقراطية والفساد على بعض الدول الإفريقية ومنها تونس، فالدول الأوربية أو الاسكندنافية حتى وإن عرفت ظاهرة الفساد ومازالت بنسب محدودة جداً فاجتثاثه ومكافحته كانت لديهم بتعميق مبادئ الديمقراطية والشفافية وتطبيقهما ولا يوجد أحد قد يفلت من العقاب مهما كان مركزه الاجتماعي أو السياسي أو المالي أو الديني أو الفكري أو العلمي.

إصلاح عيوب الديمقراطية سيكون بمزيد من تكريس مبادئ الانتفاح والديمقراطية والمراقبة والمحاسبة وليس التقليل من خطورته والتقاعس على تتبع الفاسدين والتستر عليهم لعدم متابعتهم من أجل أفعال الفساد ونشره فينتصر من ثمة مبدأ الإفلات من العقاب في ظل نظام سياسي ينتقل إلى تأسيس مجتمع ديمقراطي.
 
يقول الكاتب رابح الخرايفي: "غير أنَّ الفساد الذي نبت في مختلف القطاعات، ومؤسسات الدولة ولم يكافح ويزجر في ظل حكم الرئيس الحبيب بورقيبة (1959 ـ 1987) واشتد في ظل حكم الرئيس زين العابدين بن علي (1987 ـ 2011) قد استشرى وتوسع في مؤسسات الدولة والمجتمع بعد الثورة، فنشأ ما يمكن أن نصطلح عليه بالفساد في الديمقراطية وعدم الثقة فيها كآلية للإصلاح. فأصبحنا نتحدث في تونس عن الفساد الديمقراطية" والديمقراطية الفاسدة" و "الفساد في الديمقراطية"، وهي مصطلحات أصبحت شائعة في الإعلام، والمواقع الالكترونية، ومواقع الوسائط الاجتماعية ، وشائعة لدى جمهور من الباحثين، والسياسيين.

إن القناعة الراسخة لدى جمهور الناخبين في تونس هي أنّ "الفساد من العادات الثابتة التي دأب عليها سائر المرشحين، يميل الناخبون منذ الاستقلال عن فرنسا في سنة 1956 إلى تجاهل هذا المعيار عند التصويت، وهو ما تترتب عنه عواقب عديدة مرتبطة بمبدأ المساءلة". الخلاصة النهائية أن الفساد مدمر وقاتل للديمقراطية"(ص175).

فساد النخب السياسية والفكرية 

إلى جانب النقد الذي يسلطه الكاتب على سيادة ديمقراطية الفساد في تونس،فإنه يوجه في الوقت عينه سلاح النقد إلى فساد النخب الفكرية و السياسية التونسية، لا سيما أنَّ أكبر المشاكل والمخاطر التي عرفتها تونس ومازالت تعرفها في سياساتها العامة المكافحة للفساد هو فساد نخبها السياسية، والثقافية، والفكرية، والقانونية، والاقتصادية، وتسامحها معه، والتي من المفروض أن يكون أفراد هذه النخب المتنوعة مثالاً في الاستقامة، ومثالاً في التكوين العلمي، والفكري، والسياسي، والاستقامة في السلوك والمواقف التي يقتدي بها أفراد المجتمع ويستنيرون بأفكارها.
 
غير أن الواقع، والممارسة يبرزان خلاف هذه الشروط المفروض أن تتوفر في هذه النخب. فالانتهازية، والأنانية، والفردية كمظاهر للفساد هي السائدة في العلاقات، والتصرفات سواء بين الموظف والمنتفع أو بين الناخب والمترشح.
 
 يقول الكاتب رابح الخرايفي :"هذا الحال، هو الحال الذي عليه أغلب النخب التونسية في علاقتها بالفساد الأمر الذي يحتاج منا إنجاز دراسات سوسيولوجية، وبسيكولوجية، وتاريخية عميقة تحلل جذور نشأة الفساد في أوساط النخب عموماً، وأسباب تسامح هذه النخب السياسية، والثقافية، والدينية معه، وقبوله في المجتمع، وفي حياة الناس اليومية. 

نستخلص مما سبق استمرار خطر الفساد من صمت هذه النخب، وانخراط الناس في مدحه، واعتباره مصعداً اجتماعياً، وقبول ممارسته في الحياة اليومية على أنه سلوك طبيعي لا يثير أي اشمئزاز أو رفض في المجتمع. أضف إلى ذلك المدح، وصمت النخب المتعمد على عدم إثارة خطر الفساد وبيانه للناس، وانخراط نسبة كبرى من هذه النخب فيه. فقد مارسته وانتفعت من عائداته المائية، والعينية، واكتسبت منه النفوذ السياسي، والاقتصادي، وتبوأت عبره مراكز اجتماعية مرموقة في المجتمع والدولة" (ص 176 ـ 177)
.
التطبيع بين الفساد والمجتمع التونسي 

أصبحت ممارسة الفساد، والانتفاع منه، ومدحه، وقبوله من قبل التونسيين سواء كانوا إداريين، أو اقتصاديين، أو سياسيين، أو نواب أو صحفيين، أو قضاة، أو أمنيين، أو منتفعين بالمرافق العامة مسألة نفسية، وسلوكية، وقيمية راسخة في أذهانهم تحتاج إلى تحليل، وبحوث، ودراسات علمية عميقة ينجزها علماً الاجتماع، والعلوم السياسية، والتاريخ، وعلم النفس العام، وعلم النفس السلوك الاجتماعي خصوصاً لفهم الظاهرة. 

يمارس التونسيون الفساد سراً وعلانية بجميع أصنافه وأحجامه في القطاعين العام والخاص بدرجات متفاوتة، ويتسامحون معه، ثم يدينونه ويتذمرون من آثاره إن لحقهم ضرر منه. هذه الثنائية المتناقضة، هي ما تميز سلوكيات التونسي. وتشكل هذه الممارسة السلوكية الجماعية الشائعة في تونس فساداً اجتماعياً عاماً، فلم يتوضح الميول العام للمجتمع التونسي، الذي يرفض فيه الفساد ويمارس في ذات الآن. والحقيقة هذا أمر غامض يحتاج إلى تحليل سوسيولوجي علمي، وبحوث عميقة.

إن التصور السائد لدى نسبة كبرى من التونسيين هو أن هناك تطبيع ثقافي وفكري مع الفساد، الأمر الذي حوله إلى ثقافة مقبولة اجتماعياً، فلا يمثل من ثمة مشكلاً عند الكثير، بينما أصبح عند البعض الآخر مصعداً اجتماعياً، وفرصة للثراء السريع، والسهل.

يذهب شبق من التونسيين إلى أن التطبيع مع الفساد بلغ أقصاه عندما تم تحويل ذلك التطبيع إلى عمل تشريعي تمثل في صدور القانون الأساسي عدد 62 لسنة 2017 المؤرخ في 24 أكتوبر 2017 والمتعلق بالمصالحة في المجال الإداري، وقد أعفى عدداً كبيراً من الذين انتفعوا، ومارسوا الفساد في ظل حكم الرئيس الرّاحل زين العابدين بن علي.

نص الفصل الثاني من القانون المذكور على أنه "لا يخضع للمؤاخذة الجزائية الموظفون العموميون وأشباههم على معنى الفصلين 82 و 96 من المجلة الجزائية بالنسبة إلى الأفعال التي تم القيام بها والمتصلة بمخالفة التراتيب أو الإضرار بالإدارة لتحقيق منفعة لا وجه لها للغير شريطة عدم الحصول على فائدة لا وجه لها لأنفسهم .

حول سبل مكافحة الفساد 

إن السؤال المطروح تونسياً وعربياً هو: هل يمكن انتهاج سياسة واضحة لمكافحة الفساد على المستوى الوطني والعربي؟.

إن مكافحة الفساد، تتطلب توافر الإرادة السياسية، ومشاركة المجتمع المدني، وتقوية المؤسسات، فضلاً عن دور التعاون الدولي.ويرجع الدكتور محمود عبد الفضيل في دراسته القيمة عن إقتصاديات الفساد، إلى أن القضاء على التداعيات السلبية للفساد على عملية التنمية ومسيرة التقدم في الوطن العربي، يتطلب التحرك على المحاور الرئيسية التالية:

1 ـ محور توسيع رقعة الديمقراطية والمساءلة:ويقتضي ذلك توسيع دائرة الرقابة والمساءلة من جانب المجالس التشريعية والنيابية، والأجهزة الرقابية، ومنظمات المجتمع المدني لتحقيق درجة أكبر من " الشفافية " في العقود الدولية والعطاءات وإتفاقيات المعونة، للقضاء على ما يسمى بـ " الفساد الكبير". وليس هناك من شك في أن الضمان الحقيقي لحل " مشكلة الفساد " حلاً جذريًا يكمن في تداولية السلطة، حتى لا يعشش الفساد طويلاً ويتم توارثه والتستر عليه.  وهنا يبرز دور هام منوط بالإعلام والصحافة في تسليط الضوء على " الفساد الكبير " في أعلى المواقع، مع توافر الضمانات القضائية اللازمة لحصانة الصحفي ورجل الإعلام.

2 ـ محور الإصلاح الإداري والمالي:لا بد من وضع القواعد والضوابط اللازمة لمنع "التداخل " بين الوظيفة العامة وممارسة النشاط التجاري والمالي  (بالأصالة أو بالوكالة ) لمنع اختلاط المال العام والمال الخاص.  وهذا يقتضي بدوره إعادة النظر في اللوائح المالية والإدارية، وتشديد القيود والضوابط والقضاء التدريجي على مفهوم "الدولة ـ المزرعة".

3 ـ محور إصلاح هيكل الأجور والرواتب:ولكي يمكن محاصرة الفساد عند أدنى المستويات، لابد من تحسين أوضاع صغار الموظفين وكبارهم في الخدمة المدنية، من حيث مستوى الأجور والمرتبات وبما يتمتعون به من مزايا، حتى تصبح تلك الأجور والمرتبات أداة لـ " العيش الكريم  " (Living wages)، مما يساعد على زيادة درجة حصانة "صغار الموظفين" و"كبارهم" إزاء الفساد والمفسدين، وبما يساعد على القضاء على  "الفساد الصغير" بأشكاله المختلفة.

وغني عن القول أن محاصرة الفساد وتقليص مساحته، يقتضيان التحرك على "المحاور الثلاثة" في وقت واحد.. إذ إن إصلاح هيكل الرواتب والأجور وتحصين "الموظف العام" لا يكفيان وحدهما للقضاء على الفساد في القاعدة فقط، بينما يحتاج القضاء على "الفساد الكبير" في القمة إلى توسيع نطاق الممارسة الديمقراطية والمحاسبة والإصلاح الإداري الشامل.

إن مكافحة الفساد في تونس، مسؤولية كل المواطنين وأحزاب وقوى المجتمع المدني الحديث، وهي تتطلب ثورة اجتماعية شاملة معطوفة على تأسيس قيم وممارسة الديمقراطية والحفاظ عليها في المجتمع، وآليات واضحة لتأصيل الشفافية والمراقبة الفعالة.  إلا أن هذا الإصلاح لا يبدو سهلاً نتيجة انعدام الديمقراطية في تونس، ونتيجة ضعف أو إنعدام الضوابط وإجراءات الرقابة التي يمارسها المجتمع عن طريق مختلف مؤسساته، وبسبب الروابط والعلاقات الشخصية داخل عوالم المال والسياسة، والتي تعود جذورها إلى قرون من الممارسات الاستبدادية والتقاليد الاقطاعية.

أولاً ـ دور المجتمع المدني في مواجهة الفساد

تستلزم هذه القضية أولاً،تحديد ما نعنيه بمنظمات المجتمع المدني التي يمكن أن تقوم بهذا الدور، وثانيًا،مدى قدرة المجتمع المدني التونسي على مواجهة الفساد بمعناها الشامل. ويلاحظ في هذا الإطار أن معظم الكتابات الخاصة بالمجتمع المدني العربي تنطلق من فرضية وجوده و فعاليته و قدرته على القيام بما يُطلب منه من أدوار، إذا ما توفرت له بعض الشروط و أهمها: الاستقلالية عن الدولة.

غيرأن تقويم قدرات المجتمع المدني يستلزم اللجوء إلى مقاربات منهجية أكثر قدرةً على تحليل و تفسير الأدوار المختلفة التي يمكن أن  يقوم بها المجتمعى المدني،خاصة في ارتباطه بمعيار الفاعلية في تحقيق التنمية والتغييرالاجتماعي. وتعتمد هذه المقاربة على منظورين، هما المنظورالوظيفي (FunctionalParadigm) والمنظورالبنيوي(StructuralParadigm).

والمنظورالوظيفي هوالذي يأخذ في الاعتبار وظيفة منظمات المجتمع المدني الرعائية  والخدمية سواء بالنسبة إلى التنظيمات المهنية أم المنظمات غير الحكومية. وفي هذا الإطار تتحمل المنظمات بعضًا من الأعباء التي انسحبت منها الدولة تطبيقًا لسياسات العولمة، ولذلك يؤدي نشاطها إلى تقليل حدّة التوتر الناتج عن التفاوتات الاجتماعية الحادة عن التهميش السياسي والاقتصادي، إضافة إلى أنها قد تلعب دورًا اقتصاديًا جزئيًا في إطار زيادة الدخل والعمالة والإنتاج. على أن هذه المنظمات لا تهدف إلى إحداث تغيير جذري في نظام المجتمع، بل إن معظمها يعمل في إطار محافظ يهدف إلى الحفاظ على الوضع القائم (Status Quo). كما أنها بطبيعتها الوظيفية لا تساهم في تعظيم مشاركة المواطنين حيث تتركز آليات صناعة القرار في يد القيادات الحاكمة لهذه التنظيمات.

أما المنظور البنيوي،فيرتبط بدور منظمات المجتمع المدني في المساهمة في عملية التحول الاجتماعي و السياسي للمجتمع  باعتبارها أحد الفواعل الأساسية في البناء الاجتماعي.ويتسم دور المجتمع المدني في هذه الحالة في علاقته بمؤسسات المجتمع الأخرى  مثل الدولة و البسوق بكونه عنصرًا يؤدي إلى التوازن الاجتماعي للقوى الفاعلة و ليس تابعًا أوملحقًا(Residual) بتلك العناصر الأخرى. وتتجاوز منظمات المجتمع المدني بهذا المعنى الدور الرعائي ـ الخدمي إلى الدور التنموي بمعنى العمل على تغيير الواقع هيكليًا و تعظيم القدرات، والدفاع عن الحقوق وتمكين القوى الاجتماعية صاحبة المصلحة في التغيير. مما يعطيها الشرعية ويضع تطويرها في غطار تطوير البنى الاجتماعية للمجتمع. و يعني ذلك أن دور هذه المنظمات دورٌ تعبويٌ يرتبط بالتمكين وتعظيم القدرات في إطار نضالي، حيث تعمل على خلق العقلية الناقدة لما يحدث في المجتمع،و المبدعة لأشكال ووسائل التغيير والتقدم. وتمثل منظمات المجتمع المدني بهذا المعنى البنيوي القوة القصدية الفاعلة في التغيير الاجتماعي.

ثانيًا ـ ضرورة مكافحة الفساد بنيوياً

يكمن هدف هذا الكتاب في وضع إطار استراتيجي وطني تونسي لمكافحة  الفساد، مع التأكيد أن مكافحة الفساد بمعناه الشامل لا يكفي فيها القيام بإجراءات تضمن جودة أداء المؤسسات وفاعليته، أو توعية المواطنين بحكم القانون وملكية المال العام. فمع ضرورة هذه الإجراءات وأهميتها، فإنها لا يمكن أن تنجح إذا لم تكن جزءًا من استراتيجية وطنية أشمل تسعى إلى تغيير البنى المجتمعية التي تفرز الفساد و تسانده وتبرّره و تجعله مكونًا من موكونات الثقافة السائدة في المجتمع التونسي. كما يعني أن مكافحة الفساد تعني نضالاً اجتماعيًا ضد سيطرة القوى الطبقية  من الرأسمالية الطفيلية ، والأحزاب السياسية المرتبطة بالمال السياسي الفاسد،التي تحمي البنى التي تفرز الفساد وتحميه. ولذلك فإنّ هناك ضرورة لتوافر شروط معينة في القوى  التي يمكن أن تكافح الفساد.

 

إقرأ أيضا: كيف حول الفساد تونس إلى دولة فاشلة؟ مفاهيم ومعطيات (1من2)