آراء ثقافية

الفنان فتحي سعيدان لـ"عربي21": متشردون قادوني إلى فن التدوير

من الأشياء الصلبة والمعادن وغيرها يبتكر فتحي سعيدان تحفا رائعة وأعمالا فنية

مسار فني فيه المغامرة والابتكار والإبداع، نهج ملون بشغف فني، وذات حالمة ديدنها الذهاب عميقا في دروب الإبداع نحتا للفرح والجمال.

من الأشياء الصلبة والمعادن وغيرها يبتكر فتحي سعيدان ابن العالية (مدينة أندلسية في الشمال التونسي) تحفا رائقة وأعمالا فنية باذخة الجمال، سامقة الإبداع.

إعادة التدوير (الرسكلة)، فنه، يبتكر أعمالا فنية تسر الناظرين، كيف لا نطرب للموسيقى الصادرة من قيثارة بعثت من مهملات قطع ميكانيكية؟

موسيقى لا نسمعها بالأذن بل نتذوق جمالها المنبعث من معاناة الإنجاز اللذيذ.

المسار الفني لفتحي سعيدان فيه مغامرة وابتكار وإبداع. مسار يحفه الشغف، وتحفزه روح حالمة مندفعة تتوغل في دروب الإبداع تنشد الفرح والجمال. من المتروك والمهمل يبعث حياة في جماد ينظر إليه الصدأ بنهم. من التزويق على الحرف، أبحرت عربي21 معه فكان هذا اللقاء:

من هو فتحي سعيدان؟

 

 فتحي سعيدان فنان تشكيلي من مواليد 1988 أصيل مدينة العالية من محافظة بنزرت التونسية، متحصل على الإجازة الأساسية في الفنون المرئية (اختصاص نحت)، في رصيده العديد من المشاركات في معارض فنية فردية وجماعية للفنون التشكيلية.

من أين جئت إلى عالم الفنون؟

العالية تلك المدينة الأندلسية زرعت فينا حب الفن والحياة، عشت بين بيت جدتي من الأب وجدتي الأخرى حيث يوجد منزلنا بينهما، كان عمي فنانا مسرحيا وعمي الآخر شاعرا، وبين خالين يرسمان وينحتان، كنت كلما أعود من المدرسة أذهب حذوهما، إلى أن كبرت وكبر حلمي. مع رغبة والدي في إكمال دراستي، كان تشجيعهما حافزا لي للالتحاق بالمعهد العالي للفنون الجميلة بتونس، حيث كان النحت اختصاصي. وفي ظل وجودي بتونس العاصمة كنت أزور الكثير من المعارض الفنية التشكيلية بعديد الأروقة قصد التعرف على تجارب الفنانين التشكيليين في تلك الفترة.

ما حكايتك مع الغيتار؟

تجربتي مع الغيتار بدأت منذ فترة الدراسة في الجامعة، كانت الغيتار أول اللوحات التي قمت برسمها، من ثم اشتريت غيتارة سنة 2009 وبدأت بتعلم العزف. أعتبر هذه الآلة أداتي المفضلة لأتحرر من بركان أحاسيسي، فتفجر ما في باطني من انفعالات، أترجمها في أعمال فنية، فهي تعبر عن ذاتي، وتنسيني همومي، تذكرني بالماضي الجميل وتصور لي عالما جميلا رحبا.

أنت حروفيّ أيضا، ماذا يعني لك الخط العربي؟

فن الخط هو نظام من أنظمة الرموز الخطية التي تجمع بين كونه علما وفنا في آن واحد، فهو وسيلة التعبير عن اللغة العربية من أجل إبراز جماليتها.

أتعامل مع الخط كونه وسيلة للحفاظ على الأفكار والمعارف من الضياع بواسطة فن جميل من فنون الكتابة العربية، وجميع أنواع الخطوط التي تنطوي تحت تصنيفه. أريد أن أجمع في منجزي البصري بين طرفي معادلة التراث والمعاصر محاولا استلهام الخط في لوحة تحاكي الزمن الحاضر، من هنا تحولت عبارات أغنية "قهواجي" لمحمد الجموسي التي عاشها التونسيون وهم مجتمعون في المقهى، إلى لحظات حب عابرة استقينا منها عنواناً لمخطوطات رسمناها بالخط العربي على جدران المقهى العتيق بمدينة العالية الأندلسية حيث الحوائط التي احتضنت طفولتنا.

هذا التوزيع الخطي وما يتمتع به من مرونة وقابليته للمد والرجع والاستدارة والتداخل والتركيب، هو ما يجعله ساحرا في عين الفنان، يدخل القارئ أو المتفرج في فضاء شعري ليس خطيا البتة، إنه ينتظم لوحاً آخر للقراءة، وفضاء غير محدد، منفصماً بين الكتابة والحرية الخطية، إنه فضاء حر للإبداع.

 



صممت مجسّما من وحي نبتة متأصلة في مدينة العالية أثارت لغطا ناتجا عن سوء فهم، كيف تعاملت مع الواقعة؟

نبتة "الكرضون" من أهم البذور التي جلبها مهاجرو الأندلس إلى مدينتي "العالية" وكانوا يستعملونها في "قردشة" الشاشية (لباس الرأس تختص به تونس، وهو لباس أندلسي) وكانت تختص بها العالية وحدها في إنتاجها، حيث كان لهذه النبتة دور هام في حياة البناء في العالية، وشكلت لأهاليها في فترة ما مصدرا للثراء، ولزارعيها مصدر دخل محترم، وللمشتغلين بها رجالا ونساء مصدر رزق بل كانت عماد اقتصاد بلدة كاملة.

العمل يندرج في إطار تزيين مداخل المدن والميزانية المرصودة لا يمكن تبويبها لغير ذلك.

الفكرة كانت في البداية بإجماع متساكني المنطقة، ومن ثم جاءت بلورة هذه الفكرة حيث اعتمدنا في تصميمها على كلمة "العالية" وهي نسبة لاسم المدينة تحمل في أطرافها أربع نبتات شوكية: الكرضون ويربط هذه الأعمدة شاشيتان نظرا لما اقترنت به هذه النبتة لصناعة الشاشية في فترة ما، حاولت أيضا جمع طرفي المعادلة بين التراث والمعاصرة، وأضفت الخط بطريقة تجريدية فيها احتواء للأشكال المجسمة التي كانت وظيفتها الإحساس بالكتلة والحركة المتجهة إلى الفراغات.

المجسم في النهاية هو عمل نحتي ميداني، وهو ما يجعله يفرض نفسه على المشاهدين.. هو رحلة عبارة مؤثرة في فكرهم، ووجدانهم، يشارك المارة والمشاهدون في أحداث الحياة، فتتولد المشاهدة التي تدفع الجمهور إلى التذوق والتأمل والتساؤل، هذا ما يضفيه العمل التجريدي.

فلفظ التجريد يطلق على كل ما هو طراز ابتعد فيه الفنان عن تمثيل الطبيعة في أشكال، بل يهتم بالجانب البنائي للشكل موظفا فيه الخواص الحسية، والتركيبية للخامة من خلال علاقة تنظيمية مجردة، مع تأكيد محتواها التعبيري من خلال ما يوحي به الشكل، ويؤثر به في المشاهد، دون اللجوء إلى موضوع مباشر.

لعبة استعادة الوظائف تجاه المهمل نحتا، إحدى إبداعاتك التي برعت فيها، من أين استوحيت التجربة؟

النحت، تخصصي الرئيسي، الذي جذبني لعشق آخر من الفن، فن تشكيل الخردة. فمع تزامن دراستي بالمعهد العالي للفنون الجميلة بتونس، وخلال تواجدي في العاصمة التونسية، كنت أزور العديد من المعارض الفنية باستمرار لأكتسب بعد ذلك مخزونا وثقافة بصرية، إضافة إلى أني كنت كثير الاطلاع على أعمال السابقين من الفنانين. من ثمّ بدأت تجربتي عن طريق التدرب على اللحام بالكهرباء، حيث كنت أقوم بإنشاء أعمال عفوية في البداية، تجريدية وصغيرة من حيث الحجم، إلى حين سنة التخرج، حيث تناولت موضوع التشرد كظاهرة إنسانية في تحويله إلى رؤية تشكيلية، حينها اختلطت علي الأفكار، فسعيت إلى محاولة بلورة هذه الفكرة في عمل تشكيلي نحتي.

وصادف مروري بجانب مجمع للخردة الميكانيكية، بدت لي منذ الوهلة الأولى وكأنها قطع متشردة لا مأوى يقيها من الصدأ، كانت تحيلني على المتشرد الذي يرافقني في ذهني، بدت لي وكأنها جسم آدمي مفتت يريد مني أن أعيده إلى الحياة، تستغيث بي كي أزيل عنها الصدأ ويكون لها مأوى قار.

هذه هي لعبة استعادة الوظائف تجاه المهمل نحتا، بالنسبة لي هي محاولة لرد الاعتبار لذلك المهمل، وفق فكرة إبداعية أعالج فيها جملة من القضايا التي تهم الإنسان. استهواني هذا الأسلوب من التشكيل إذ وجدت فيه مميزات عدة، فقطع الحديد "الخردة" يمكن تطويعها لتنفيذ العديد من الأفكار الفنية التي تخرجني من نمطية الأعمال التقليدية، وهذا ما يجعلها ذات خصوصية، وتجلب الأنظار إليها.

كل الأعمال الفنية التي أقوم بها مغامرة جميلة وقصة عشق فيها نوع من العنف والغضب أحيانا، بالتالي لكل عمل قصة ولكل قصة عنوان.

تعتمد أعمالي النحتية في هذا المجال بالأساس على الخردة، لهذا أنا حريص على زيارة ورشات الميكانيكيين، سواء كانوا مختصين في السيارات أو الشاحنات أو الدراجات النارية، تعوّد عليّ أصحاب هذه الورشات، حتى صرت كأني أنظف لهم محلاتهم.. صاروا يكدسون لي فواضل القطع خصيصا، هم يقدرون ما أقوم بإنشائه، وتجدهم كل مرة يتطلعون بفضول وشغف، لرؤية العمل في شكله النهائي.

 



"يجب أن يكون فن التدوير ثقافة وطنية".. كيف فهمت هذه المقولة وترجمتها؟

بفن إعادة التدوير يمكن أن نصل إلى عالم أكثر بهجة وإشراقا، بتخفيض كميات النفايات التي نخلفها، ففن التدوير يخدم البيئة، بل إنه صار مهما اليوم، وهو يخدم المجتمع من خلال إعادة تصنيع النفايات بطريقة فنية، وحبذا لو تهتم وزارات الثقافة، والتربية والتعليم العربية، بهذا الموضوع وتعمم هذه التجربة على الطلاب والتلاميذ بالمدارس والجامعات ودور الثقافة وتكثف من الورشات لتقديم أعمال فنية مميزة وتنمية القدرات الإبداعية وخدمة البيئة.

ماذا يعني لك فن التزويق؟

الفن مجال شاسع للإبداع والابتكار، والتزويق هو عالم بأسره فيه الإبداع، وهو ما أعمل عليه، بما فيه التأثيث الجمالي، ومنه أقوم بتجميل الفضاءات الخاصة منها والتجارية، وأعمل وفق طلبيات تمنح المكان عبر منجزها الفني حالات من الجمال الذي يسر الناظرين، وهذا بدوره فن.