قضايا وآراء

تهاني الجبالي و"غدر الصُحاب!"

1300x600
"المخابرات العامة المصرية تنعى بمزيد من الحزن والأسى المستشارة تهاني الجبالي، نائب رئيس المحكمة الدستورية سابقاً تغمد الله الفقيدة بواسع رحمته وألهم أسرتها الصبر والسلوان".. نعي مقتضب لتهاني جبالي نشرته "المخابرات العامة" في الصحف الرسمية لم يقابله نعي مماثل من المحكمة الدستورية التي انتسبت لها، رغم الدور الكبير الذي قامت به لخدمتها، دور كبير بالفعل ربما يضاهي دور "رئيس المكتب السياسي" للأحزاب السياسية أو "المتحدث الرسمي" للوزارات والمؤسسات العامة؛ قامت الجبالي به علي أكمل وجه وكانت حضورها طاغياً عندما قررت المحكمة نزول حلبة الصراع السياسي، حيث قامت بدور تآمري بامتياز عقب ثورة يناير، قدمت بموجبه دعماً سخياً للمجلس العسكري ثم أدارت معركة تكسير عظام ضد حكم الرئيس المنقلب عليه الدكتور محمد مرسي؛ فكانت الجبالي فيها رأس الحربة بل قذائف الهاون والمدفعية الثقيلة.

لن أسرد هنا تفاصيل هذا الدور التي يعلمها جميع من شهدها، لكني أتناول هنا وقائع وأحداث لم تنل الاهتمام الكافي رغم أهميتها، فلا يعلم كثيرون أن "الجبالي" رفعت دعوى قضائية أمام المحكمة الدستورية من أجل العودة لعضوية المحكمة، وأخرى لاستلام معاشها ومستحقاتها المالية!

قدمت الأولى للمحكمة في كانون الثاني/ يناير 2013، وطالبت فيها بانعدام الشرعية الدستورية للوثيقة "المسماة" بدستور جمهورية مصر العربية (هكذا قالت.. تعني دستور 2012)، إلا أنها اضطرت للعدول عن هذا الطلب في أيلول/ سبتمبر 2017 وقررت الاقتصار على طلب إلغاء قرار الرئيس مرسي رقم 449 لسنة 2012؛ الذي أعاد تشكيل المحكمة دون الجبالي وبعض زملائها.

لما يقارب الخمس سنوات انتظرت "الجبالي" حكماً منصفاً من زملائها في المحكمة، لكنها انتظرت عبثاً رد اعتبار لم يتم، وعرفانا بالجميل لم يأت، فإنها عبرت عن تلك الأمنية في حوار صحفي نشرته الأهرام في نيسان/ أبريل 2017 سُئلت فيه عن قرار عزلها وهل استسلمت له رغم إجحافه؛ فقالت نصاً: "لم أستسلم، لدي قضية محجوزة للنطق بالحكم أمام القضاء، وسيكون الحكم بها تاريخيا سواء لصالحي أو العكس، لأنها ستوثق ما حدث من انتهاك للمنصة التي تتمتع باستقلالية تامة لا توجب بعزل قضاتها".

الحكم الذي انتظرته "الجبالي" صدر بعد عام من إجرائها هذا الحوار وخمسة أعوام من رفع الدعوى، لكنه لم يكن بأي حال "حكماً تاريخياً" كما تمنت، فلم ترد به أي تفاصيل توثق الحدث وجاء حكماً باهتاً حمل كماً كبيراً من التجاهل والتنكر لطلباتها ورفضها جميعها بشكل قاطع، بل قرر بحسم عدم أحقيتها في المطالبة بأيٍ منها. ولم يقف الأمر عند ذلك، بل ورد في الحيثيات ما يحسب في خانة الإهانة، حيث نوّه إلى أن الشروط والمتطلبات والاحتياجات الفعلية للمحكمة والمهام المرتبطة بها أمور تتحراها الجمعية العامة للمحكمة عند تعيين الأعضاء أو إعادة تعيينهم، وهو ما يشير ضمناً إلي عدم توافر تلك المتطلبات في الجبالي ومن ثم عدم الاحتياج لوجودها، وذكر ذلك صراحة في ختام الحيثيات فنص على: "فمن ثم يضحي طلب الطالبة إعادة تعيينها في وظيفة نائب رئيس المحكمة فاقداً سنده القانوني السليم حقيقاً بالقضاء برفضه".

الحكم يمثل حالة من التنكر والتجاهل إذا ما علمت أن المحكمة قد أعادت زملاء "تهاني" المعزولين معها في ذات القرار!

لم يتوقف الأمر عند ذلك، فقد أقامت الجبالي في أيار/ مايو 2016 دعوى قضائية أعجب من سابقتها، تطلب فيها الحصول علي مستحقاتها المالية التي لم تنلها كاملة منذ 2012! فطلبت إعادة تسوية معاشها ومكافأة نهاية الخدمة، وصرف بعض التعويضات وفروق مالية أسوة بزملائها المحالين للمعاش، ثم عادت وفي "ظروف غامضة" وسحبت الدعوى وتركت الخصومة في آب/ أغسطس 2017، قبل أن تكتب صحف القاهرة عن قبول دعوى المعاش من جديد في تشرين الثاني/ نوفمبر من ذات العام.

المتابع لجهد تهاني الجبالي وعملها المتفاني في خدمة الثورة المضادة، والخطوات الجريئة التي اتخذتها حتى الرمق الأخير في معركتها ضد ثورة يناير، تنتابه الحيرة عندما يتابع أخبار تلك القضايا التي امتدت بلا داعٍ لسنوات، رغم قيام ذات المحكمة بالانعقاد الدائم وإصدار الأحكام بصورة شبه يومية أيام حكم الرئيس مرسي! تنقلب الحيرة لدهشة عند متابعة المسار غير المتوقع للقضايا بالرفض تارة والانسحاب أخرى!

لم تكتف دولة الانقلاب وفي مقدمتها المحكمة الدستورية بذلك، بل كررت حالة النكران حيالها في مشهد إسدال الستار على مشهدها الأخير!

فجنازة "الجبالي" قد شيعت من مسجد صغير في طنطا بحضور عدد قليل من أهالي قريتها، وخلت من حضور رسمي رفيع المستوى، قضائي أو حكومي! والمتبع في جنازات الرسميين، سواء كانوا حاليين أو سابقين، هو تشييعها من أحد مساجد القاهرة المعروفة، وهو الذي تم بالفعل في جنازة زميلها المستشار حاتم بجاتو، نائب رئيس المحكمة الدستورية، حيث شيعت من مسجد مستشفى الجلاء العسكري، وكان على رأس المشيعين رئيس المحكمة الدستورية المستشار سعيد مرعي، وعدد غفير من القضاة يتقدمهم جميع أعضاء المحكمة الدستورية وهيئة المفوضين بها، بالإضافة لحضور حكومي وعسكري رسمي!

رحلت تهاني الجبالي بعد مشوار فج وممتد من العداء لثورة يناير وكل ما أنتجته في سنتيها اليتيمتين، وثأر شخصي مع الرئيس الراحل محمد مرسي، حيث استمرت في وَسمِه (كذباً) بالخيانة حتى بعد رحيله، لكن يبدو أن هذا لم يكن كافياً في الشفاعة لها عند زملائها لينصفوها ويردوا لها اعتبارها، فإنهم، بالرغم من التصدر باسمهم والدفاع المستميت عن تحالفاتهم الخيانية مع العسكر، ما زالوا يعتبرونها عنصراً دخيلاً على السلك القضائي؛ فرضته عليهم سوزان مبارك! يدلك على ذلك مخالفتهم الرئيس مرسي في كل شيء إلا قرار عزل تهاني وحدها، فقد أعادوا لعضوية المحكمة زملاءها المشمولين بذات القرار من زملائهم ولم يعيدوها هي!

ما نالته تهاني من زملائها عقب عزلها تجده متمثلاً في ما يسميه أدب القصة "جزاء سنمار"، أو ما عبر عنه المثل الشعبي "آخر خدمة الغز علقة" أو سرديات الأخ "حمو بيكا" عن "غدر الصُحاب".