في
الجزء الأول من هذا المقال استعرضنا الصراع الداخلي بين الكتل والأحزاب التي تمثل الذراع السياسي للمليشيات على الأغلب، فما من حزب أو تكتل إلا ووراءه مليشيا، اللهم إلا تلك الكتلة السنية المحرم عليها حمل السلاح. ومن ثم فقد توصلنا إلى أن هذا التصعيد الذي تشنه
المليشيات من خلال عناصرها بزيهم المدني مدفوع بقرارات اتخذت من سياسيي تحالف الفتح، بعد أن فقد مقاعده في برلمان 2018 الذي أطاحت به ثورة تشرين، ويعني فقدان نفوذ سياسي يعد موردا لا يستهان به لمدخول مالي يرفد المليشيات، ما يعني استمرار حيوية هذه المليشيات وتهافت العاطلين على الالتحاق بصفوفها لتأمين متطلبات حياتهم اليومية، لكن الصراع في حقيقة الأمر يخرج عن تلك المكاسب الآنية المحدودة لأصحاب الطموحات المحدودة في الحدود المحدودة بالمنطقة الخضراء.
دلالات المواقف الدولية على الداخل
في بيان للاتحاد الأوروبي، عبر فيه عن مشاركته مجلس الأمن في موقفه المستنكر لتهديد موظفي بعثة يونامي ومفوضية الانتخابات، والتي أطلقتها المليشيات بعد إعلان نتائج الانتخابات. يأتي هذا الموقف بعد أن هاجم تحالف الفتح، الذراع السياسي للمليشيات في
العراق، مجلس الأمن الدولي بعد أن هنأ بنجاح الانتخابات البرلمانية. وعلى الرغم من أن التهنئة بروتوكولية لم تزكِ أحد الأطراف، إلا أن الفتح يرى أن تلك التهنئة تخص طرفا بعينه، تأكد نجاحه. وأكد الفتح في استنكاره لبيان مجلس الأمن أنه تفاجأ بالبيان الصادر عن مجلس الأمن قبل حسم الطعون القانونية، على الرغم من الاعتراضات الكثيرة من غالبية الأحزاب والمرشحين.
لم يكن بيان مجلس الأمن في رأي تحالف الفتح إلا شكلا من أشكال الحرب النفسية التي يرون أنها تُشن عليهم، من أجل تمرير
الصدر لتشكيل حكومة تأتي على هوى مجلس الأمن الذي تسيطر عليه أمريكا وحلفاؤها. فذلك الوسواس القهري المسيطر على قادة الفتح، كان دافعا لإبداء الرفض لبيان بروتوكولي لم يحمل تزكية لأي طرف، إلا أن الخطاب الشعبوي المتبنى من قادة هذا التحالف الموالي لإيران، وجد فرصة لإظهار "وطنيته" ضد المحتل الأمريكي، ناسيا ولاءه لطهران التي تخطط وتدفع بل في كثير من الأحيان تقود.
في العاشر من الشهر الماضي، وصل قائد فيلق القدس في الحرس الثوري
الإيراني إسماعيل قآني إلى بغداد، في زيارة غير معلنة، وعقد فور وصوله عددا من الاجتماعات مع بعض المسؤولين العراقيين وعدد من الأطراف السياسية؛ أغلبها من الميليشيات الخاسرة لمقاعدها في الانتخابات الأخيرة. وكان الهدف الرئيس لزيارة قآني هو تنسيق المواقف بشأن التحالفات السياسية لمرحلة ما بعد إعلان نتائج الانتخابات البرلمانية، التي لم تكن قد ظهرت حتى تاريخه، لكن المؤشرات قد أظهرت أن خسارة المليشيات الموالية له تتطلب سرعة العمل على ما ينقذ أعوانه مبكرا.
محاولة اغتيال الكاظمي.. استعراض قوة أم مراهقة سياسية؟
لقد كان قصف منزل رئيس الوزراء في العراق ثمرة لما كان قادة المليشيات يروجونه لتحصيل مكاسب شعبوية، من أن الكاظمي هو رجل أمريكا في العراق، على الرغم من أن الكاظمي لم يكن ليدخل الخضراء رئيسا للوزراء إلا بتوافق ما يسمى بالبيت الشيعي، ما يعني أن تلك المليشيات التي تروج لمقولة أن الرجل هو ذراع أمريكية، هي من وافقت على أن يتولى الرجل المنصب، حتى ولو بررت بأن المرحلة كانت تستوجب الخروج من دوائر الاختيار المعهودة منذ 2003 لرئيس الوزراء.
لم يسفر قصف بيت الكاظمي - كما القصف المتكرر للسفارة الأمريكية - عن أي أضرار حقيقية؛ اللهم إلا تكسيرا لزجاج النوافذ وخلع بعض الأبواب. وفيما يبدو أن الكلمة الحماسية التي ألقاها قآني في قادة المليشيات عندما زار بغداد أججت حمية الظهور وطلب الدرجات لدى أحد قادة تلك المليشيات، والذي صرح الصدر بأنه يعرفه ويعرف من قاموا بالعملية. ولعل الناظر إلى خطوة محاولة الاغتيال يحتار في الهدف الذي من أجله اتخذ هذا القرار، وهل هو رد على تصريحات الكاظمي ووزرائه الذين أرادوا ردع عناصر المليشيات المتجمعين أمام بوابات المنطقة الخضراء، وإظهار أن الدولة حاضرة وستضبط الأمور.. كلمتان لا بد منهما، يعلم قائلهما، قبل متلقيهما، أنهما لذر الملح في العيون، فكان الرد أن قوتنا حاضرة وسلاحنا صاح.
وقد يُرى قرار قصف بيت الكاظمي بأنه "غشم" سياسي، حيث أن المستفيد الوحيد من هذا القصف هو الكاظمي نفسه، إذ أن المحاولة الفاشلة زادته قوة ودفعت إليه الدعم الدولي والإقليمي، ذلك أن العالم مهما تضاربت مصالحه، يجب أن يظهر بمظهر الرافض للعنف، وهو الموقف الذي اتخذته إيران نفسها حيال العملية التي يبدو أنه لم يتم التنسيق بشأنها، حتى ولو كان الكاظمي يستحق القتل برأيها، إلا أن هذه الطريقة تحرجها وتضعف موقفها ومن تنسق معهم. هذا الحادث ركب موجته الصدر، الفائز في الانتخابات، ليظهر أنه ضد الانفلات، وأن دولة ذات سيادة قادمة لتسيطر.. كلمات يحبها الأتباع وتلقى رواجا لدى الشارع المكلوم منذ سنوات من انفلات السلاح، وقد يتناسى أفعال الصدر لو استطاع إيقاف آلة الموت المليشياوية، فعدو عاقل خير من عشرة أصدقاء مجانين.
صراع الخارج أبعد من صراع الحشد والصدر
لقد كانت قمة بغداد التي عقدها الكاظمي، الباقي على ولايته حينها أيام، إعلانا لأوراق اعتماد جديدة كرئيس للوزراء، قمة بغداد التي طبخت في واشنطن وأديرت من باريس، ورأس جلستها فعليا ماكرون، لم تكن إلا ورقة تحدٍ من الغرب لإيران، بأن رجلنا سيبقى. القمة كانت بمثابة ترتيب أوراق المنطقة بأكملها، ومحاولة لرسم علاقة جديدة بين إيران وجيرانها الذين طالما اشتكوا من تصرفاتها، واختير العراق ليكون جسر الوصل بين إيران وجيرانها، واختيرت المنطقة الخضراء لتكون لوحة لرسم خريطة علاقات المنطقة، واختير الكاظمي ليكون أداة هذه اللوحة.
علاقة الصدر بالسعودية التي زارها في صيف 2017 لا تزال منطبعة في أذهان الإيرانيين، على الرغم من أن الرجل أراد لعب دور حمامة السلام بين السعودية وإيران، لكنه في النهاية ليس الرجل المناسب في معركة صفرية تروج لها إيران، إذ تود لو كان المالكي هو من يقوم بالمهمة، فالرجل محمل بما يكفي تجاه المملكة وسينطق باسم إيران على النحو الذي ترضاه، لذلك فإن الكاظمي يلعب في المربع الذي لعب فيه الصدر من قبل، ويشكلان فريقا لا ترضى عنه طهران، وإن كان لكل منهما دوره في خطة إيران الاستراتيجية في التعامل مع الملف العراقي.
خمسون يوما كانت كافية للعب مباراة للعقول والسياسة تتبارى فيها كل من أمريكا وإيران على الرقعة العراقية قبل إعلان النتائج النهائية، وإذا كانت النتائج قد أُعلنت إلا أن المباراة لم تنته. هذه المباراة كانت تجريبية لمباراة أكبر في فيينا حيث تعقد مفاوضات الملف النووي الإيراني، ومن بعيد تقف تل أبيب كورقة ضغط تهدد بضربات موجعة لطهران، وإن كنت لا أجد حقيقة لذلك الصخب، حتى مع الحديث عن تفاهمات لتل أبيب مع أذربيجان لتكون الأخيرة حصان طروادة الذي به توجه تل أبيب ضربة لطهران، إلا أن ذلك مستبعد بنظري أيضا، والمتاح ضربة لمليشيا موالية لإيران هنا أو هناك.
لكن الحقيقة في كل هذه
الصراعات والتداعيات والسجالات والتي تدمي القلوب هي أن العراق، الكبير الفاعل في المنطقة صاحب أقوى الجيوش في فترة من الفترات، أصبح مجرد رقعة توجه القوى ضرباتها لبعض بالوكالة، وأصبح العراقي بفعل حكامه الحاليين مجرد أهداف يصوب عليه كل طرف ليرسل رسالته للطرف الآخر.