رغم كثرة الدعوات الخارجية والداخلية للحوار والخروج من حالة الاستثناء، يبدو أن الأزمة السياسية الحادة التي تعيشها تونس قد اتخذت منحى تصاعديا بعد تلويح الرئيس بالاستحواذ على "السلطة القضائية" عبر المراسيم، وهو مطلب كان موجودا في خطابه يوم 25 تموز/ يوليو قبل أن يتراجع عنه مكتفيا بالجمع بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، عقب إقالة رئيس الوزراء وحل البرلمان.
فالرئيس الذي ما زال مصرّا على تعديل الدستور والنظام السياسي خلال حالة الاستثناء - بعد أن حوّلها إلى مرحلة انتقالية لتنزيل مشروعه السياسي دون إشراك باقي الفاعلين الجماعيين - يريد نزع الشرعية عن البرلمان عبر حكم قضائي. فصدور هذا الحكم سيعطي "شرعية قانونية" لتجميد المجلس التشريعي ورفع الحصانة عن النواب، كما سيفقد الأحزاب المستهدفة مصداقيتها والكثير من التعاطف الشعبي، بل قد يمهد لتقبل الرأي العام لحلها بحكم قضائي لاحق وإخراجها بالتالي من دائرة العمل السياسي القانوني.
إننا أمام لحظة جديدة من لحظات إعادة هندسة المشهد السياسي في تونس، وهي لحظة يراها الرئيس جزءا من "تصحيح المسار" ومحاربة الفساد ويراها خصومه محاولة لتوظيف القضاء بقصد تصفية خصومه السياسيين والبحث عن "مشروعية" زائفة؛ بعد فشله في تحقيق أي إنجاز منذ إعلان حالة الاستثناء. وبصرف النظر عن موقف الهياكل الممثلة للقضاء من خطاب "التخوين"، وبصرف النظر كذلك عن متانة الحجج الرئاسية أو هشاشتها من الناحية القانونية، فإن اتهام رئيس الجمهورية للقضاء بالتباطؤ المتعمد يهدف إلى تحقيق إحدى غايتين: إما حمل القضاء على مخالفة القواعد المهنية والتعجيل بإصدار أحكام مسيّسة ترضي الرئيس وتشرعن سياساته، وإما التمسك بالاستقلالية وبالحيادية في الصراع السياسي بين الرئيس وخصومه، وهو ما يعطي لهذا الأخير "الحق" في استعمال المراسيم (وهي غير قابلة للنقض بحكم حل الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين وعدم وجود محكمة دستورية) لإسقاط بعض القوائم الانتخابية.
إننا أمام لحظة جديدة من لحظات إعادة هندسة المشهد السياسي في تونس، وهي لحظة يراها الرئيس جزءا من "تصحيح المسار" ومحاربة الفساد ويراها خصومه محاولة لتوظيف القضاء بقصد تصفية خصومه السياسيين والبحث عن "مشروعية" زائفة؛ بعد فشله في تحقيق أي إنجاز منذ إعلان حالة الاستثناء
عندما يقول الرئيس: "أمام بطء إجراءات القضاء حيال تقرير محكمة المحاسبات، أصبح من الضروري اتخاذ قرارات أخرى بالمراسيم"، فإنه يعود إلى روح مشروعه السياسي الذي عبّر عنه يوم 25 تموز/ يوليو الماضي، بقراءته السجالية للفصل 80 من الدستور التونسي: الجمع بين السطات الثلاث خلال حالة الاستثناء. ورغم أن النص الدستوري الصريح لا يعطي للرئيس الحق في حل الحكومة وتجميد البرلمان ورفع الحصانة عن النواب، فإن المجلس الأعلى للقضاء لم يتحرك إلا للدفاع عن استقلالية السلطة القضائية رافضا تولي الرئيس وظيفة النيابة العمومية، ولم يبد ذلك المجلس أي موقف معارض في ما يخص الجمع بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، على خلاف الفصل المنظم للسلطات خلال حالة الاستثناء. كما لم يتحرك المجلس الأعلى للقضاء للرد على المرسوم 117 الصادر يوم 22 أيلول/ سبتمبر، وهو الفصل الذي يعطي للمراسيم الرئاسية سلطة فوق سلطة الدستور والقوانين، ويلغي العمل بكل الفصول الدستورية التي تتعارض معه.
من الناحية القانونية، لم يُلغ المرسوم 117 استقلالية السلطة القضائية، ولكنه أضعفها في السياق السياسي الجديد الذي مركز كل السلطات التنفيذية بين يدي رئيس الدولة، وألغى كل رقابة بعدية على قراراته. فإذا افترضنا مثلا إصدار الرئيس مرسوما يُسقط القوائم الانتخابية لبعض الأحزاب، أو أصدر مرسوما بحل بعض الأحزاب، بل أمر بحل المجلس الأعلى للقضاء ذاته وجميع الهياكل التمثيلية للقضاة، فما هي الجهة التي يمكن الالتجاء إليها للطعن في قانونية هذه القرارات؟ والحال أنه لا توجد أية سلطة رقابية يمكنها الاعتراض على مراسيم الرئيس، ولا يمكن كذلك الاحتجاج بعُلوية الدستور بعد أن رضي الجميع - بمن فيهم القضاة - بحل الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين، وقبلوا بأن تكون للمراسيم سلطة أعلى من الدستور ذاته؛ بتجميد العمل بكل الفصول التي تتعارض مع المرسوم 117؟
إن استهداف الرئيس للقضاء المدني ليس أمرا حادثا بعد 25 تموز/ يوليو، فقد كان يشكك في استقلاليته منذ وصوله إلى الرئاسة، حيث اعتبر نفسه - بحكم تكوينه القانوني - مرجعا أعلى في تفسير القوانين وتأويل الدستور (مستغلا في ذلك غياب المحكمة الدستورية وحالة الانقسام السياسي الحاد بين الأحزاب البرلمانية).
وقد كانت كل أحكام القضاء محل تشكيك ما لم توافق القراءة الرئاسية للنصوص القانونية، وهو تشكيك لم يكن الرئيس يقتصد فيه كلما أصدر القضاء حكما يخالف انتظاراته ويضعف موقفه أمام خصومه السياسيين. وليس التجاء الرئيس إلى القضاء العسكري بعد 25 تموز/ يوليو إلا تعبيرا عن الموقف التشكيكي في القضاء المدني، ذلك الموقف الذي قد يتخذ شكله الأقصى إذا ما قرر الرئيس ممارسة السلطة القضائية عبر المراسيم خلال احتفاليات يوم 17 كانون الأول/ ديسمبر. ولا شك في أن التجاء الرئيس إلى المراسيم لحسم خصوماته السياسية سيزيد في تأزيم الوضع، وسيصعّب الوصول إلى أية تسويات ممكنة بين مختلف الفرقاء السياسيين.
إما القبول بحوار وطني بلا إقصاء ولا استثناء للوصول إلى تسويات سياسية تضمن له موقعا مهما كانت طبيعة الإصلاحات الدستورية والنظام السياسي الذي سيتوافق عليه المتحاورون (وهو أمر مستبعد بحكم إصرار الرئيس على تمرير مشروعه السياسي وفرض الديمقراطية القاعدية دون تشريك أي طرف بما في ذلك الأحزاب "الصديقة" والمركزية النقابية)، وإما الدفع بالصراع إلى الأقصى وتولي السلطة القضائية بالمراسيم
سواء أكان هدف الرئيس من التصعيد "القضائي" تجاه خصومه هو البحث عن تحسين شروط التفاوض أم كان تعبيرا عن رغبة حقيقية في الدفع بالصراع إلى الحد الأقصى، من المتوقع أن يعرف المشهد السياسي التونسي تغيرات جذرية قبل نهاية هذا العام.
فبعد أن استفحلت الأزمة الاقتصادية رغم كل وعود الرئيس ومزايداته الخطابية، وبعد أن فقد هذا الأخير أغلب مناصرى إجراءاته داخل الأحزاب وبين النخب "الحداثية"، وبعد أن اتخذ الاتحاد العام التونسي للشغل موقفا رافضا لمشروع الديمقراطية القاعدية ودعا عبر أمينه العام إلى تحديد سقف زمني صريح لحالة الاستثناء، يبدو أن الرئيس سيجد نفسه مضطرا للقيام بأحد أمرين قبل الإعلان عن نهاية الوضع الاستثنائي: إما القبول بحوار وطني بلا إقصاء ولا استثناء للوصول إلى تسويات سياسية تضمن له موقعا مهما كانت طبيعة الإصلاحات الدستورية والنظام السياسي الذي سيتوافق عليه المتحاورون (وهو أمر مستبعد بحكم إصرار الرئيس على تمرير مشروعه السياسي وفرض الديمقراطية القاعدية دون تشريك أي طرف بما في ذلك الأحزاب "الصديقة" والمركزية النقابية)، وإما الدفع بالصراع إلى الأقصى وتولي السلطة القضائية بالمراسيم لتعديل المشهد السياسي بصورة جذرية قبل إعلان نهاية حالة الاستثناء (وهو السيناريو المرجح، لأن الرئيس سيسوّق لذلك باعتباره نجاحا في "تصحيح المسار"، وسيقدمه لأنصاره باعتباره الإنجاز الأكبر في "مكافحة الفساد" كي يخفيَ عجزه عن مكافحته في المستوى الاقتصادي، بل عجزه عن إدارة الدولة ذاتها رغم استحواذه على كل السلطات التنفيذية والتشريعية).
twitter.com/adel_arabi21