كتاب عربي 21

اعترافات الغنوشي جاءت منقوصة!!

1300x600
نشر رئيس حركة النهضة الشيخ راشد الغنوشي نصا تحت عنوان "عن الثورة والديمقراطية والشعبوية.. شهادة للتاريخ: كيف نقوّم حدث 25 تموز/ يوليو وكيف نتعامل معه؟". رغم أهمية هذا النص إلا أنه لم يحظ بالاهتمام والنقاش في تونس، حيث تعمدت وسائل الإعلام تجاهله، ولم يعلق عليه سواء عدد قليل من السياسيين. يعود ذلك بالأساس إلى موقف معاد لصاحب المقال، وهو موقف يكاد يكون شائعا، ويعكس حرصا على تهميش الرجل والسعي نحو "دفنه حيا".

تكمن أهمية النص في ما تضمنه من اعتراف بعدد من الأخطاء التي ارتكبتها الحركة تحت قيادته خلال سنوات ما بعد الثورة، وخاصة بعد انتخابات 2019. كما أن النص كُتب في ظل القصف المتتالي الذي تعرض له الشيخ من قبل مختلف الجهات، بمن في ذلك عدد من أبنائه الذين رباهم واحتضنهم، لكنهم تمردوا عليه وخرجوا من طوعه. لهذا جاء النص يحمل في طياته نقدا ذاتيا محفوفا بنبرة تبريرية عالية، فالزعيم يصعب عليه أن يعترف بالهزيمة ويتحمل وحده المسؤولية.
جاء النص يحمل في طياته نقدا ذاتيا محفوفا بنبرة تبريرية عالية، فالزعيم يصعب عليه أن يعترف بالهزيمة ويتحمل وحده المسؤولية

أقر الغنوشي بعدد من الأخطاء غير الهيّنة، لعل أبرزها قوله:

- دخلنا الانتخابات دون رؤية واضحة للمستقبل.

- أخطأت "النهضة" في اختيار الحبيب الجملي لتشكيل الحكومة بعد انتخابات 2019.

- الدفاع عن حكومة المشيشي رغم كونها مشلولة، "وأحسب أن ذلك كان خطأ منا"، فالدولة بكل أجهزتها "لا تؤدي وظيفتها باقتدار إلا بتحقق الانسجام بين دواليبها، لا سيما مع رئيس منتخب متمركز جدا حول ذاته. المطلوب ليس مغالبته، وإنما كما قال نائب في البرلمان الأوروبي مناصر للديمقراطية: أعينوه على نفسه".

- الخشية أن تكون قرارات 25 تموز/ يوليو بداية لحكم عسكري مقنّع على طريقة أمريكا اللاتينية.

- الحرص الشديد على تجنب الصدام مع الدولة ومؤسساتها.

كانت هذه أبرز المسائل التي وردت في نص الغنوشي، والتي لا شك في أهميتها. لكن لماذا لم يتم تدارك هذه القرارات الخاطئة رغم الأصوات العديدة التي ارتفعت لتحذر الحركة ورئيسها من خطورة التمادي فيها رغم كلفتها العالية؟
لماذا لم يتم تدارك هذه القرارات الخاطئة رغم الأصوات العديدة التي ارتفعت لتحذر الحركة ورئيسها من خطورة التمادي فيها رغم كلفتها العالية؟

مع ذلك، هناك أخطاء اخرى تجنب الغنوشي الإشارة إليها، أو حاول أن يقلل من حجمها أو يخفف من مسؤوليته الشخصية عنها. من بينها على سبيل المثال لا الحصر، إصراره على الترشح لمنصب رئاسة مجلس النواب، وهو خطأ قاتل كانت له تداعيات خطيرة على مستقل التجربة البرلمانية في تونس؛ إذ بدل أن يضيف هذا الترشح إلى الغنوشي وحركته مزيدا من القوة والتمكين، انعكس الأمر سلبيا عليه وعلى "النهضة" بعد أن أصبح شخصه مستهدفا صباحا مساء ويوم الأحد من قبل خصومه، وفي مقدمتهم رئيسة الحزب الدستوري التي جعلت منه رمزا للشر، وقامت بشيطنته، ولقيت دعما ضمنيا وأحيانا صريحا من قبل كل خصومه، وهو ما جعلها تعبث بالمؤسسة البرلمانية وتطيح بها حتى قبل أن يجمدها الرئيس قيس سعيد. وبدل أن يغير الغنوشي تكتيكه وينسحب في الوقت المناسب، فعل العكس تماما حتى انتهت المسرحية على حساب التجربة الديمقراطية.

صحيح أن رئيس حركة النهضة حاول أن يتقرب من قيس سعيد، وأن يكسبه إلى صالحه، وتجنب استفزازه، وتنازل عن العديد من المسائل حتى لا يدفعه نحو ردود فعل متطرفة، لكن رغم ذلك لم ينجح الغنوشي في بناء ثقة دائمة مع الرئيس. وهو ما جعل هذا الأخير يشك في نواياه، ويرى فيها خطرا داهما عليه وعلى الدولة، ويعتبر اللطف الذي يتعامل به رئيس النهضة معه ليس سوى "نفاق" من أجل تحقيق أغراض أخرى.

ما يجب الإقرار به أن قيادة الحركة لم تتعامل بالجدية المطلوبة مع الرئيس، وأنها قللت من شأنه بعد أن فشلت في احتوائه وتوظيفه لصالحها. وكان الغنوشي يعتبر أن السلطة الفعلية في البرلمان، وأن دور الرئيس رمزي رغم الصلاحيات المهمة التي منحها له دستور 2014، وهو ما اعتبره سعيد إهانة لشخصه، وقرر أن يثبت للغنوشي وحركته أنه هو الدولة وليس فقط رئيس الدولة.
ما يجب الإقرار به أن قيادة الحركة لم تتعامل بالجدية المطلوبة مع الرئيس، وأنها قللت من شأنه بعد أن فشلت في احتوائه وتوظيفه لصالحها

مهم أن يعترف الغنوشي بأن حركته دخلت انتخابات 2019 بدون وضوح، ولكن الأهم من ذلك أن يقر بأن الحركة حرصت منذ 2012 على أن تتربع على عرش السلطة دون أن يكون لها مشروع واستراتيجية وبرنامج حكم. كانت تريد السلطة من أجل السلطة، أي من أجل أن تنتقم لنفسها بعد ملاحقات دامت أربعين عاما. فالذي حدث بعد 2019 ليس سوى الاستمرار في لعبة عبثية على حساب الدولة، وعلى حساب شعب منحها ثقته في البداية، قبل أن ينقلب عليها بعد 25 تموز/ يوليو كما انقلب الرئيس سعيد.

أصاب الغنوشي عندما أكد مسألة في غاية الأهمية، تتمثل في دعوة أنصاره إلى "الحرص الشديد على تجنب الصدام مع الدولة ومؤسساتها". لا يريد الدفع نحو الدخول في دورة جديدة من التصعيد والمواجهات مع الرئيس ومع الدولة، وما يترتب عليها من ضحايا وخسائر كبرى. لكن في المقابل ماذا يقترح للخروج من الأزمة الحالية التي شاركت النهضة في صناعة الجزء الأكبر منها؟ هل الضغط الخارجي وحده كاف للتوصل إلى حل، أم إن المطلوب التخلص من أوهام الماضي، والتفكير في المستقبل بعقلية مختلفة ورؤية جديدة لبلد مرهق؟