مقالات مختارة

أين اختفى “خُدّامُ الشعب”؟

1300x600

ساعات فقط تفصلنا عن موعد انقضاء الآجال القانونية لإيداع ملفات الترشح لسباق الانتخابات المحليّة، المقررة في 27 نوفمبر المقبل، بينما مرّت خمسةُ أسابيع كاملة، منذ إعلان رئيس الجمهورية عن استدعاء الهيئة الناخبة، دون تهافتٍ لافت من الطامحين لدخول المجالس التمثيلية محليّا، خلافًا لتلك الهوشة التي عشناها من التدافع المحموم على عتبات البرلمان.


والسؤال المطروح: أين اختفى الآلاف من الذين تزاحموا على غنائم المؤسسة التشريعية، بشعارات “خدمة الشعب والدفاع عن تنمية ولاياتهم وجِهاتهم”، هل تحوَّلت الأخيرة فجأة إلى جنَّة جزائرية، حتى صارت في غنى عمّن يخدمها؟ أم أنّ هؤلاء فرّطوا فيها دون سابق إنذار؟


من الإنصاف القول إنّه لا يمكن وضع الجميع في سلّة واحدة، حيث لكل “حكم استثناء”، لكن من الواضح أن الأغلبية المتزاحمة على البرلمان في جوان الماضي، لم تكن معنية سوى بتحقيق تطلّعاتها الخاصّة، مادية كانت أو معنوية بحثًا عن الجاه والنفوذ، وإلا كيف يمكن تفسيرُ عزوفها الآن عن دخول المجالس المنتخَبة، وهي الأخرى هيئات تمثيلية للدفاع عن مصالح المواطنين ومشاغلهم الحياتيّة اليوميّة؟ والجواب بسيط تمامًا، إذ يرتبط بفارق المزايا والأعباء قياسًا بمستوى التمثيل الشعبي.


إنّ تلك الألوف التي صدّعت رؤوس الجماهير بصدقها وتجرّدها في التفرّغ لخدمتها، كانت تطمح إلى الظفر براتب وتقاعد مُريحين، فضلا عن قضاء مآربها الأخرى، أما اليوم، وفي مواجهة المشاكل المحليّة لسكان البلدية والأحياء الشعبيّة، فإنها غير جاهزة للنضال وتحمّل التبعات والتضحية في سبيل المواطنين، لأنها لا تملك رسالة ولا مشروع تغيير تبذل جهدها لأجله، بل هي مجرّد فئات انتهازية مدفوعة برغبة جامحة للتّرقية الاجتماعية، في حين لا يتخلّف صاحبُ الإرادة الصادقة في رفع الغبن عن المواطن، مهما كان مستوى التمثيل أو تضاءلت عوائدُه النفعيّة الشخصيّة.


بل على العكس من التفكير المقلوب لأمثال هؤلاء الوصوليين، فإنّ منطق الممارسة السياسيّة والخدمة العمومية عبر بوابة التمثيل الشعبي يفرض على المناضل الفعلي، صاحبِ الرؤية والمشروع والبرنامج، التدرّج في طلب المسؤولية والانطلاق من القاعدة في تبنّي مطالب السكان والمرافعة لتنمية المنطقة والعمل على تحسين خدماتها، طبعًا دون إنكار حق عيّنات محدودة من النخبة المتقدّمة في التطلع المباشر إلى التمثيل البرلماني، لقدرتها على تقديم الإضافة المطلوبة وفق مؤهّلاتها العالية.


قد يقول البعض، مثلما جرى في مناسباتٍ سابقة، إنّ مثل هذه المؤاخذات النقديّة تعكس نفسية تشاؤمية، لا ترى من الألوان الزاهية إلا الأسود، بل إنها، في رأي معارضيها، معركة موجَّهة ضد الأحزاب والناشطين “المستقلين”، بينما يؤكد الواقع، للأسف، أنّ الكثير من الساخطين على الحكم والحكومة والمسؤولين في كافة المستويات، لا يختلفون عنهم إلا من حيث تباين المواقع، حيث إنّ “النخبة” المتلوّنة من تجليّات وأسباب الأزمة العامّة في بلادنا، إذ كلما وصلت فئة منها إلى موقع القرار صنعت مثل سابقاتها، وقد تفوقها سوءا.


من زاوية أخرى، والتماسًا للأعذار الموضوعيّة التي قد يحاجج بها الزاهدون في ولوج المجالس المنتخَبة محليّا، فإنّه من المهم التذكير بانتقادات الطبقة السياسية وخبراء الإدارة في الجزائر تجاه تلك الهيئات، والتي تبقى في نظرهم شبه صوريّة ضمن منظومة الجماعات الإقليمية، وذلك بفعل تغوّل المسؤول المعيَّن، من ولّاة ومديرين ورؤساء دوائر وحتى أمناء عامين بالبلديات، حيث يحوزون سلطاتٍ قانونيّة واسعة، تجعلهم يتحكّمون في مسار القرار المحلّي، بينما يحمل وزرَه وآثاره المنتخَب، حتى أصبح الأخير بمثابة “واقي صدمات”.


إنها فرصة مواتية، مع فتح النقاش حول تعديل قانونيْ الولاية والبلدية، للنظر جديّا في مراجعة صلاحيات الجماعات المنتخَبة، بما يعزز دورها الإداري والتنموي، وفق الأعباء المنوطة بها والتطلُّعات المرجوة منها مركزيّا وشعبيّا، وتعميق التسيير اللافوقي، من خلال التوجّه أكثر نحو نظام إداري إقليمي تنافسي في جلب الموارد وتصريفها، دون الإخلال بمبادئ التوازن الجهوي والتضامن الوطني.


إنّ واقع المجالس المنتخَبة في الجزائر، من حيث السلطات والتطلعات، لا يحفّزها إطلاقا على القيام بوظائف تنموية فعَّالة لتحقيق طموحات الحكومة في تحريك الاستثمارات وعجلة الاقتصاد وتنويع الموارد، وهو ما يقتضي منحها الثقة السِّياسية العليا، والتخلّص من عقدة الإقصاء التي ظلّت تمارس في حق المنتخَب، باعتباره منحدرًا من الحزب وليس من الإدارة البيروقراطيّة، فضلا عن كون هذا الانتقال من مقتضيات التعدديّة والقبول بقواعد اللعبة الديمقراطية.

(عن صحيفة الشروق الجزائرية)