أفكَار

الأشاعرة الجدد.. انتعاش للمذهب ومواجهة مفتوحة مع السلفيين

انتعاش قوي لمذهب الأشاعرة في العالمين العربي والإسلامي (الأناضول)

تشهد الساحة الدينية في كثير من الدول العربية والإسلامية انتعاشا قويا لمذهب الأشاعرة، بعد أن ضعف حضوره في العقود السابقة، مع أنه هو والمذهب الماتوريدي كانا الأوسع انتشارا في العالم العربي والإسلامي لقرون خلت، وهو المذهب العقدي المعتمد في الأزهر الشريف، وجامع الزيتونة في تونس، وجامع القرويين في المغرب. 

يُنسب المذهب الأشعري إلى الإمام أبي الحسن الأشعري (260 ـ 342 هـ)، وقد نشأ معتزليا في كنف أبي علي الجبائي ـ زوج أمه ـ وهو من رؤوس المعتزلة، وبقي الأشعري على الاعتزال حتى جاوز الأربعين من عمره، ثم ترك مذهب المعتزلة بعد تردد وحيرة، إلى مذهب أهل السنة والجماعة، ورد عليهم بعد أن خَبر طرق المتكلمين، وتعمق في الفلسفة والمنطق، وتمرس في أساليب المناظرة والجدل. 

ووفقا لمراقبين فإن تراجع المذهب الأشعري في العقود السابقة يُعزى إلى جملة أسباب، من بينها حضور السلفية المعاصرة المدعومة ماليا بقوة من السعودية ودول خليجية أخرى، وهو ما مَكن دعاتها وشيوخها من نشر عقائدها ومقولاتها ومنهجيتها في كثير من الدول في العالمين العربي والإسلامي وفي دول أخرى في العالم، وتُعدُّ السلفية الخصم المناوئ للأشاعرة والماتوريدية. 

ويشير باحثون إلى أن ظهور السلفية وانتشارها الواسع، جاء بعد تبني السعودية لها كمذهبية دينية رسمية لها، ما دفعها إلى تقرير عقائدها ومقولاتها كمناهج للتدريس في جامعاتها ومعاهدها ومدارسها الدينية، وهو ما حمل بعض أساتذة الأزهر وعلمائه الذين تعاقدوا للعمل في المؤسسات الأكاديمية والتعليمية السعودية إلى إظهار موافقتهم للسلفية، وإخفاء مذهبيتهم الأشعرية، حرصا منهم على الاستفادة من فرص العمل المتاحة لهم هناك، ذات الرواتب العالية والامتيازات المغرية. 

لكن بعد تخلي الدولة السعودية في عهد ولي العهد الأمير محمد بن سلمان عن السلفية، وتفكيك نموذج التدين السابق الذي خيم على مظاهر الحياة الفكرية والسياسية لعقود سابقة، ووقف الميزانيات المخصصة لنشر السلفية ودعم مشاريعها ونشاطاتها في الخارج، انتعش المذهب الأشعري وبدا ذلك واضحا في تصدي أساتذة وشيوخ أشاعرة للرد على السلفية، خاصة في جانبها العقدي التي غالبا ما توصف في أوساط الأشاعرة بأنها تشيع عقيدة التجسيم والتشابه فيما يتعلق بالصفات الإلهية. 

وكان لافتا في هذا الإطار استهداف السلفية بشكل مباشر من قبل الأنظمة السياسية، لأنها وفق منتقديها هي المسؤولة عن تهيئة محاضن تربوية لنشر أفكار الغلو والتشدد الديني، وهو ما يشكل بيئة خصبة لإنتاج الأفكار التكفيرية، وتفريخ الجماعات المتبنية لتلك الأفكار والداعية إليها، والتي عادة ما تكون مقدمة للأعمال العنفية والتفجيرية، وهو ما جعل السلفية في مرمى الاستهداف والمحاكمة العلنية لأفكارها ومقولاتها كما حدث في شهادة الشيخين السلفيين المصريين، محمد حسين يعقوب، ومحمد حسان مؤخرا. 

تراجع السلفية وضعف حضورها هيأ الفرصة لدعاة المذهب الأشعري وشيوخه للتحرك لسدِّ المكان الذي شغله السلفيون من قبل، لا سيما وأن المذهب الأشعري والتدين الصوفي هما المرشحان لتزعم الحالة الدينية وتوجيهها من قبل المعنيين بتشكيل الحالة الدينية وضبط مساراتها، وهو ما أطلق العنان للأشاعرة الجدد لإعادة الاعتبار للمذهب، والدعوة إليه وإشاعته، وفي الوقت نفسه خوض مواجهات ساخنة ومفتوحة مع السلفيين لمحاصرة أفكارهم، وإضعاف حضورهم وتأثيرهم. 

من جهته ذكر الباحث في الحديث النبوي وعلومه، سعد الشيخ أن من أبرز أسباب تراجع السلفية وتقلص نفوذها مؤخرا، ومن ثم انتعاش مذهب الأشاعرة هو "ظهور البديل الأشعري الذي استغل نقاط ضعف السلفية، ليبرز نفسه بوصفه الممثل الوحيد لأهل السنة، وقدم خطابا مدجّنا حظي باستحسان المؤسسات الرسمية، بما أنها لا تزعج التوجه الرسمي للدولة". 

 

                           سعد الشيخ.. باحث في الحديث النبوي

وواصل حديثه مبينا أسباب تراجع السلفية قائلا: "كذلك فإن من أهم أسباب تراجع الخطاب السلفي: غياب الرموز العلمية التي تجتمع حولها السلفية وتنقاد لها، وحالة التشظي والانقسام المنتشرة في صفوفها، وانقسامها إلى عدة تيارات، إذ لم تعد سلفية واحدة، بل سلفيات متعددة..، وهو ما أحدث خلافات شديدة بينها على صدق تمثيل السلفية الحقة، وكذلك تراجع الدعم السعودي، بسبب تغير موقف السلطة الحالي ونظرتها النقدية للخطاب الديني عموما، يضاف إلى ذلك كله الموقف السلبي للسلفية من ثورات الربيع العربي، خاصة التيار المدخلي المعروف بولائه المطلق للسلطات الحاكمة". 

وأضاف: "مما تسبب بتراجع خطابها عند كثير من المسلمين، خاصة في بلدان الثورات العربية، وكذلك الفقر المعرفي السلفي في معالجة مشكلات الواقع الاجتماعي للبلاد العربية والنوازل السياسية المتعلقة بالإصلاح والتغيير، وعدم تقديم حلول عملية مقنعة".

وردا على سؤال "عربي21" حول خفوت الصوت الأشعري إبان العصر الذهبي للسلفية، أرجع الشيخ ذلك إلى عدة أسباب، منها: "مشقة وعُسر فهم العقيدة الأشعرية ذات الطبيعة الفلسفية الكلامية، فهي مدرسة نخبوية وليست جماهيرية، كما ساهم ضعف الكفاءة العلمية في مجالات الدعوة والخطاب والوعظ، في فتح المجال للسلفيين أن يتصدروا المشهد الدعوي في كثير من بلاد المسلمين، لنشاطهم واهتمامهم بهذا الأمر، ولعل من الأسباب الهامة غياب الدعم الرسمي بسبب اكتساح السلفية للمؤسسات الدينية الرسمية في البلاد".

أما عن طبيعة الحوار السلفي الأشعري ـ إن كان ثمة حوار ـ فهي حسب الشيخ لا تعدو أن تكون "مناكفات ومهاوشات عارضة في وسائل التواصل بين بعض أتباع الفريقين لا تتوفر فيها أدنى مقومات الحوار التي ذكرها أهل العلم في أدبيات كتب المناظرة والجدل، لا من ناحية المستوى العلمي وامتلاك أدوات البحث والمناظرة، ولا من جهة التخلق بآداب الحوار والالتزام بأدبياته". 

ولفت إلى أن "الأشعرية حاليا تحاول أن تستغل نفوذها الحالي في إسقاط بعض رموز السلفية، مثلما حصل ليعقوب وحسان في مصر؛ لتخلو لها الساحة في تقديم خطابها للناس على أنه الخطاب الديني الرسمي للدولة، كما بسطت سيطرتها على الأزهر والمؤسسات التعليمية، فلا غرو أن يكون الحوار معها ـ والحالة هذه ـ أشبه بحوار الشاة مع الذئب" على حد قوله. 

بدوره قال أستاذ العقيدة والفلسفة في جامعة الأزهر، الدكتور اليماني الفخراني: "المذهب الأشعري، وشقيقه المذهب الماتريدي هما قلب مذهب أهل السنة والجماعة الذي يعتبر أقرب صورة لفهم العقيدة الإسلامية كما وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وهو ما عليه الأزهر، والمدارس الدينية العريقة في المغرب العربي وفي الهند وباكستان وغير ذلك". 

 



وأشار الفخراني إلى أن "السؤال الذي ينبغي أن يُطرح في هذا السياق: لماذا ضعف المذهب الأشعري لعقود طويلة سابقة، وبدأ يعلو صوته الآن؟ وأين كان الأشاعرة طوال تلك المدة؟ وهل مورست عليهم ضغوط ليعودوا، أم أن الأمر لا علاقة له بالعلم وثمة أشياء أخرى؟". 

أما عن عوامل استعادة المذهب الأشعري لمكانته وسيادته هذه الأيام، فيأتي على رأسها، كما ذكرها الفخراني لـ"عربي21": "وجود الدكتور ـ الإمام الأكبر ـ أحمد الطيب على رأس الأزهر، وهو عالم راسخ في العلم، أشعري صوفي حقيقي، زاهد يدافع عن مذهبه بصدق، ويقود أكبر صرح تعليمي في العالم ألا وهو الأزهر الشريف، بوسطيته واعتداله". 

وتابع: "وهذه المؤسسة تحتضن المذهب الأشعري، وفي الوقت نفسه تُدرس المذاهب الأخرى كما هي عند أصحابها دون تكفير أو تفسيق، وكذلك فإن من الأسباب الهامة في استعادة المذهب الأشعري لمكانته تخلي أكبر دولة تتبنى السلفية أو (الوهابية) عنه، على الأقل هذا هو المعلن، وهو ما شكل خيبة أمل لكل من كان يناصر السلفية أو الوهابية لعقود في هذه الدولة". 

ولفت الفخراني إلى أن ما في "السلفية من سلبيات، كتبنيها لعقائد هي محل رفض ونقد عند الأشاعرة وغيرهم، ويصفونها بالتجسيم والتشبيه، والتسرع إلى تكفير المخالفين لهم وتفسيقهم وتبديعهم، وانتشار ظواهر سلبية في صفوف السلفية كالانغلاق الفكري، واحتكار الحق والحقيقة، ساهم ذلك كله في تهافت دعوتهم، وأتاح المجال لغيرهم للظهور والانتشار من جديد". 

ولم يستبعد في ختام حديثه أن تكون استعادة الأشاعرة لمكانة مذهبهم إنما "هي صحوة علمية ودعوية حقيقية في صفوفهم"، متسائلا: "هل تستمر هذه الصحوة" ليجيب: "أرجو ذلك، وأن يصاحبها تجديد في المذهب الأشعري"، ومتمنيا أن ينفتح الأشاعرة على المذهب الماتريدي (مذهب عقائدي يُنسب إلى أبي منصور الماتريدي (المتوفى سنة 333 هـ) لأن فيه كنوزا من التراث الأشعري المفقود" حسب وصفه.