قضايا وآراء

مُقارَبَة لِنَتائجِ صِراعاتٍ ومُوالَاة

1300x600

خلال الأربعين سنة الماضية فقدَ العرب في حروب فُرضَت عليهم وفي أخرى خاضوها فيما بينهم ومع جوارهم الإسلامي.. فقدوا ملايين الأرواح، ومئات المليارات من الدولارات، والكثير من الطاقات والثروات، وخسروا أنفسَهم وقيمَهم وعلاقاتِهم بعضهم ببعض، وتقهقروا في الوقت الذي يتقدم فيه العالم بسرعة قصوى. وحروبهم تلك فتحت بلدانهم على مصاريعها أمام الصليبيين والصهاينة العنصريين، الأعداء التاريخيين للأمة العربية والدين الإسلام، الذين والاهم مَن والاهم من عربٍ يستعينون بأعدائهم على أخوتهم في القومية والدين وشركائهم في الوجود والمصير، ويستقوون بهم على شعوبهم ومواطنيهم حين يتذمرون من فساد وإفساد وممارسات مؤلمات وأزمات مزمنات، أو حين يختلفون مع أولى الأمر في الرأي والرؤية، أو يثورون على الظلم والطغيان والستبداد.. 

ولا يكترث مَن يوالي الأعداء تلك الموالاة، ويضع نفسه وحكمه وبلده وما يملك في خدمة عدو الأمة والدين، لا يكترث بخروجه على شعبه وأمته ومصلحة بلده وأحكام دينه: ﴿.. وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾.. ويتباهى بفعل ذلك غير آبه بالتاريخ والهُوية والقيم والانتماء، ولا بالناس ومصائر الأجيال، ولا بالهدى وبمن يهتدون.. و﴿إِنَّ اللَّـهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾. 

وبتلك الحروب والموالاة وما جرته على أبناء الأمة العربية من ويلات أسلم الموالون قيادهم لمن لا يرحمهم، وأسس المتحاربون العرب لعداء مقيم بين أبناء جلدتهم.. وخسر معظم العرب بذلك، فيما خسروا، الاستقلال والمال والثقة المتبادلة فيما بينهم والقوة والمكانة والمهابة والكرامة، وتشرذموا وذهبت ريحهم. ورغم ذلك لم يتعلموا الدروس من ذلك ولا يريدون أن يستخلصوا العبر مما جرى وكان وما زال يفتك في جسم الأمة.. ويتغاضون عن أدواء فتاكة لا بد من معالجتها، ومنها ما ينتشر ويسود، ويرتع هو وحَمَلَتُه من دون علاج أو زجر أو ردع.. 

ففي جسم الأمة السياسي نهج غير سليم ولا بنَّاء تتبعه السلطات والمعارضات في ممارستها للسلطة والرغبة في الاحتفاظ بها أو الوصول إليها وتداولها بسلام واحترام.. فالسلطات الحاكمة لا تراعي الدساتير والقوانين والحقوق والحريات ومفاهيم المُواطَنة المتساوية والمصالح الوطنية والقومية العليا عندما تحكم وتصطدم بالمعارضات.. ومعارضات لا تلتزم الموضوعية ولا بالسقف الوطني ومصالح الأقطار والأمة في صراعها على السلطة ومع السلطات.. ويوجد الكثير من المنتفعين والأدعياء والفاسدين الذين ينخرون الأوساط السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويرتزقون من حاكمين ومسؤولين يتلهّفون بدورهم على مرتزقة وموالين وزمّارين وطبالين يحيون مواكبهم. 

وفي جسم الأمة سرطانات خبيثة تتفشى وتعمل من دون أن يشعر بها أحد، جاهلة تتعالم، ومتآمرة مع الأعداء تموه نفسها وترتدي الأثواب الوطنية، ومستعدية للأجنبي على الوطني وتعادي العروبة والدين، وتعمل على تشويه القيم والهُوية، وتزرع اليأس والتشكيك بكل شيء وبالقدرة على إنجاز ما يمكن أن يبني ويُنقذ وينهض بالبلاد والعباد.. 

وتتابع التفتيت والإنهاك بتشجيع وتحريض وتمويل وبتبعية ظاهرة وخفية.. خدمة لمشغِّليها، أو تحقيقاً لمشاريع وسياسات وأيديولوجيات ثبت عقمها وفشلها ودمويتها. وفي هذا الخضم تضيع المصلحة العليا للأمة والوطن والشعب، وترتفع فوقها مصالح حكام وأحزاب وأصحاب حظوة ونفوذ.. وتتقدم على ذلك كله مصالح الحُماة المجلوبين من المستعمرين المتمركزين في الأرض وفي مفاصل الدولة، ثم مصالح الداعمين المتمولين القادمين من خارج الجغرافيا والتاريخ. 

وينتشر ذلك الأمر ويسود ويدوم لأن المفاهيم الوطنية والقومية مشوشة أو منخورة وزئبقية عند البعض، ولأن الحاكم يُماهي الوطن مع ذاته فيصبحان لُحمَة وسَدى، وفي الوقت ذاته يتماهي الحاكم مع من يحميه ويواليه ويقيمه على قدم وساق الحامي الأعلى يجعل الموالاة الانتهازية فوق المصالح والواجبات الوطنية والقومية، ويتم التذرع بالوطنية للتملص من الالتزامات القومية وتدمير الروح القومية.. وعندها لا ينجو القطر ولا تنجو الأمة وقد ينجو حاكم محمي من أعدائهما.. ذلك لأنه لا خلاص لقطر بمفرده على حساب الأمة فحين يضعف الكل يضعُف الجزء.. ويقع المحتمي في سلَّة الحامي "الحليف ـ العدو، المستعمر ـ الطامع، العدو التاريخي للجزء والكل، للأمة العربية والدين الإسلام". 

وتلك نتيجة طبيعية لأي بلد ونظام يبحث عن حُماة ويقدم في سبيل ذلك موالاة ومصالح على حساب بلده وأمته.. فلا قوة له بمواجهة حُماته عندما يسقط أمته، فقوة الجزء من الكل والعكس صحيح.. وهذا آخر ما يفكر به الساسة المتورمون أنانياً وسلطوياً وقُطرياً في معظم، إن لم نقل في كل البلدان العربية. فكيف يمكن للأمة أن تنهض بينما يضعِفُها أبناؤها من داخلها ويهيضون أجنحتها ويوالون أعداءها، وينهكونها بحروب بينيَّة تجري بتحريض من أولئك الأعداء أو تُخاض بالإنابة عنهم؟!
 
والأنكى من ذلك أن العرب لم يتخلصوا بتلك الصراعات والحروب من احتلال زاحف، واستعمار ظاهر وخفي، ومن استبداد مستفحل، ولم يستشرفوا مخرجاً واعداً رغم الحاجة الماسة إلى ذلك.. بل عززوا زحف الاحتلال، وجلبوا الاستعمار الجلي الظاهر والخفي الباطن بصور شتى إلى أقطارهم الضيقة ووطنهم العربي الكبير.. ولم يتخلصوا من ظلم وطغيان واستبداد وفساد داخلي، بل استبدلوا وجهاً من وجوه الظلم والاستبداد والفساد والقبح بآخر أشد فتكاً وأكثر إفساداً وقبحاً.. واستمر القهر وازدهر، واستمر المرَض وانتشر، واستمر الفساد والإفساد واضطهاد العباد وامتهانُهم وإهلاكُهم وقتلُهم..

 

العرب لم يتخلصوا بتلك الصراعات والحروب من احتلال زاحف، واستعمار ظاهر وخفي، ومن استبداد مستفحل، ولم يستشرفوا مخرجاً واعداً رغم الحاجة الماسة إلى ذلك.. بل عززوا زحف الاحتلال، وجلبوا الاستعمار الجلي الظاهر والخفي الباطن بصور شتى إلى أقطارهم الضيقة ووطنهم العربي الكبير..

 



والأقسى ـ الأدهى في تلك الصراعات والحروب المدمرة أن باطنها الفتنة المذهبية والعنجهية الجاهلية والمُغالبة السياسة الفاسدة المُفسدة، وظاهرها الحرص وادعاء بلوغ الأهداف البعيدة للأمة في الحرية والتحرير بينما الأفعال تناقض الأقوال.. فتتزعزع الثقة، ويضيع الناس في الضلالات والمتاهات، وتُستَنبَت الأحقاد في الأنفس والمجتمعات والبلدان تغذيها السياسات الفاسدات، ويستمر النزوع المَرَضيٌّ المقيت، والصراع المدمر.. ويتفاقم الخراب، ويتوالد رسيس من رسيس، فتستيقظ الفتن النائمة.. ولعن الله من أيقظ فتنة نائمة.
 
ورغم ذلك كله أو نتيجة له، ها نحن منذ عشر سنوات ونيِّف ما زلنا في حرب زُينت " ربيعاً"، فوصلنا إلى درجات من صقيع الموت أحرق كلّ حلُم بربيع إلى عقود قادمات مسكونة بالخراب والبؤس والضعف والضنك والأحقاد والثارات.. سنوات يصعُب التنبؤ بعددها نظراً لتوالد الكيد من الكيد، والحقد من الحقد، والبؤس من البؤس، والطغيان من الطغيان، والفتنة من الفتنة، والاستعمار من التبعية والولاء الأعمى لغير الوطن والأمة والدين، وتورُّم الذوات الحاكمة.. والسنوات القادمة حبالى بما وضعت الحرب في رحمها من أَجنة شؤم، وهي أرحام تُتْئم وتَغيل.. ورحم الله صاحب الحكمة زهيراً الشاعر الجاهلي الذي قال في الحرب:

وَمَا الحَـرْبُ إِلاَّ مَا عَلِمْتُمْ وَذُقْتُـمُ            وَمَا هُـوَ عَنْهَا بِالحَـدِيثِ المُرَجَّـمِ
مَتَـى تَبْعَـثُوهَا تَبْعَـثُوهَا ذَمِيْمَـةً             وَتَضْـرَ إِذَا ضَرَّيْتُمُـوهَا فَتَضْـرَمِ
فَتَعْـرُكُكُمْ عَرْكَ الرَّحَى بِثِفَالِهَـا            وَتَلْقَـحْ كِشَـافاً ثُمَّ تُنْتَجْ فَتُتْئِـمِ
فَتُنْتِـجْ لَكُمْ غِلْمَانَ أَشْأَمَ كُلُّهُـمْ               كَأَحْمَـرِ عَادٍ ثُمَّ تُرْضِـعْ فَتَفْطِـمِ
فَتُغْـلِلْ لَكُمْ مَا لاَ تُغِـلُّ لأَهْلِهَـا               قُـرَىً بِالْعِـرَاقِ مِنْ قَفِيْزٍ وَدِرْهَـمِ

لقد تراكم الموتُ على الموت، والقتلى على القتلى، والبؤس على البؤس في وطننا العربي الحبيب، وازدادت معاناتنا فيه وخارجه ووصلت فوق حدود الاحتمال والوصف.. وهبطت سُويات أخلاقية واجتماعية وثقافية وإعلامية وقيم إنسانية هبوطاً شنيعاً سريعاً مُريعاً حتى بلغت ما تحت الدِّرك الأدنى من الهبوط، هذا إذا ما كان ثمة دِركاً أدنى من الأدنى.. بعد أن كانت قبل ذلك في درجة تشارف المَقبول وتسمح بنبضٍ وانتفاضات وأمل وتهدف إلى الصمود والصعود. 

أما العمران ومقومات التقدم والنهوض، ومستويات التطلع إلى الأعلى والأسمى والأجدى فقد انخسفت بذلك كله أرضُ الواقع وهوت إلى الحد الذي يصعب معه التنبؤ بإمكانية العودة إلى ذلك الذي كان "الواقع" المُعْتَرَض عليه بدرجات ودرجات والمنشود تغييره بأفضل منه.
 
ولا نلامس هنا انحدار مستويات أمور أخرى مما يُعدُّ في المُعْتَصَمات والمُنقِذات ومنها السياسات التي أصابتها زلازل ارتدادية مما سببته هي للناس والبلدان والقيم من زلالزل فهبطت بها وبالناس والبلدان والقيم إلى الحضيض، وفاق ما سببته زلزلَاتُها ما تسببه الزلالزل الطبيعية القوية من انهيارات، بما لا يُقاس.. ومسؤوليات السياسات والساسة والعاملين في حقول السياسة والدائرين في فَلَكهم من رجال دين ومثقفين وإعلاميين و.. و.. مسؤوليات أولئك عن تلك الانهيارات، وعمَّا وصلت إليه حال الأمة وأوضاع الناس الاجتماعية والنفسية والمعيشية وحقوقهم وحرياتهم وتطلعاتهم من تردٍّ أكبر من أن يوصف.. لأن المنتَظَر من أولئك حسب الدور والمكانة والتأثير أعلى وأسمى وأرفع من حيث التطلع إليهم بوصفهم أصحاب رؤية وقرار وسلطة و"حكمة وعِصْمَة وعدل ورحمة"، وكونهم رافعة للناس والأوطان من الوهدات التي تسببها الأحداث والأزمات ويسوقها الزمان"، فكيف يكون الحكم عليهم وهم في حقيقة الأمر بعض الداء وأسُّ البلاء وكل الابتلاء؟!.. 

إن الحديث عن ذلك والغوص في تفاصيله تطلُّعٌ من شأنه أن يدخلنا في دهاليز وكهوف لا حدود لظلمتها ورطوبتها وعقمها، وفي سفسطات لا نفع فيها ولا مخارج منها، ولا فائدة ترتجى من الخوض فيها، كما تشير الدلالات.. فلو أراد المصلحون الإصلاح لوجدوا بين أيديهم من الدساتير والقوانين والحِكَم والأحكام والمشاريع ما لا زيادة عليه.. فنحن لا ينقصنا الكلام والتوصيف والشرح والتشخيص ووسائل العلاج وأدواته، ولا خرائط الخروج من ذلك أو من بعضه، بل ينقصنا أن نتجه إلى العمل بصدق وكفاءة وإخلاص وانفتاح على معايير وضوابط سليمة ومرعية التطبيق ولا يخرقها المتنفذون والمحاسيب والموالون والمقربون والأقربون.. وينقصنا أن نتوجه هذا التوجه بكل ما لدينا من إرادة جماعية قادرة ورادعة، وما يمكن أن نصل إليه بالعلم والعمل والإيمان من صحيح ذلك وسليمه ومُجَرَّبه.. 

لكن ما نراه ونعيشه ونتَقَرَّاه بأيدينا في الواقع والممارسات والتوجهات، ونحن في هذا الخضم الزاخر بالويلات والنكبات والتناقضات والمُحبطات.. لا يجعلنا نقنط فقط بل يقربنا من الاقتناع بأنه يلزمنا "قلوبٌ من حجر، وضمائرُ من خشب، وأدمغةٌ من قصب، وألسنة من ماء لا تحسن الكلام ولا الثُّغاء.. وأن تتعطل حواسُّنا وتنعدم أحاسيسُنا ويتغير شيئٌ جذريٌّ في تكويننا الخَلْقِي لكي ندمن العيش في الخوف والعتمة، في الظل والضلال، في الجهل والمحو، في الهَبل والخَبل، ونحتمل ما لا يُحتمل مما نراه ونتجرّعه غصَّات النوم واليقظة وعلى مدار الليل والنهار.. وما يُفرَض علينا ويُراد لنا أن نرتضيه ونُسَوِّغَه ونمجِّده من واقع مأساوي عَلْقَمي، وظلم وإذلال طغياني، ونزف داخلي، واستعمار خارجي، وإرهاب يومي، وظروف استثنائية أصبحت العاديَّ والطبيعيَّ والمستمرَّ المستقرَّ في حياتنا. إننا نحتاج إلى إعادة تكوين من نوع ما لكي لا نشعر بإنسانيتنا ولا نتعاطف مع مَن تُنتهَك إنسانيته، ولنتجرد من الحاجة للحرية والكرامة والفهم والاستقامة، وندمن تعاطي الظلم والقهر والذل والفقر، ونرفعُ مَن يجرِّعوننا ذلك رموزاً أبد الدَّهر. فلا حول ولا قوة إلَّا بالله.