مدونات

صنعاء مدينة مفتوحة النوافذ

محمد مصطفى العمراني- كاتب يمني
ما أجمل هذا الصباح بعد المطر!

الشمس تختفي خلف الغيوم، وعلى سقف جارنا سرب من الحمام أراه لأول مرة، ينفتح باب السطح في العمارة المجاورة فجأة، وتمتد يد بيضاء ترمي بالحبوب فيتسابق الحمام لالتقاطها، تنفتح نوافذ كثر فتختفي اليد ويغلق باب السطح.

لا أعرف أيا من الجيران منذ سكنت في هذا الحي ولأول مرة أفتح النافذة لأرى الصباح بعد المطر.

هممت أن أغلق النافذة، غير أن باب السطح فتح فجأة فتسمرت في مكاني، ظهرت امرأة ترتدي ستارة صنعانية تغطيها فلا تظهر سوى عينيها، على رأسها طشت ثياب وضعته على الأرض وبدأت تربط الحبال على حديد العمدان المنتصبة وتنشر الثياب، تهب رياح خفيفة فتتحرك الثياب المتدلية على الحبال وتهتز الستارة التي على المرأة، فتظهر بعض تضاريس جسدها وتختفي.

بدأت النوافذ تفتح بهدوء وعيون كثيرة تتطلع إلى المرأة بصمت، اشتدت الرياح فطار قميص أبيض حاولت الإمساك به، غير أنه ارتفع وسبح فوق المنازل، وقفت المرأة تتابع رحلة القميص الجوية بينما العيون تتابعها من كل النوافذ. اشتدت الرياح أكثر فطارت الستارة التي تتلفع بها المرأة وشكلت ما يشبه بساط الريح، ظهرت بوضوح شابّة بوجه أبيض فاتن ويدين نقشت بالحناء كأنها عروسة، ترتدي قميص نوم وردي، شعرها الأشقر يتطاير باتجاه الرياح، هرعت تجري نحو الداخل فتعثرت بالطشت وسقطت، تأوهت من الألم فأحسست بالتأوهات في كل النوافذ.

أغلقت النافذة إلا قليلا فسمعتُ شجارها مع رجل يبدو أنه زوجها أو أبوها، ارتفعت أصواتهما وسمعتها بدأت تبكي، يبدو أنه كان يضربها بقسوة. أغلقتُ النافذة تماما وأسدلتُ الستارة وعدت إلى الداخل. حاولتُ نسيان ما حدث بقراءة كتاب أو مشاهدة التلفاز، غير أن ما حدث سيطر على كياني وشغل تفكيري. حزنتُ لما تعرضت له الفتاة وفي أعماقي تمنيت أن يكون ذلك الهمجي أبوها وليس زوجها، وأن تكون عازبة عذراء القلب والجسم حتى أذهب لخطبتها، ونظل نتحدث من النوافذ ونتبادل الإشارات والهمسات حتى نتزوج في القريب العاجل.

بعد ساعات نزلتُ إلى البقالة، سمعتُ ثلاثة من الشباب يتهامسون ويتحدثون عن الجارة الشقراء، مررتُ إلى صاحب الاتصالات لأشتري كرت نت، فإذا به يدعو الله أن يرسل الرياح كل صباح، فسألته بتعجب:

- لماذا كل صباح؟!

- حتى نرى جارتنا الشقراء.

مر مراهق على دراجته يغني: الشقر جننوني.

انتشر الخبر في كل الحارة وخلال أيام لم يكن للحارة من حديث إلا عن الجارة الشقراء، فمن قائل إنها من حراز وآخر يقول إنها من ريمة وثالث يقول إنهم من خولان ورابع يقول إنها من تعز، ورجح الجمهور في الحارة أنهم من حراز.

في اليوم الأول والأيام التي تلتها، فتحت كل النوافذ على منزل جارتنا، وتوجهت كل العيون باتجاه سطح جارتنا.

في المساء، صعدت إلى السطح ثانية لكنها كانت برفقة رجل في الخمسين من عمره، تجمع الثياب على عجل، بينما الرجل يتطلع في كل الجهات بصمت وخلال دقيقة غادرا السطح.

في اليوم التالي ظلت النوافذ مفتوحة، وكنت من ضمن المرابطين بانتظار إطلالة الجارة الشقراء، لكنها لم تظهر.

في اليوم الرابع، كانت النوافذ في شقة جيراننا مفتوحة وكانت الشقة خاوية تماما.

لقد رحلوا..

في اليوم الخامس، أغلقت كل النوافذ في الحارة ولم يعد أحد يتطلع إلى سطح الجيران.

* كاتب وقاص يمني