قضايا وآراء

حُرِّيَّةُ التَّعبير.. وحُرِّيَّةُ التَّشْهير

1300x600

هُناكَ فرقٌ شاسعٌ بين حرية التعبير و"حرية التشهير والتخريب والإفساد والتدمير"، تلك التي تتلطى في ظلال الحرية وتتذرع بحرية التعبير. ومن الأهمية بمكان التأكيد على تمييز مفهومي وعملي مرعي الاعتبار، بين حرية التعبير المطلوبة وحرية التشهير والتخريب المرفوضة بكل المعاني والأشكال والصور.. وهذا يستدعي من المتعاملين مع الكلمة والمعلومَة وأحكام القيمة، من مختلف الشرائح السياسية والاجتماعية والثقافية والإعلامية والدينية، ومِن العقلاء والحكماء والأخلاقيين والمسؤولين النأي بحرية التعبير عن كل نوع من أنواع التشهير والتخريب والتدمير، وعدم تلغيمها بهذه الألغام الخطرة عليها وعلى المحتاجين إليها من الناس.. 

فالحرية عامة، وحرية التعبير خاصة، قيمة ومسؤولية واحترام وبناء وتعزيز للعادل والأخلاقي والسويِّ والإنساني، وينبغي التأكيد على أهمية ذلك وعلى عدم الكيل بمكيالين حين نقاربها ونقارب مناخها والعاملين في مجالاتها لتبقى موثوقة ومرجعية وعالية وليبقى جوها نظيفاً والحكم عليها رشيداً والتعامل معها سليماً. 

ومن البدَهِيِّ أن توضيح المفاهيم وترسيخها، وتبيان الحقائق والدفاع عنها، وكشف التضليل والتخريب ومقاومته، والتدقيق في الأوصاف والأحكام التي يطلقها عنصريون ومتعصبون ومتطرفون وانتهازيون ومرتزقة وجهَلَة ويقدمونها حقائق يكرسونها بالتكرار لنقضها ودحرها.. يحتاج إلى معرفة ووعي وموضوعية وكفاءة مهنية من جهة وإلى فِطنة ودُربة وشجاعة وإرادة ودعم من جهة أخرى.

 

فما ينطوي عليه فعل أولئك العنصريين والمتعصبين المُشهِّرين المخرِّبين وما يقدمونه من رؤى وآراء ونظرات مُستَفِزَّة، وما يطلقونه من أحكام قيمة سلبية وتحقيرية، وما يتبعونه من أساليب تحرك عدواني وضار، يتلفَّع بأثواب حرية التعبير ويستهدف الآخرين بما لا يمكن قبوله ولا السكوت عليه، يؤدي إلى ردود فعل عليه من نوعه، فتتفاعل الأفعال والردود عليها وتنشأ بيئة خطرة على العقل والفهم والحرية والناس.. حيث تتسمِّم العلاقات بين الأشخاص والجماعات، وبين الفرد والمجتمع والسلطة، وقد تنشأ صراعات بين دول وشعوب وأمم، إذا ما تركَّز التشهير والتشويه والتخريب على ديانات ورموز ومعتقدات.. ومن ثم تُبنى على ذلك مواقف وسياسات وممارسات تصل إلى حدِّ الاضطهاد والقمع والعنف والتعذيب والقتل والإبادة الجماعية.. وقد حدث مثل هذا كثيراً وما زال يحدث لمن يذكر ويتذكر ويتعظ. 

إن تسميم التفكير والتدبير والتصرف بالنزوع العنصري الاستعلائي والاستعماري الجديد المتجدد، وبالتعصب والتطرف المقيتين.. يوقظ الفتن ويصنعها وينشرها ويؤدي إلى جراحات "دينية اعتقادية وأخلاقية وإنسانية" لا تندمل، وإلى ردات فعل على الاستفزاز والاتهام والاعتداء.. الأمر الذي يدفع إلى ارتكاب جرائم مُدانة يقوم بها أفراد يردُّون على التطرف بتطرف فتدور عجلة الاتهام والانتقام وقد لا تتوقف.. 

في ذلك المناخ تقلب الحقائق وقد يصبح الضحية جلاداً، حيث يُنسى الفعل المؤسس لرد الفعل، ويُنسى مَن تَعَنْصَر وشهَّرَ وأساء واستفز واعتدى وتكبر وتجبَّر واستخدم حرية التعبير للتشهير والتشويه والتدمير.. يُنسى كل ذلك.. ويبدأ تاريخ الحدث من رد الفعل الذي يتم التركيز عليه وعلى ما جرى في إطاره، ويعمَّم على أنه البدء والمنتهى، الأول والأساس، وينسى الفعل الاستفزازي المقيت ويصبح فاعله دياناً وجلاداً.. ويصبح رد الفعل شاهداً ووثيقة وذريعة ويستثمَر تُهماً ويعمَّمُ إرهاباً يَطال عقيدة ورموزها وأتباعها ومؤمنين بها يقدِّسون رموزها مهما كانت حقيقتهم مغايرة وعددهم كبيراً. 

 

إن تسميم التفكير والتدبير والتصرف بالنزوع العنصري الاستعلائي والاستعماري الجديد المتجدد، وبالتعصب والتطرف المقيتين.. يوقظ الفتن ويصنعها وينشرها ويؤدي إلى جراحات "دينية اعتقادية وأخلاقية وإنسانية" لا تندمل، وإلى ردات فعل على الاستفزاز والاتهام والاعتداء..

 


ومن الملاحظ بكثرة في معظم الأحوال والأوقات والمجتمعات والبلدان وجود تشهير وتضليل وتشويه متعمَّد وموجَّه ومموَّل، يثير هيجاناً جماهيرياً انفعالياً ويؤدي إلى عنف وإبادة جماعية وتصفيات عرقية.. تشهيرٌ واعٍ لأهدافه وموظف بأساليب مدروسة بعناية، مخدوم تقنياً ومهنياً ينتشر ويؤثر ويخرب ويضعف ويفسد ويسوِّغ سياسات إجرامية وممارسات اضطهادية.. يستظلُّ بحرية التعبير وينطلي على كثيرين.. وهو جزء من الحرب الكلامية التي تستهدف الوعي لتعيد تكوينه بما يخدم استراتيجية فاعليه.. تأخذ به سياسات وقوى وميلشيات وجهات مافويّة.. 

وهذا النهج لا يشوه الحقائق والوقائع والمفاهيم المتصلة بحرية التعبير فقط، بل يشوه الحرية بصورة عامة، ويستفز على حرية التعبير، ويحيلها إلى أداة بيد ناقمين ومنتقمين وطامعين وانتهازيين، فيؤدي ذلك إلى اهتزاز الثقة بحرية التعبير وإلى عكس ما ينبغي أن تكون، بوصفها وعياً مسؤولاً مُحرِّراً من نقاء، وما تحمله من رسائل إنسانية هادفة ونور معرفي مرسل لغاية نبيلة، ينشره شجعان يرتبون على أنفسهم تبعات قد تصل إلى التضحية بالذات، حيث تجرُّ المبدئيةُ والأخلاقيةُ وشجاعة ممارسة حرية التعبير على أولئك الصادقين المخلصين لرسالتهم، تجرُّ عليهم النقمةَ وتضعهم في غير المواقع والمواقف التي يستحقونها، وتجعلهم يدفعون حياتهم ثمناً لمواقفهم ولتعلقهم بالحق وممارستهم لحرية التعبير..
  
إن الثقة المتبادلة بين متلقي رسالة الحرية ومرسلها في غاية الأهمية، وقد عانت البشرية الكثير من جراء فقدان الثقة وسوء التفاهم في هذا المجال وسواه.. وما زال عالمنا يعاني من ذلك، حيث يُدخِلُه البعض في العداوات عبر ما يسمى "صراع الحضارات"، أي في مواجهات مُكلفة قد تقود إلى حروب مهلكة.. في حين أن الحضارة تنطوي مفهومياً على رقي أخلاقي وإنساني يجعل تفاعل الحضارات إيجابياً وإنسانياً وتقدماً شاملاً، يرتفع بالعمران والمدنية وبمستويات التفكير والتدبير وبالعلاقات البشرية ولا يجعلها تهبط بها إلى مستوى العنصرية والكراهية والصراعات الدموية والحروب المدمرة..

وعلى هذا فإنه يصح القول بأن التلطي وراء حرية التعبير وممارستها حرية تشهير وتخريب وتدمير واستفزاز وإفساد.. هو سياسة مقصودة لتسويغ العدوان وما في حكمه، ولتشويه صورة الآخرين وتشويه نضالهم وطمس حقوقهم وإبادتهم معنوياً وحتى جسَدياً.. وفي هذا المناخ، وعلى أيدي أشخاص من هذا النوع، وتفكير بهذه الغوغائية والعنصرية، وسياسات بهذه العدوانية، وانحطاط بهذا التدني.. تنشأ بيئة فتنوية سامة وخطرة تدخِل أشخاصاً كثيرين ودولاً وشعوباً في دوامة الكراهية والعداء وتبادل الأفعال وردود الأفعال الدموية التي يغذيها عنصريون ومتعصبون ومتطرفون وعدوانيون "فكرياً وسياسياً واجتماعياً ودينياً وسلوكياً"، ويقودون مئات ملايين البشر إلى صراعات دموية وحروب وحشية وبؤس وكوارث تؤسس لكوارث.
 
هذا، مع الأسف، ما يصنعه ساسةٌ مسكونون بالحقد والجهل والعنصرية والكراهية والعدوانية والطمع والنهب والفتك، ومأخوذون بشعبوية متدنية الغايات تستثمر في الغوغائيات.. وهذا ما يمارسه إعلاميون على شاكلتهم، يسيرون في ركابهم ويعملون ما يرضيهم.. وما يعمله آخرون أتباع لهم ومستأجرون من قِبَلِهم، ومثقفون انتهازيون يسيرون في هذه المواكب أو يتقدمونها ويتمترسون في ساحات الاستفزاز والادعاء العريض والدفاع عن حرية التشهير وعن "مقومات وقيم" لا تدخل في السليم من القيم السليمة والمقومات القويمة التي تحفظ حياة كريمة.

 

تبادل الآراء والأفكار والمعلومات الصحيحة على أرضية من الثقة، يعالج أوضاعاً وقضايا ويساهم في حل مشكلات وتلافي أزمات حين تحكمه عقلانية ومسؤولية أخلاقية وإنسانية وسلامة نيَّات وتوجهات وغايات مبرأة من الاستفزاز والتشهير والتشويه والتخريب.

 



إن هذه التوجهات والممارسات والسياسات تضر ضرراً بالغاً بالحرية عامة وبحرية التعبير خاصة من وجوه عدة، لأنها تدمر، فيما تدمر، الثقةَ بين المُرسِل والمُتلقي التي ينبغي أن تكون قوية ومتبادَلة، ويثير ما هو أكثر من الشُّبهات والأحقاد. والثقة بين الوسائل والأشخاص من جهة والمتلقين من جهة أخرى لا بدَّ منها ولا غنى عنها لتحقيق الغاية وإيصال الرسالة وإشاعة التفاهم والتعاون وإحقاق الحق ومحاربة الظلم ودحر الطغيان وكشف الفساد والإفساد.. فتبادل الآراء والأفكار والمعلومات الصحيحة على أرضية من الثقة، يعالج أوضاعاً وقضايا ويساهم في حل مشكلات وتلافي أزمات حين تحكمه عقلانية ومسؤولية أخلاقية وإنسانية وسلامة نيَّات وتوجهات وغايات مبرأة من الاستفزاز والتشهير والتشويه والتخريب.. فبهذا تساعد الحرية والثقة الناس وتسعدهم، وبذلك يتعزز التفاهم وتتوطد العلاقات بين الشعوب، وتساهم المعرفة المتبادلة في تقدم المجتمعات وتوطيد السلم والأمن.

إن هذا النوع السلبي المسيء من الأداء البشري مجحف بحق الفهم والعقلانية والحرية والعدل.. وكل من يمارسه ويقف وراءه ويستثمر فيه يغذي العنصرية المُموَّهة بحُلَل والمتدثِّرَة بمُحلِّلات فاسدة، ويزيد من حدة التطرف المتعجرف، والاستفزاز والتشهير والتحقير وغير ذلك من أنواع الكِبْرِ والقهر والظلم والسلوك التسلطي القهري، سلوك الطغاة والمتورمين طمعاً وجهلاً وغلظة وتعاظماً.. كل ذلك لا يؤدي إلا إلى تشويه الحقائق والوقائع والمفاهيم، وإثارة الأزمات، وزيادة حياة الناس صعوبة وبؤساً ومأساوية، وعلاقاتهم تدهوراً، وأمورهم سوءاً.. ويفضي إلى تفاقم الضلال والتضليل والتجهيل، وإلى ممارسة ازدواجية المعايير الكريهة التي تعاني منها جماعات في دول، ومجتمعات وشعوب ودول.. 

وهذا كله لا يساهم في التأسيس لمُواطَنة متساوية سليمة، وأخوة إنسانية شاملة ومتكاملة، واعتماد بشري متبادل، ولا يساعد على خلق مناخ إنساني صحي تنمو فيه حريةُ التعبير بمسؤولية، ويضمُر فيه الشرُّ والتشهير والتشويه والتلفيق والافتراء والعنصرية وكلُّ ما يُلحق ضرراً بالحرية والكرامة، ويفسد مضامين التعبير وأهدافه ومُتَعَه.