خلال السنة الماضية، وتحديدا مع نهاية شهر تموز/ يوليو وبداية شهر آب/ أغسطس، تم الإعلان رسميا في
تونس عن تحقيق انتصار "تاريخي" على جائحة
كورونا. اليوم، بعد مرور سنة على ذلك الإعلان، تقف البلاد شبه عاجزة أمام هذا الفيروس اللعين الذي حصد حتى الآن أعمار أكثر من 16 ألف مصاب. ماذا حدث حتى تنهزم دولة وشعب في معركة ربحتها في البداية، قبل أن تتحول في ظرف قياسي إلى بلد منكوب، وتوضع تونس في القائمة الحمراء عالميا؟!
ما كان يشاهده التونسيون عبر الفضائيات العالمية من المآسي التي حدثت في دول أخرى منذ ظهور فيروس كورونا، أصبح يحدث اليوم في بلادهم، ويعيشه أبناء وطنهم بشكل متواتر وبصفة يومية. رُضّع يموتون، أشخاص ينهارون أمام المستشفيات بسبب نقص الأوكسجين، شخص يحمل أمه العجوز فوق "كريطة" يقودها حمار؛ في محاولة منه لنقلها إلى أقرب مستشفى، أطباء وجدوا أنفسهم مضطرين أن يميزوا بين مرضاهم، فيعطوا الأولوية للأصغر سنا على حساب الشيوخ والكهول، وعائلات بأكملها يخترقها الفيروس ويدمرها بالكامل، ويافعة في مقتبل العمر زارها ملك الموت بعد يومين فقط من نجاحها في امتحان البكالوريا، تاركة وراءها أسرة مكلومة.
كيف حصل ذلك؟
لا تزال تعدّ تونس من الدول المتقدمة نسبيا في القطاع الصحي، لهذا يقصدها حتى الآن عدد كبير من المرضى القادمين من الخارج، وفي مقدمتهم الأشقاء الليبيون، كما تشهد مؤسسات صحية عالمية بكفاءة الأطباء التونسيين في مختلف الاختصاصات. لكن البنية التحتية لمستشفياتها العمومية بدأت تتآكل منذ التسعينيات، ومع حلول الثورة تراجع الانضباط الإداري، وتقلصت الميزانيات العامة المخصصة للصحة والتعليم، وتفشت البطالة في صفوف الأطباء الشبان، وارتفع نسق الهجرة في أوساط أهل الخبرة العالية. لهذا؛ عندما حلت الجائحة وجدت قطاعا مهددا بالانهيار.
مع ذلك، تجند الجيش الأبيض بكل قوة لحماية مواطنيه من الخطر الداهم، لكنه اصطدم بحرب أخرى تخاض داخل الدولة وبين السياسيين الذين ظنوا بكونهم الأقدر على تسيير شؤون الدولة، بعد أن ضحكت لهم الدنيا ورفعتهم إلى أعلى مواقع المسؤولية، رغم عدم توفر المؤهلات الضرورية لحسن إدارة الشأن العام.
من شروط نجاح الجيوش عندما تدفع نحو الميدان أن تكون لها قيادة موحدة؛ فوحدة القيادة تجنب الجيوش الارتجال، وتعزز الثقة بين هياكلها وتصون صفوفها، وتجنبها التنازع على الصلاحيات وتضارب التعليمات والسياسات، وتبعدها عن الفوضى والتناحر.
للأسف، ما يحصل في تونس يدل بوضوح أن الحرب الدائرة ضد كوفيد تخضع أحيانا للارتجال، وتعاني من تفكك القيادة؛ فالصراع الدائر بين رأسي السلطة التنفيذية منذ أشهر انعكس سلبا على مختلف القطاعات والمؤسسات، ليشمل أخيرا الميدان الصحي، ويربك القائمين عليه في هذا المنعرج الخطير الذي تمر به البلاد.
في تونس، يشرف رئيس الحكومة على هيئة علمية استشارية، من مهامها متابعة الحالة الوبائية في البلاد، وترفع توصياتها إلى الحكومة التي تنفذ ما تراه صالحا، لكن رئيس الدولة الذي من صلاحياته الإشراف على مجلس الأمن القومي؛ لم يدعُ هذا الهيكل الاستراتيجي إلى الاجتماع رغم أنه مخصص للنظر في كل ما يهدد أمن البلاد وسلامتها، وذلك حتى يتجنب مشاركة رئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب اللذين يرى فيهما خصمين لا شريكين. ودعا في المقابل عددا من الجنرالات وكوادر أمنية عليا، وخصص الاجتماع للبحث في معالجة بديلة لأزمة كورونا، اعتقادا منه بأن الخطة الحالية فاشلة. ونظرا لعدم إشراك خبراء
الصحة في هذا الاجتماع، جاءت توصياته عادية، تنقصها الدقة والفعالية، وبدت وكأنها تشكيك في جهود الأطباء، وتتعارض مع مؤسسات الدولة وتوجهاتها الرسمية.
المطلوب حاليا في تونس هو توفير اللقاحات في أقرب وقت ممكن، والقيام بحملة توعية واسعة النطاق لإقناع المواطنين بضرورة الإقبال على التلقيح كسلاح وحيد لمواجهة الجائحة وإنقاذ الأرواح، مع توفير الحد الأدنى من التجهيزات الطبية الضرورية.
رغم الجهود التي تقوم بها منظمات المجتمع المدني لتحسين الخدمات، إلا أن الدور الرئيسي في هذه المعركة الحيوية، موكول أساسا إلى الدولة ومسؤوليها الذين فوضهم الشعب للتحدث باسمه، واستعمال قدراتهم الذاتية والموضوعية لكسب مزيد من الصداقات وإقناع العالم بأن تونس تحتاج الآن وقبل فوات الأوان إلى تضامن أكبر مع أبنائها المعرضين لهذا الخطر العالمي. هذه مهمة رئيس الدولة قبل غيره؛ باعتباره المسؤول الأول دستوريا عن رسم السياسية الخارجية للبلاد.