تعاني
إريتريا من أطماع الآخرين فيها، كما تعاني من طمع رئيسها أسياس أفورقي في السيطرة
على قرار الآخرين.
أسياس
أفورقي مناضل إريتري مخضرم، تمكنت الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا تحت قيادته الفعلية
من الوصول إلى أسمرا، وتتويج الاستقلال الوطني، هذا دون التقليل من دور رفاقه من
المناضلين أو التقليل من دور التنظيمات الأخرى التي سبقته وعلى رأسها حركة التحرير
رائدة النضال السياسي، وجبهة التحرير الإريترية رائدة النضال المسلح. إلا أنه من
غير العدل أن نغمط أسياس أفورقي حقه في هذا الأمر، أو نشكك في ولائه الوطني،
ودفاعه عن السيادة الإريترية. ولكن هذا لا ينفي عنه أنه دكتاتور دموي، أورد شباب إريتريا
المهالك، ليصنف الشعب الإريتري ضمن الأكثر لجوءا، كما وضع إريتريا في ذيل قائمة
الدول في مؤشر التنمية البشرية، وفي الحريات العامة والخاصة، وجعلها تشتهر كأكثر
دولة في إثارة القلاقل والحروب في الإقليم.
نستطيع
أن نزعم بأن الفضل يرجع لأسياس أفورقي وتنظيمه في جعل الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي
القوة المؤثرة في المعادلة الإثيوبية في الثمانينيات من القرن المنصرم، والتحول
بنضالها من مجرد إقامة دولة تيجراي التي لا أحد يجزم بإمكانية نشأتها وحياتها، إلى
التطلع لقيادة إثيوبيا الموحدة، وإحياء الأمجاد التاريخية في حكم إثيوبيا كحق أصيل.
وفي
المقابل، نشهد بأن المكافأة كانت من قبل التيجراي مساعدة إريتريا على عبور قنطرة
قبول إثيوبيا بالاستفتاء على الاستقلال، ثم قبول نتائجه. هذا الموقف اختصر على إريتريا
جهودا كثيرة، ومن هنا ينبغي أن نذكر للجبهة الشعبية لتحرير تيجراي هذا الموقف
المنصف، بغض النظر عن دوافعها لاتخاذه، فهذا الموقف أقل ما يقال فيه أنه تجاوز بإريتريا
مقترحات هرمن كوهين الكارثية، وهي مقترحات تقدم بها لحل القضية الإريترية في
المحادثات التي جرت في أتلانتا ولندن قبيل سقوط نظام منجستو، وتتلخص في:
1-
وقف إطلاق النار تحت إشراف دولي.
2-
تسن إثيوبيا دستورا اتحاديا جديدا.
3-
تتمتع إريتريا بحكم ذاتي تحت الدولة الاتحادية.
4-
اختيار مجلس نيابي اتحادي يُتفق على صلاحياته.
5-
ينظم استفتاء بعد سنوات من الحكم الاتحادي لاختيار الشعب الإريتري؛ إما الاستمرار
في دولة اتحادية وإقامة دولته المستقلة.
وبغض
النظر عن مواقف التيجراي أو رؤية كوهين والحلول الدولية، يمكن أن يرد تساؤل: كأنك
بهذا التوصيف تجعل استقلال إريتريا وكأنه هبة التيجراي؟ ألم يمكن الاستقلال مستحقا
من خلال الصمود لعقود في الخنادق والصبر على مواجهة الحملات المتتابعة، ومن ثم
هزيمة الجيش الإثيوبي؟ بلى، فقد كان الانتصار العسكري أهم عامل حاسم لتحقيق
الاستقلال، ولكننا كنا سنواجه بعض العقبات القانونية إذا لم تعترف به إثيوبيا
ابتداء، وكانت ستتحفظ عليه بعض الدول أيضا ولاء لإثيوبيا، وهو ما ألجم صوتها في
مبررات إثارة الحرب.
هل
أنهى الاستقلال أطماع إثيوبيا؟
ظلت
إريتريا بسبب موقعها الاستراتيجي محط أنظار الدول على مدار التاريخ، ولا تزال
أهمية هذا الموقع تتعاظم وبالذات في السنوات الأخيرة. فإذا نظرنا مثلا إلى جيبوتي،
الدولة الصغيرة والمجاورة، نراها تحتشد فيها الجيوش نسبة لهذا الموقع، وتتواصل
المحادثات السرية بين النظام الإريتري وبعض الدول من أجل الحصول على نفس التسهيلات
الممنوحة لها من جيبوتي، وهي أطماع ناعمة حتى الآن، ويمكن أن تتطور في أي لحظة إلى
تدخل مباشر بحجة حفظ الأمن، وبخاصة إذا حدث ما لم يكن في الحسبان من تفجر الأوضاع
الإقليمية، كما حدث في بعض البلدان.
بيد
أن أطماع إثيوبيا تتجاوز ذلك، فهي في المقام الأول تدعي أن لها حقا تاريخيا في إريتريا،
وتقول إنها ناضلت في نهاية حقبة الاستعمار الأوروبي من أجل تبعية إريتريا لها.
والحقيقة ليس إريتريا فحسب، بل كانت تدعي يومئذ الحق في الصومال وفي جيبوتي أيضا.
ونستطيع
أن نقول مبدئيا أن هذا الحق المزعوم سقط بإعلان استقلال إريتريا، والاعتراف بها
كدولة بحدودها المعروفة كعضو كامل العضوية في الأمم المتحدة، بل سقطت مزاعم
إثيوبيا في الادعاء بتبعية بعض المناطق الإريترية لها، منذ يوم إعلان حكم المحكة
الدولية التي تشكلت بعد اتفاقية الجزائر في كانون الأول/ ديسمبر 2000 وأصدرت حكمها
النهائي والملزم في نيسان/ أبريل 2002، بعد أن رسمت هذه المحكمة حدود البلدين من
خلال الوثائق المتوفرة.
هذا
الحق التاريخي الذي يتشدق به بعض المسؤولين والكتاب الإثيوبيين حتى الآن يستند إلى
تمدد مملكة أكسوم في القرنين الثالث والرابع الميلاديين، حيث بلغت سيطرتها جنوب
مصر، وتعدت البحر الأحمر لتحكم اليمن. فلو أن هذا مسوغا مقبولا في ادعائها بحقها
في إريتريا، فعليها أيضا أن تطالب بعودة اليمن والسودان والصومال وجنوب مصر لتكون
تحت السيادة الإثيوبية.
ولكن
هؤلاء لا يسألون أنفسهم من كان يحكم إريتريا قبل سيطرة الأكسوميين عليها؟ ثم لماذا
لم تدافع إثيوبيا عن إريتريا عندما سيطر عليها العثمانيون أكثر من 300 عام، منذ
القرن السادس عشر، ثم أعقبهم المصريون لسنوات؟ كما أنها لم تنافح عن إريتريا عندما
سيطر عليها الإيطاليون كما فعلت في "عدوا". والأهم من ذلك أن منيلك وقع
مع الإيطاليين معاهدات ترسيم الحدود بين إريتريا وإثيوبيا طائعا مختارا في الأعوام
1900 و1902 و1908. ثم لماذا سمحت إثيوبيا أصلا بالاستفتاء لتقرير المصير في الأربعينيات
إذا كان هذا البد محضا لها؟ بل وقبلت بالاتحاد الفيدرالي الذي شكل حكومة وبرلمانا إريتريين
خالصين بصلاحيات كبيرة، وسمحت بمراقبة الأمم المتحدة لهذا القرار؟ وللعلم لم يكن
ليظفروا حتى بهذه الحالة لولا أنهم استغفلوا فئة من الشعب الإريتري لقلة الوعي
السياسي حين ذاك.
والعجيب
أن الدول كلها كانت مقتنعة في قرارة نفسها بأن الشعب الإريتري يستحق الاستقلال،
وأنه ليس جزءا من إثيوبيا، فبالرغم من نتيجة الاستفتاء المزعومة قبلت هذه الدول
بالاستقلال النسبي لإريتريا. فادعاء إثيوبيا بأن إريتريا كانت جزءاً من إثيوبيا
ولكن فصلها الاستعمار الأوروبي تعتبر حجة داحضة، فإن الحدود الحالية لمعظم الدول
الأفريقية هي نتاج الاستعمار من خلال مؤتمر برلين المنعقد عام 1884 بما فيها حدود
إثيوبيا الحالية، ولهذا فإن إريتريا ليست بدعا في التاريخ.
وهنا
يقفز إلى الذهن سؤال: ما دامت الحكومة الإثيوبية بقيادة التيجراي هي من يسّر عملية
الاستفتاء، وعدم التردد في قبول نتائجه، فلماذا إذن اندلعت حرب جديدة شعواء بين
البلدين بعد أربع سنوات فقط من الاستقلال؟ هذا السؤال لم يجد له المراقبون الإجابة
الشافية. ولكن يتضح من خلال سياق الأحداث أن هناك بين الجبهتين الإريترية
والإثيوبية اتفاقيات فضفاضة، لم تستطع الصمود أمام ضرورات وإكراهات الحكم، التي لم
يدركها الثوار وهم في الميدان، وفي لحظات الصفاء الثوري. كما أن الطموحات المكبوتة
والمسكوت عنها للقيادتين اللتين دخلتا في الاتفاقات البينية غير الموثقة وهما على
دخن لعلها كانت السبب، لتظهر فيما بعد كدوافع للصراع دون التصريح بها، ومحاولة
تغليفها بدعاوى تاريخية وحقوق شعبية.
لم
يكن التيجراي عشية دخولهم لأديس أبابا بعد سقوط نظام منجستو هيلي ماريام على ثقة
بأن القوميات الأخرى والدولة العميقة ستسلم لهم ليحكموها كل تلك الفترة، ولذا
وضعوا الاحتياطات المناسبة للعودة إلى مشروعهم الأول وهو استقلال إقليم تيجراي، في
حال تعثر مشروع حكم إثيوبيا كلها، وذلك عبر نصوص دستورية تتجلى في المادة (39) من
الدستور، ثم باغتنام تأهيل الإقليم، باعتباره منطقة متضررة من الحرب تستحق التمييز
الإيجابي في إعادة التأهيل، فتركزت فيه التنمية بصورة معقولة. (وما أشبه الليلة
بالبارحة والتيجراي يعودون إلى مقلي بعد المقاومة الناجحة، وانسحاب الجيش الإريتري
والجيش الفيدرالي الإثيوبي، وضغوطات القوى الدولية المطالبة بوقف الحرب).
وكان
من ضمن احتياطات التيجراي الوقوف مع استقلال إريتريا، حتى تكون لهم سندا وعضدا إذا
تمكنوا من الاستمرار في الحكم، وملاذا إذا كانت الأخرى وساءت الأمور. تَبنِيهم
لهذا الخيار جاء استنادا على خلفية وجود ما اعتبروها قواسم مشتركة، ولكن الملاحظ
أن هذه القواسم لم تصمد أمام الاستحقاقات الوطنية، والنظرة الاستعلائية لكل منهما
تجاه الجانب الآخر. فإذا كان استبطان حالة فترة الثورة واعتماد جبهة التيجراي على إريتريا
في بداية تكوينها تتلبس الجانب الإريتري، فإن شعور التيجراي بحكمهم لدولة ارتكاز
محورية كبيرة، ومركز ثقل المنظمات القارية والدولية، ومكان اهتمام إقليمي ودولي؛
هي حالة ظلت تتغشى التيجراي على مر السنين.
إلا
أن العامل الأساسي والبداية في تفجر الأوضاع ترجع لطموحات أسياس أفورقي التي
تتجاوز حدود المعقول، حيث كان يحلم أن يحكم إثيوبيا سواء بشكل مباشر، أو عبر من
يعتبرهم أحجار الشطرنج التي يحركها عندما يريد، مستندا إلى أن الحكام الجدد في
إثيوبيا يدينون له بالفضل للدعم والمساندة والتشجيع الذي بذله لهم أيام الثورة،
ودون أن يتحسب لمستجدات ومتطلبات الحكم الوطني، وشركاء الحكم الآخرين في إثيوبيا،
أو تقدير الفروقات مع دولة عريقة، هي الثانية في أفريقيا من حيث عدد السكان، وتشعر
بغبن تحولها فجأة إلى دولة حبيسة.
وللأسف
لكل هذا الطموح لم يبادر أسياس إلى إنجاز ترسيم الحدود مباشرة بعد إعلان
الاستقلال، ولا أعتقد أن هذه قد فاتت عليه لجهل أو حسن نية، ولكنها كانت ذريعة
تربصاته وأحلامه المستترة، والتي انقلبت عليه لاحقا لتجعل منه الأسد الجريح طوال
حكم زيناوي، ولأنه رجل شرس لا ينام على ضيم ومظلمة - وإن كان هو الظالم ابتداء - استطاع
أن ينتقم من التيجراي عندما لاحت له الفرصة بتحالفه مع آبي أحمد، ليعيدهم للوراء
عقودا بتدمير ما بنوه في فترة الحكم.