أكثر ما يكون لفظ "السعي" فيه معروفا لدى المسلمين، هو السعي بين الصفا والمروة في مناسك الحجّ والعمرة. ومن لطائف ذلك أنّ هذا المنسك مبني على سعي امرأة، هي هاجر أم إسماعيل، عليهما السلام، التي لم يمنعها الانقطاع في الصحراء، وما يظهر من استحالة وجود إنسان، من أن "تسعى سعي الإنسان المجهود"، كما في الحديث، بين الصفا والمروة سبع مرّات، تقوم على كلّ منهما تنظر هل ترى أحدا، حتّى أسعفها المَلَك عند زمزم.
ويستخدم الناس لفظ السعي في سياق حضّهم على العمل، في مقولتهم الدارجة: "اسعَ يا عبد وأنا أسعى معاك"، ولا يقصدون بذلك إلا أن يقوم الإنسان بواجبه في طلب الرزق، موقنا أنّ الأمر كلّه بيد الله تعالى.
من معاني السعي في العربية، المضي، والعدْو، والعمل، والقصد، والكسب، والتصرف في الأعمال. وقد يُسمّى رئيس القوم ساعيهم؛ لقيامه على أمرهم، بمعنى ما جاء في حديث ضعيف "سيد القوم خادمهم". والأمر والحالة هذه، هو الجدّ في العمل، سواء كان عملا صالحا أم لا، فإن كان صالحا فهو الجدّ في القيام بالواجب، وهذا الذي قامت به هاجر أم إسماعيل، وموسى لما ضرب بعصاه البحر، ومريم لما هزّت بجذع النخلة، والرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى ينصح موسى، ومثله الرجل الذي جاء ينصر المرسلين.
السعي، بمعنى القيام بالواجب، هو الجدوى كلّها، فهو الحدّ المستطاع، والإنسان مأمور بالجدّ في السعي وإتقان العمل، غير مكلّف بضمان النتائج، "فَإِن أَسلَموا فَقَدِ اهتَدَوا وَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّما عَلَيكَ البَلاغُ". وقد رأى النبيُّ من الأنبياء من ليس معه أحد، ومنهم ومعه الرجل والرجال، وأخبر القرآن عن قتل بني إسرائيل لأنبيائهم.
ثم السعي هو الجدوى كلّها، لأنّه انعكاس صادق عن الحساسية العالية تجاه الآخرين، والموقف المبدئي من الظلم، فلنتخيل، والحالة هذه، لو كفّ السعاة عن إنكار الظلم لخفاء الجدوى المباشرة عنهم، كيف سيكون حال العالم؟
ثمّ السعي الجدوى كلّها، لأنّ قضية العدل والظلم، الحقّ والباطل، مفتوحة في التاريخ، لا تنتهي بضربة واحدة، ويراكم الحقّ فيها نتائجه على مجموع أعمال السعاة. وليُنْظَر في هذا المعنى؛
مقالة سابقة لي بعنوان "على هامش الحرب.. النصر من مثال الإيمان إلى واقع المادة"، فالثمرة الماديّة متحصّلة، وإن لم تظهر مباشرة للساعي.
ثمّ، وهو الأهمّ، أن النتائج الكاملة لعمل السعاة، وصراعهم مع الباطل، تتجلّى يوم القيامة، "وَأَن لَيسَ لِلإِنسانِ إِلا ما سَعى * وَأَنَّ سَعيَهُ سَوفَ يُرى * ثُمَّ يُجزاهُ الجَزاءَ الأَوفى". فالصراع المفتوح بين الحقّ والباطل ينتهي يوم القيامة، بشخوص السعي متجسدا، فإن كان خيرا فهو خير، وإن كان شرّا، فهو شرّ، "فَمَن يَعمَل مِثقالَ ذَرَّةٍ خَيرًا يَرَهُ * وَمَن يَعمَل مِثقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ"، فمثقال ذرّة لا يضيع، فكيف بمن نذر حياته ساعيا للخير، في واقع يبدو تحقّق الخير فيه مستحيلا؟! هذا الإيمان الأخروي، هو ما يجعل السعي، مجديا أبدا.
كل ما سلف، فتحته تغريدة لآلاء الصديق، بعد وفاتها، غريبة منفية في بريطانيا، بحادث سير، وإذا بمحبّيها، والمنحازين لسعيها، يلتفّون حولها،
ينشرون مآثرها، وينثرون تغريداتها، والتي كان منها تغريدة اكتفت فيها بقوله تعالى: "وَأَنَّ سَعيَهُ سَوفَ يُرى"، مع خصّها كلمة "سعيه" بالتنصيص، وهي بذلك تواسي نفسها كما يجدر بكل ساع في الحقّ أن يواسي نفسه، وتعظ الساعين في الباطل وتذكرهم بأنّ باطلهم سيتجسد لنواظرهم، "يَومَ لا يَنفَعُ الظّالِمينَ مَعذِرَتُهُم وَلَهُمُ اللَّعنَةُ وَلَهُم سوءُ الدّارِ".
تحدثت آلاء في تغريداتها عن الجنّة، وكأنّها ترثي نفسها، فلا حوادث ولا سيارات تصدم بعضها، كما قالت في واحدة من تغريداتها تلك، وأعادت التعبير عن مشروعها الحقوقي، وعن وحدة الساعين في المكان، باستحضار الجنة التي لا مسافات فيها بين مدن وعواصم البشر، وكثّفت إحساسها العميق بتفاعلها مع سعيها ومآلاته، بالغربة التي لا نهاية لها إلا في الجنة.
نعم، يستوحش السعاة، يحزنون، ويغتربون، في حين يتعس متوهمو السعادة.. "تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم، وعبد الخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش"، بينما السعادة الحقيقية، الدائمة الأبديّة، للذين يعيشون في الدنيا لغيرهم: "طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع". وهؤلاء هم الغرباء، وفي الحديث "طوبى للغرباء"، وفي بعض طرقه تعريفهم أنهم "الذين يصلحون إذا فسد الناس".
ثمّة فرق بين حزن السعاة، الناجم عن الإحساس العالي بمظلومية المظلومين، وبلادة الظلمة وأنصارهم، على نحو قد تذهب معه نفس الساعي بالحقّ حسرات عليهم، وبين تعاسة الظالمين، التي تنتقل بهم من أوهام الدنيا إلى خسارة الآخرة، ولذا كانت أحزان الأنبياء، الأعمق، لأنّهم يصدرون عن "حقّ اليقين"، فيحزنهم تكذيب المكذّبين.
تأتي على الساعي الغريب لحظات يتمنّى فيها لو كان عاديّا، قلقه قليل، وهمّه صغير، وحياته أكثر استقرارا وهدوءا، وقد يتساءل، الساعي عن جدوى ما يقوم به، فتنزع نفسه إلى العاديّة الهادئة، وهكذا نشرت بعض صديقات آلاء بعد وفاتها، أحاديثهن معها، ممن يشاركنها السعاية ذاتها، يبثثن لبعضهن بعض هذه الهواجس، السؤال عن الجدوى، والحنين للحياة العاديّة، إلا أنّ آلاء كانت قد حسمت أمرها، بأنّها ستبقى تسعى، إلى أن تنهي غربتها في آخرتها.
آلاء الصديق، فتاة إماراتية منفيّة، تدير مؤسسة لحقوق الإنسان، سُجِن والدها في
الإمارات، وسُحِبت منهم الجنسية، وصودرت أملاكهم، وقد نذرت نفسها بعد ذلك لحقوق البشر، جاعلة ثلاثة عناصر مرتكزات لصدقية من يعمل في هذا الحقل: القضية الفلسطينية، وحقوق
المرأة، ومعتقلي الرأي، وظلّت على ذلك، إلى أن انتهت غربتها بوفاتها، ولكنّ سعيها لم ينته.
في الحياة الدنيا يتراكم سعي السعاة، وينبني عليه، وقد صار لسعي آلاء مزيد فيض بعد وفاتها، وأمّا في الآخرة، فإنّ المؤمن ينتفع بعمله الجاري، كما ينتفع بدعوات المحبين، وصدقات المخلصين.
twitter.com/sariorabi