المقدسيون ملح الأرض وزيتونها المرابط في ساحات المسجد الأقصى، الثابتون كالأشجار الواقفة في ساحة باب العامود، الصادحون بحناجرهم أمام منازل أهالي حي الشيخ جراح الذين يواجهون أخبث احتلال على وجه الأرض بصدور عارية ورؤوس عالية وقلوب يملؤها اليقين.
ولأن شهر رمضان مقترن بالبطولات، أصرّت ثلة من الشباب المقدسي ومع بداية شهر رمضان المبارك على إعادة توجيه البوصلة، وإحياء جذوة بقاء القضية الفلسطينية في المركز، فكان ولا زال مسلسلهم اليومي الأكثر متابعة، ومقاطع الفيديو الخاصة بهم الأكثر تداولا.
جعلونا نتمسمر خلف هواتفنا ننتظر خبرا منهم أو مقطعا مصوّرا، لنطير بها تغريدا وتداولا على منصات التواصل، وكلما قدّموا الأرواح والتضحيات، انطلقنا نتضامن معهم في الفضاء الأزرق ونصنع لأجلهم الترند والهاشتاغات! وبعضنا للأسف يبخل حتى عن القيام بذلك أو يخاف؛ لعلّه يقيم في إحدى تلك العواصم العربية التي تعد على مواطنيها الخطى وتحسب لهم الأنفاس!
هذه الأمة ذات ضمير جمعي حي لا يمكن لإعلام الثورة المضادة أن يميته، ولا لأجهزة القمع أن تقتله، حتى وإن نجح بذرّ شيء من الرماد فوقه في بعض الدول، أو هكذا يخيّل لنا حيث لا يوجد بها جهات مستقلة محايدة لقياس الرأي وبيان حقيقة الموقف، ولكن سرعان ما ينقشع الغمام مع أول حدث مقدسي أو فعل مقاوم هناك.
أشعل المقدسيون نورا ساطعا استفاق على سنا ضيائه كثيرون وتفاجأ بقوته المنبطحون المطبّعون، أخذ أبصارنا فيه ذلك الكهل المتكئ على بساطه قبالة الصخرة يمسك بمصحفه وتعلو محياه سكينة المكان وابتسامة نسمات القدس، وهفّت نفوسنا به شوقا لمقلوبة هنادي وخديجة ومن معهن من المرابطات، وغدت متابعة انستغرام عبد العفو ورمزي ويوتيوب صالح وأمثالهم من الشباب طقسا لا يمكن تجاوزه كل مساء، حتى إذا جاء وقت الإفطار حسب التوقيت المحلي لمدينة لندن كان حضور حسام أبو عيشة متألقا كعادته في برنامجه الآسر للقلوب "ناس وحراس" مع حُماة المدينة المقدسة وأبطالها على شاشة قناة الحوار، وفيها نتابع أيضا مسابقة أجمل صوت مقدسي بتلاوة القرآن.
هناك في القدس حراك يقوده شباب معظمه ولد بعد الانتفاضة الثانية عام 2000، وهم جيل سعى الاحتلال بكل ما لديه من أدوات لإفساده وإبعاده عن أمته، ولكن هؤلاء الشباب كانوا يثبتون في كل مرة استحالة تدجينهم، حتى وإن بدت هيئات وتصرفات بعضهم أحيانا لا تعجبنا، ولكن إن دعا داعي نصرة الأقصى أو الانتصار للمدينة المقدسة رأيت منهم العجب و من قصصهم تستلهم الدروس والخطب.
والأمل بعد الله معقود بهم وحدهم بالتصدي لقطعان الغزاة في اقتحام الأقصى يوم الثامن والعشرين من رمضان، كما يأملون ويخططون.
هؤلاء شباب القدس مثال حقيقي لهذه الأمة التي يمكن أن تضعف وتمرض أحيانا ولكن لا تموت، وحين تعلو تكبيرات استنفارها تجد منها الاستبسال والصمود.
وهم الذين ألهموني الدواء كلما ضعفت همتي أو حاول اليأس التمكن مني: أذهب بروحي هناك إلى زقاق البلدة القديمة وأسوارها وساحات المسجد الأقصى ورحاب صخرته المشرفة، وأشنّف أذني بهتافات الشباب في باب العامود وصيحات التضامن في حي الشيخ جراح، لأستصغر عطائي أمام عطائهم وعزيمتي مقابل عزائمهم، وألملم من بعد شعثي وأنهض من جديد لفعل أي شيء يمكن أن يسهم بنصرتهم وانتصارهم والتمكين لهم.
ذاك النصر الذي يقولون متى هو، قل عسى أن يكون قريبا.