يُعتبر "دير القديس هيلاريون" الدير الأثري الوحيد في فلسطين، حيث يعود تاريخه إلى حوالي ما قبل 17 قرنا من الزمن، وهو واحد من أهم الآثار الشاهدة على تاريخ فلسطين، ويسجّل قصة راهب فلسطيني عاش المطاردة خارج فلسطين ودفن في هذا الدير.
ويقع "دير القديس هيلاريون" على تلة مرتفعة من الرمال، على بعد 15 كم جنوب غربي مدينة غزة، وعلى بعد 3 كم غربي مخيم النصيرات للاجئين الفلسطينيين وسط قطاع غزة، فيما يبعد عن ساحل البحر 500 مترا تقريباً، ويرتفع بنحو 22 مترا.
ويعود تاريخ دير القديس هيلاريون وهو الوحيد في فلسطين إلى عام 329م، زمن القديس هيلاريون، عندما رجع من مصر إلى قريته طباقا التي تبعد سبعة كيلومترات عن غزة، وذلك بعد تعلمه الرهبانية على يد القديس أنطونيوس بمصر.
وتشير الروايات التاريخية إلى أن تلاميذ هيلاريون قاموا بسحبه ودفنه بالدير بعد أن توفي عام 371م، في أعقاب طرده من الدير إلى قبرص على يد الإمبراطور جوليان الذي كان يحكم بلاد الشام آنذاك.
وقد استمر وجود الدير في تلك المنطقة حتى القرن الثاني الهجري، وقد دل على ذلك القطع النقدية الإسلامية التي عثر عليها في الموقع، وإحداها (فلس) يعود إلى زمن الخليفة عمر بن عبد العزيز (99م/101 هـ).
وقال الدكتور جمال أبو ريدة مدير الإدارة العامة للآثار والتراث الثقافي في وزارة السياحة والآثار الفلسطينية لـ "عربي21": "استناداً إلى حالة الموقع المتطابق مع التعريف بدير القديس (هيلاريون) المشهور في النصوص القديمة، فقد أظهرت التنقيبات الأثرية وجود أكبر الأديرة التي لم يُعثر على مثلها في فلسطين من حيث المساحة والتصميم".
وأضاف: "القديس هيلاريون ولد في قرية تسمى طباقا، وتبعد حوالي 7 كم عن مدينة غزة، ويعتقد أن موقع هذه القرية هو موقع خربة أم التوت جنوبي مصب وادي غزة، ورغب هيلاريون في تلقي علم النحو، فتوجه إلى مدينة الإسكندرية في مصر، وفي طريقه التقى بالقديس أنطوني المؤسس الحقيقي للرهبنة في صحراء مصر، فتتلمذ على يديه ما أدى إلى تغير كامل في حياته، فعاد إلى موطنه الأصلي، ووضع صومعته للتنسك في موقع خربة أم عامر سنة 329م، في ذلك المكان المنعزل فوق تل مرتفع يشرف على الطريق بين مصر وفلسطين، وخلال ثلاثين عاماً زادت شعبية هيلاريون، فأصبح يحيط به 400 شماس ـ وهي رتبة في الكنيسة ـ وهم الذين بدأوا بتنظيم بعض العمائر الخفيفة حول الكنيسة".
وأشار إلى أنه في العام 362م، وصل الإمبراطور الروماني جوليان المرتد إلى العرش الروماني الذي حكم بلاد الشام بما فيها فلسطين، فقام بتدمير الدير وإجبار هيلاريون على الهرب إلى جزيرة قبرص، حيث توفي هناك سنة 371م، وقد قام أحد تلاميذه بنقل جثمانه إلى غزة، ودفنه في المكان نفسه الذي أقام فيه صومعته الأولى في (خربة أم عامر) في مخيم النصيرات.
وفي الوصف التفصيلي للدير يوضح أبو ريدة أن الدير يتكون من مجموعات معمارية عديدة، محاطة بسور خارجي من الحجر المهندم المسنود بدعامات حجرية، وتشمل مساحة قدرها (137م×75م)، إضافة إلى احتوائه على مجموعة من القاعات والغرف والممرات بلغ عددها (245) غرفة، تعود أدوار بنائها إلى مراحل زمنية عدة، بدأت من منتصف القرن الرابع الميلادي حتى القرن الثامن الميلادي.
ويشمل الجزء المعماري الأول من الدير المنطقة الخدماتية الواقعة في الجزء الجنوبي والغربي؛ وهي عبارة عن غرف خاصة برجال الدين المقيمين في الدير، ويغطي أرضية بعض تلك الغرف فسيفساء جميلة أعطت دلالة على أهمية صاحب كل غرفة من تلك الغرف كونه ذا مكانة وقدسية خاصة بالدير، ويفصل تلك الغرف عن الجزء المعماري الثاني شارع طويل به درج، خاص بدخول وخروج الرهبان للكنيسة.
أما الجزء المعماري الثاني فهو يمثل الكنيسة وقد خطط نظامها المعماري على الطراز البازيلكي المكون من ثلاثة أروقة أوسعها الرواق الأوسط، ويفصل بين كل رواق مجموعة من الأعمدة الرخامية كورنثية الطراز.
أما الجزء المعماري الثالث فيسمى بـ (الديماس Dimas)، ويمكن الوصول إليه من خلال درج اندثرت معظم درجاته، وهو يؤدي إلى مبنى تحت الأرض على شكل صليب، تظهر فيه الأعمدة الرخامية المكونة للدير، والتي تهاوت من البناء الأعلى نتيجة الهزات الأرضية وعوامل الزمن.
ويظهر في المكان بحسب أبو ريدة بقايا للتابوت الرخامي الخاص بالقديس (هيلاريون)؛ وهو روماني الطراز، والجزء المعماري الرابع هو عبارة عن حوض التعميد والصالات المؤدية له، ويغطي أرضية إحداها فسيفساء تحمل منظر زهرية تخرج منها أغصان ملتفة تحمل عناقيد العنب والأوراق، وداخل هذه الأغصان صور لحيوانات وطيور تعبر عن البيئة الموجودة في ذلك الوقت.
أما الجزء المعماري الخامس فهو منطقة الحمامات، وتُبين الآثار الباقية منها تقسيمات الغرف الخاصة بالحمام، مثل غرفة الماء الساخن والبارد وغرف الانتظار، كما يظهر أسفل تلك الغرف فتحات دخول الماء وتصريفه وبيت النار الذي يتم من خلاله تسخين المياه للاستخدام في الحمامات، إضافة إلى وجود شبكة واسعة من قنوات المياه المصنوعة من الفخار والرصاص، وشبكة أخرى من قنوات صرف صحي تؤدي إلى خارج الدير.
وأوضح أبو ريدة أنه يوجد بقايا قطع رخامية لمعصرة زيت، وآثار أخرى تدل على وجود بئر مياه خاص بالدير، كما تم العثور داخل حدود الدير وخارجه على مجموعة من المقابر الفردية البيزنطية، معظمها وجدت داخل الفناء المكشوف، كذلك عُثر على مجموعة كبيرة من لُقى أثرية متنوعة وهي عبارة عن قطع كبيرة لجرار فخارية مختلفة الطُرز، وأجزاء لأطباق فخارية محلية الصنع ومستوردة، وكمية غير قليلة من المصابيح الفخارية (أسرجة الإضاءة)، وعدد من القطع النقدية البرونزية تعود معظمها للأباطرة الرومانيين (أنستاسيوس، وجستنيان، وجستين، وطيباريوس، وهرقل) إضافة إلى بعض القطع النقدية الإسلامية التي تعود للقرنين الأول، إحداها فلس يعود للخليفة الأموي (عمر بن عبد العزيز).
وقال المسؤول الفلسطيني: "تغطي البقايا الأثرية لدير القديس هيلاريون، والتي تم اكتشافها في العام 1997م، من قبل وزارة السياحة والآثار ما يقرب من (14500) متر مربع".
واستعرض المشاريع التي تم تنفيذها لحماية وصيانة هذا الموقع، موضحا أنه في العام 2010م، تم تنفيذ أول مشروع حماية وصيانة وترميم للموقع، وذلك بتمويل من الحكومة الفرنسية ومنظمة اليونسكو للمحافظة على الموقع، مشيرا إلى أن الدعم الذي قدمه القنصل الفرنسي العام في القدس واليونسكو خلال الفترة (2010م- 2014م) ساهم بحماية آثار الدير.
وقال: "منذ العام 2017م، تم إطلاق برنامج لترميم وإعطاء القيمة الأثرية للموقع والتدريب على المهن المتعلقة بالتراث، بإدارة منظمة الإغاثة الأولية الدولية، وتحت الإشراف العلمي للإدارة العامة للآثار، والمدرسة الفرنسية الإنجيلية والأثرية في القدس، بدعم من المجلس الثقافي البريطاني وبالشراكة مع وزارت الثقافة، والإعلام، والرياضة".
وأوضح أن وزارة السياحة والآثار حصلت في العام 2017م، على تمويل بقيمة (1.5) مليون دولار لحماية وصيانة وترميم الموقع، وذلك بتمويل من المركز الثقافي البريطاني، حيث تم استثمار المبلغ في إعادة تأهيل الممرات المؤدية للآثار، وتأهيل وتطوير سرداب وديماس الموقع، وتأهيل جميع جدران الدير، وإنشاء مبنى حماية أعلى الحمامات الرومانية، واستعادة بقايا الحمام وتطوير الممرات المؤدية إليه، وإنشاء نظام تصريف للمياه للتخلص من مياه الأمطار وإنشاء سور لحماية الموقع، ومبنى إداري.
وحصلت الوزارة في آذار/ مارس 2020م، على تمويل إضافي، لاستكمال أعمال الترميم والصيانة في المواقع بالشراكة مع الإغاثة الأولية الدولية، والمدرسة الفرنسية والآثار في القدس، وذلك بقيمة (8770.000)، وذلك لتأهيل الموقع لاستقبال الزوار أو على وجه التحديد الحجاج المسيحيين من الداخل والخارج، بحسب أبو ريدة.
وأوضح أنه في تموز/ يونيو 2020م، حصلت الوزارة بالشراكة مع الإغاثة الأولية الدولية والمدرسة الفرنسية والآثار في القدس على مبلغ (8450.000) لاستكمال أعمال الترميم والصيانة في الموقع، وخصوصا تدعيم كل الأرضيات التابعة للجزء الكنيسة (المعمودية، الكنيسة الصغيرة، الساحة، ومنطقة الكنائس).
وقال المسؤول الفلسطيني: "إن وزارة السياحة والآثار الفلسطينية تسعى من خلال أعمال الترميم والصيانة المستمرة لموقع دير القديس هيلاريون، إلى إدراجه على قائمة التراث العالمي، وجعله مزارا للسائحين المحليين والأجانب، وعلى وجه الخصوص الحجاج المسيحيين منهم".
ومن جهتها أكدت رفيف العمصي، منسقة الدعم والمناصرة في الإغاثة الأولية الدولية وهي منظمة فرنسية غير ربحية تشرف على ترميم الموقع بدعم من المجلس الثقافي البريطاني؛ على أن مهمتهم تكمن في الترويج والمناصرة ورفع الوعي بأهمية الموروث الثقافي الفلسطيني، من خلال تنظيم رحالات للدير وعمل ورش عمل للدير.
وأوضحت العمصي في حديثها لـ "عربي21" أن منظمتها شرعت في عام نهاية 2017م في اتباع توجه مختلف لتوفير الحماية الإنسان الفلسطيني من خلال حماية ومناصرة الإرث الثقافي والتاريخي.
وقالت: "إن حماية الإرث الثقافي حق أساس من حقوق الإنسان المتفق عليها عالميا".
وأشارت إلى أنه تم تطوير برنامج "انتقال 2030" وهو برنامج لتحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية من خلال حماية الموروث الثقافي الفلسطيني، وذلك من اجل العمل على 3 مستويات أولها على المكونات الرئيسية لحماية الموروث الثقافي الفلسطيني من خلال الحماية الطارئة وترميم موقعين من أهم المواقع الأثرية في قطاع غزة وهما: تل أم عامر (ديرالقديس هيلاريون)، وموقع الكنيسة البيزنطية في جباليا شمال قطاع غزة.
وأكد على أن المستوى الثاني الذي يعملون عليه هو التدريب وبناء القدرات وذلك من خلال تدريب النمذجة ثلاثية الأبعاد للمواقع الأثرية والمسح التصويري لخريجي الهندسة المعمارية، يشمل المكون، التدريب العملي في المواقع الأثرية وبناء قدرات العمال التقنيين وخريجي الهندسة المعمارية والتاريخ والآثار، وكذلك التدريب على الإرشاد السياحي وتدريب موظفي وزارة السياحة والآثار الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة. وهو المستوى الثالث الذي يعلمون عليه.
وأشارت العمصي إلى وجود الكثير من التحديات في ترميم الموقع لصعوبة إدخال المواد إلى غزة، مؤكدة على أن جائحة كرونا أثرت بشكل كبير على عملهم.
وشددت على أن أهم شيء أنشطة المناصرة والتوعية التي يعملون عليها من خلال تنظيم الرحلات لهذا الموقع وورش توعية للمدارس والطلاب.
وأشارت إلى أن منظمتها حرصت على دمج مجتمعي في المواقع الأثرية من خلال تشغيل عدد من أصحاب الاحتياجات الخاصة.
وشددت أميرة حمدان، الكاتبة والمهتمة بالفنون المعاصرة، ومنسقة مبادرة "بيتكم عامر " التي تعنى بالمواقع الأثرية والتاريخية؛ على أن دير القديس هيلاريون موقع بالغ الأهمية على المستوى الديني والتاريخي.
وقالت حمدان لـ "عربي21": "ارتبط هذا الموقع بقصة القديس هيلاريون الذي حاول أن يهرب من الاضطهاد وعاش في هذا الدير وجمع حوله طلاب العلم والدين، وحتى بعد أن توفي وقام تلاميذه بإحضار جثته ودفنها في ساحة الدير"، مؤكدة أن "كل تلك التفاصيل وأكثر ظلت محفورة في أرض هذا الموقع لتخبرنا عن العراقة والأصالة".
وأعربت عن أملها في أن تستطيع الجهات الرسمية إنجاز تسجيل هذا الموقع على قائمة التراث العالمي.
واعتبرت حمدان تسجيل موقع دير القديس هيلاريون في قائمة التراث العالمية سيكون بمثابة بداية طريق لاستعادة الحقوق التاريخية لهذه المواقع وجلب الدعم لها ووضعها مجددا على طاولة الاهتمام.
وقالت: "نعيش في غزة ظروفا صعبة من الناحية الأمنية، فالحروب المتتالية جعلت من هذه المنطقة منطقة صراع دائم ما أثر على قضايا الآثار، ونتمنى أن يلتفت كل منا إلى دوره في الاهتمام بهذه الأماكن سواء مؤسسات رسمية وغير رسمية وحتى المجموعات الشبابية الحرة، كي نستطيع أن نسلط الضوء على هذا التاريخ العريق وما تركه من آثار وشواهد واضحة في قطاع غزة".
وأضافت: "الاهتمام بهذه الأماكن يفتح شبابيك الإلهام على مستقبل جديد يبنى على الوعي بتاريخ المنطقة وآثارها، كما أنه يضع ملف القضية الفلسطينية من جديد موضع الأولوية في طريق استعادة الحقوق وترتيب البيت الفلسطيني".
يوم الأسير الفلسطيني.. محطة لتسليط الضوء على قضية المعتقلين
شركس فلسطين.. عانوا التهجير وحافظوا على تراثهم من الاندثار
"قصر الباشا".. آخر القصور المتبقية من آثار غزة القديمة