ما إن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها حتى انهارت دول كبرى وتشكلت قوى جديدة بدلا منها؛ هيمنت على أغلب أجزاء المعمورة عسكريا وأمنيا وسياسيا وثقافيا وأيضا تجاريا. وأبرز تلك الدول التي انهارت هي
الدولة العثمانية التي ظلت لردح طويل من الزمن حامية للمسلمين وراعية لهم، وبعد هزيمتها آلت أملاكها لقوى الاستعمار الأوروبي كبريطانيا وفرنسا اللتين قسمتا وفقا لاتفاقية سايكس بيكو؛ البلاد العربية التي كانت جزءا من الدولة العثمانية ووزعتها بينهما.
أما الأراضي الممتدة من الأناضول شرقا إلى إسطنبول غربا التي تشكلت باسم الجمهورية التركية فلم تتعرض لاحتلال مباشر، لكن الغرب وضعها تحت قيادته وسيطر عليها بشكل غير مباشر من خلال إبرام اتفاقيات مع حكامها الجدد الذين كانوا معتنقين للأفكار والفلسفات الغربية، لدرجة أنهم قطعوا الصلة بالماضي تماما، وفرضوا على الناس معتقدات مستوردة، ومارسوا جميع أنواع الانتهاكات بحقهم، ولم يهتموا بالنهضة والعمران، وصادروا قرارهم السياسي لصالح الدول الغربية.
وبفضل النظام العلماني تحولت
تركيا من دولة محورية ذات تأثير في مسرح الأحداث عالميا إلى دولة هامشية وتابعة. وظل الحال على ما هو عليه حتى اعتلاء حزب العدالة والتنمية للحكم الذي يعتبر نفسه امتدادا لحكم السلطان عبد الحميد الثاني، فاستعادت تركيا جزءا من مكانتها السابقة بتقدمها الاقتصادي ونمو قوتها السياسية والعسكرية طيبة الـ18 عاما الماضية، وبدأ مؤخرا بمراجعة قرارات وتشريعات الحقبة السابقة بما فيها الاتفاقيات المبرمة مع الدول الغربية، ومنها اتفاقية لوزان التي حددت حدود الدولة الوليدة. وبموجبها تنازل أتاتورك عن جميع أملاك الدولة العثمانية في أوروبا وآسيا وأفريقيا، وأصبحت الجزر القريبة جدا من البر التركي تابعة لليونان التي تبعد عنها مئات الكيلومترات، ومنها اتفاقية "مونترو" التي وقعت عام 1936م.
الطريق إلى إلغاء المعاهدات
لما قررت تركيا البحث عن الغاز
شرق المتوسط بعد صناعتها لسفن التنقيب الخاصة بها استنفرت أوروبا وتداعت لعرقلتها، بحجة أنها تنقب في مياه ليست ملكا لها، مما دفع
أردوغان للتعهد في تصريحات له في أيلول/ سبتمبر الماضي بـ"تمزيق الخرائط المفروضة على بلاده"، في إشارة منه لمعاهدة لوزان.
واتخذت الموقف ذاته عندما بدأ الحديث عن إنشاء قناة مائية جديدة في إسطنبول لربط البحر الأسود بالبحر الأبيض المتوسط، بالتوازي مع مضيقي البوسفور والدردنيل، ليس على لسان مسئوليها وإنما على لسان أتباعها في الداخل، آخرها في 4 نيسان/ أبريل، حيث أصدر عشرات الضباط المتقاعدين بداية الأسبوع الماضي بيانا حذروا فيه من البدء بشق القناة، وأفادوا بالقول: "من رأينا أن هناك حاجة لتجنب أي تصريحات أو أفعال قد تتسبب في إثارة النقاش حول الاتفاقية المهمة لبقاء تركيا"، ويقصدون معاهدة "مونترو"، وتبعا لها تضمن تركيا حرية عبور السفن المدنية في السلم والحرب عبر مضايقها، كما تنظم عبور السفن البحرية التابعة لدول غير مطلة على البحر الأسود، وتحدد فترة بقائها فيه.
وكان أردوغان قد أعلن عن مشروع حفر القناة عام 2011، وهي واحدة من أكبر المشاريع في البلاد التي ستجني البلاد بعدها المليارات سنويا، وأُعلن الشهر الماضي أن أعمال بنائها ستبدأ قريبا.
وتتوجس أطراف خارجية أن القناة الجديدة لن تخضع للاتفاقية المذكورة، وإن حدث ذلك فإن تركيا لن تكون ملتزمة بتوفير الحماية المجانية والمرور المخفض للسفن تبعا للاتفاقية المذكورة. ويعي الغرب وروسيا أن ذلك يعني إعادة دورة التاريخ مجددا لصالح الأتراك، مما سيفقدهم واحدة من أهم الأوراق الرابحة التي انتزعوها من حروبهم مع الدولة العثمانية، وهي الهيمنة والسيطرة على المضايق البحرية من باب المندب إلى السويس إلى البوسفور، وبالتالي تحكمهم في سير التجارة العالمية، وكذلك الإمدادات العسكرية.
وكل هذا اللغط والتجييش العالمي على أحداث شرق المتوسط وقناة إسطنبول الجديدة إنما مرده إلى إدراك القوى الاستعمارية أن هذه الخطوات والمشاريع التركية من شأنها إضعاف مكانتهم على مسرح الأحداث العالمية، لذا يعملون ما بوسعهم لعرقلة تلك الجهود بمسميات مختلف، وباستخدام جميع الوسائل المتاحة.