هذه الأرقام ليست للترف، ولا لإضافة
معلومات بشأن الأحوال التي وصلت إليها هذه الدول التي افتخر رموز محافظي إيران
بالسيطرة عليها (لم يعودوا يتحدثون عن ذلك مؤخرا)، بل لأجل قراءة مجمل النتائج
التي وصل إليها مشروع التمدد المذهبي الإيراني. ولنا أن نضيف بجانب تلك الدول؛
أحوال أخرى عبثت بها أنظمة "الثورة المضادة"، ولذلك سياق آخر؛ تطرقنا له
مرارا من قبل، وقد نعود إليه.
في لبنان تجاوز سعر الدولار أمام
الليرة حاجز الـ10 آلاف، وفي سوريا، تجاوز الـ4 آلاف، وفي العراق تم تخفيض العملة
بنسبة 20%، وفي اليمن وصل الدولار في مناطق الحوثيين إلى 850 ريالا. ولا تسأل عن
التدهور الرهيب في سعر العملة الإيرانية، ولا عن الأوضاع الاقتصادية المتردية في
البلد بشكل عام.
وفيما ارتفع سقف التوقعات باستعادة
اتفاق النووي، ومن ثم رفع العقوبات، مع فوز بايدن ورحيل ترامب، فقد جاءت النتائج
على غير ما اشتهى القادة الإيرانيون، أقله إلى الآن، فبدأت الرسائل الإيرانية
للضغط عليه، أحيانا بضربات استعراضية من خلال مليشيات تتبع طهران في العراق، وأخرى
من خلال تصعيد الحوثي لضرباته في السعودية، وثالثة باستهداف مدروس (لا يوقع ضحايا)
لسفينة يملكها تاجر إسرائيلي في خليج عُمان.
في سوريا، يكفي أن الغالبية ما زالت ترى إيران أهم الأعداء، بل يصل التطرف بالبعض حد تفضيل الكيان الصهيوني عليه
أما في سوريا، فيكفي أن الغالبية ما زالت ترى إيران أهم الأعداء، بل يصل التطرف
بالبعض حد تفضيل الكيان الصهيوني عليه. ولك أن تتذكّر ما فعلته مجزرة سوريا على
صعيد وضع إيران في حالة تناقض سافرة مع غالبية الأمة، وليس غالبية السوريين وحسب.
أما الأهم، فيتمثل في النزيف المالي الرهيب، والذي لا يفضي إلى سيطرة حقيقية، بل
ينتهي بتناقض سافر مع الروس الذي يريدون للنظام مسارا آخر؛ أقرب إلى الهواجس
الصهيونية، الأمر الذي يميل إليه بشار، لولا الخوف من القوة الإيرانية على الأرض.
هنا، سيتجاهل البعض وجود شعوب رافضة
لهيمنة إيران، في تلك الدول، وسيتجاهلون أن هنا في هذه المنطقة غالبية ترفض تمددها
أيضا، وليست في وارد الاستسلام أمام تغوّلها، حتى لو تقاعست الأنظمة، وفي مقدمتها
"الشقيقة الكبرى" التي تحكمها السياسة الاقتصادية، وتدفعها لتجاهل
العدوان الإيراني.. سيتجاهلون ذلك كله، ويوجّهون لك السؤال التالي: "أليست
العقوبات الأمريكية في طبعتها السابقة والحالية هي التي أدت إلى هذا المستوى من
التردي في الأوضاع الداخلية الإيرانية، وتبعا لها الدول التابعة؟".
هنا، سنتجاوز ما ذكرنا أعلاه حول ما
يتجاهله أتباع إيران، ونجيب بـ"نعم.. ولكن". فلا شك ابتداء أن أمريكا
مجرمة، وأن العقوبات هي لمصلحة الكيان الصهيوني، مع العلم أن "الفيتو"
الأمريكي الصهيوني على التسلح النوعي (النووي أو الصاروخي الباليستي)، ليس حكرا
على إيران (ما فعلوه بنظام صدام – عدو إيران- أكبر دليل)، بل يشمل حتى أكثر الدول
تطبيعا ومهادنة مع العدو الصهيوني.
لا قيمة لحكاية الديمقراطية والانتخابات في بلد لا يخضع من يتحكّم بالمال والسياسة الخارجية فيه لمنطق صناديق الاقتراع
بعد ذلك تأتي العقوبات وما ترتب عليها
من معاناة، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا أيضا هو: هل كانت العقوبات مفاجئة؟ أليس
من الطبيعي أن تتوقعها القيادة؟ أليس فشلها في توقعها بوجود تجارب لآخرين، كما في
حالة العراق، هو فشل ذريع ينبغي أن تُحاسَب عليه؟!
أليس من الكارثي أن تتم صناعة مشروع
نووي تُصرف عليه عشرات المليارات من الدولارات، وأضعافها نتاج العقوبات، ثم يجري
التخلي عنه لأجل رفع العقوبات؟!
إن ما جرى ويجري، أكان بجلب العقوبات،
أم بمشروع التمدد المذهبي وما انطوى عليه من نزيف، وفي ظل فشل واضح له، إنما يعبّر
عن فشل كارثي لقيادة المحافظين، وقيادة خامنئي على وجه الخصوص، إذ لا قيمة لحكاية
الديمقراطية والانتخابات في بلد لا يخضع من يتحكّم بالمال والسياسة الخارجية فيه
لمنطق صناديق الاقتراع، بل يتم الزعم بأنه يتلقى الأوامر من الله عز وجل؛ عبر
الإمام المهدي!!
لقد استنزفت القيادة الإيرانية شعبها
في هذا المسلسل من الفشل، في ذات الوقت الذي ارتكبت فيه أبشع الجرائم بحق شعوب
المنطقة، ليس في سوريا واليمن والعراق وحسب، بل في عموم المنطقة؛ بهذا الحشد
المذهبي الرهيب، وبضرب ربيع الشعوب العربية، إذ لولا ما جرى في سوريا، لما نجحت
الثورة المضادة العربية في ضرب مسيرة الربيع على النحو الذي تابعناه.
لقد كان بوسع إيران أن تنحاز للشعوب
(وهي الأكثر عداء للمشروع الصهيوني). وما كان لنظام جديد في سوريا يعبّر عن ضمير
الشعب أن يعاديها لو لم تقف من ثورته ذلك الموقف القاتل، كما كان بوسعها القبول
بنظام عادل في العراق للشيعة فيه الدور الأكبر؛ بدل تبني النهج الطائفي المدمّر،
فضلا عن أن تدفع أقلية إلى الانقلاب على ثورة الشعب في اليمن، وتتسبب في هذا
النزيف الكارثي.
نقول ذلك، وموقفنا واضح من الطرف
العربي الذي يمثل الثورة المضادة، والذي ساهم بجرائم لا تحصى بحق الأمة، وهو اليوم
يتقرّب أو يتحالف مع الكيان الصهيوني، بدعوى مواجهة إيران، فيما أخذ يعادي تركيا
أكثر من إيران، ولذات السبب ممثلا في رفضه لأشواق الشعوب في الحرية والتحرر.
كل ذلك يعيدنا إلى السؤال الكبير الذي
طالما رددناه ممثلا في سؤال متى ستعود قيادة إيران الحقيقية إلى رشدها، وتوقف هذا
النزيف، وهذا العداء مع المحيط العربي والإسلامي، بقبول تفاهمات مع العرب وتركيا.
تفاهمات يمكن أن تبدأ من سوريا بقبول تغيير يرضي الشعب؛ وإن أصبح بوتين هو الوصيُّ
العملي، وبقبول نظام عادل في العراق، وبوقف عدوان الحوثي وقبوله بحل مقبول بدل
استمرار هذا النزيف المدمّر، إلى جانب تصحيح الوضع القائم في لبنان بوقف تهميش
السنّة، وترك مشروع "تحالف الأقليات" الذي روّج له ميشال عون؟
حتى يحدث ذلك، سيبقى نزيف الشعب
الإيراني، ونزيف شعوب المنطقة، وستواصل أنظمة "الثورة المضادة" مسارها
البائس، فيما لا يربح من ذلك كله سوى الكيان الصهيوني الذي سارت إيران في كل تلك
المغامرات بدعوى مقاومته، ومعه القوى الإمبريالية المعنية ببقاء هذه التناقضات في
منطقتنا.