إنّ العلاقات الإثيوبية- الإريترية هي علاقة التأثر والتأثير المتبادل سلبا وإيجابا عبر
التاريخ وذلك للتداخل السكاني والقرب الجغرافي، إلاّ أنّ التأثير السياسي المباشر لإثيوبيا في إريتريا بدأ واضحا للأعيان بعد هزيمة إيطاليا في الحرب العالمية الثانية وأيلولة مستعمراتها الثلاث (إريتريا، الصومال، ليبيا) إلى الحلفاء، وكانوا الحلفاء أشدّ اختلافا حول مصير إريتريا بخلاف مثيلاتها الأخرى. فعلى سبيل المثال، بريطانيا كانت ترى تجزئة إريتريا بين السودان وإثيوبيا بما يلائم المصالح الاستراتيجية للقوى الغربية في المنطقة دون الالتفاف لمطالب السكان في تقرير مصيرهم.
وبسبب اختلاف الحلفاء تعذر الوصول إلى اتفاق حول مصير إريتريا، وعلى إثره تقدمت الولايات المتحدة بمشروع ربط إريتريا بإثيوبيا قسرا بنظام فيدرالي كان يرجح مصلحة إثيوبيا أكثر من إريتريا، واستطاعت أمريكا تمرير هذا المشروع عبر الأمم المتحدة. وتزامن ذلك مع تحرك إثيوبيا في داخل إريتريا لتفتيتها من الداخل وفق خطوط دينية وثقافية. وخارجيا، سعت إثيوبيا لإقناع القوى الدولية والإقليمية بادعاءاتها في إريتريا، وقد حققت في المسارين بعض الاختراقات.
أمّا الإريتريون فقد قبلوا بالنظام الفيدرالي كأمر واقع ومفروض عليهم، لكن استطاعوا توسيع صلاحيات واختصاصات الحكومة الإريترية التي لم تتمتع بها الأقاليم الإثيوبية الأخرى. أمّا الإمبراطور هيلي سلاسي فقبل بذلك تكتيكيا حتى يسحب القضية الإريترية من أروقة المنظمات الدولية وجعلها قضية إثيوبية داخلية، ثم انقض على النظام الفيدرالي وضم إريتريا إلى إمبراطوريته كاملة. وهذا ما فعله الإمبراطور هيلي سلاسي بالضبط عام 1962م وبمباركة دولية، وكأسلافه تعامل مع الإريترييين بالقسوة والاضطهاد، وخاصة المسلمين منهم. إلاّ أنّ الشعب الإريتري قاوم مشروعه بالشراسة والثورة الإريترية قويت شوكتها.
وعلى غرار الثورة الإريترية تزايد وعي القوميات الإثيوبية الأخرى للمطالبة بحقوقها، فقامت ثورة التيغراي والأرومو والأوغادين وغيرهم. وهذه الثورات وخاصة الثورة الإريترية تمكّنت ّمن استقطاب الدعم والتأييد لكفاحها، واستطاعت أن تدخل النظام الإثيوبية في حرب طويلة استنزفت مقومات إمبراطوريته الاقتصادية والسياسية والعسكرية.
وعندما أصبح الأمر لا يطاق في إثيوبيا أعلنت المؤسسة العسكرية بقياد منجستو هيلي ماريام في أيار/ مايو 1974 م الانقلاب على الإمبراطور هيلي سلاسي، إلاّ أن القيادة الجديدة نفسها لم تغيّر نهجها للتعامل مع القضية الإريترية، بل سعت في تعزيز مركزها بقوة السلاح والقمع. في المقابل نمت الثورة الإريترية وحلفاؤها نموا مطردا، وأدخلت نظام منجستو في وحل صراعات مستمرة حتى تآكلت أطرافه وتمّ إسقاطه في عام 1991م. ووصل إلى سدة الحكم في إثيوبيا حلفاء الثورة الإريترية بقيادة جبهة الشعبية لتحرير التيغراي وحلفائها، واستقلت إريتريا بقيادة الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا، وبعد سنوات قليلة انتكست العلاقة بين الحلفاء، ودخلت الدولتان في حرب طاحنة عامين كاملين وتوقفت بواسطة دولية.
ويبدو أنه حصل ذلك قبل أن تحقق إثيوبيا بقيادة التيغراي أهدافها المرئية وغير المرئية في إريتريا، وهذا ما لوحظ لاحقا من سلوكها في مماطلتها تنفيذ حكم المحكمة الدولية في مثلث بادمي الذي كان لصالح إريتريا، وشروعها في الإضرار بالسيادة الإريترية ومن يمثلها حكومة ومعارضة على السواء، ففرضت الحصار على الحكومة الإريترية وفتّتت المعارضة الإريترية، وخلقت أجساما تهدد الكيان الإريتري وعملت في الخطوط الطائفية والإثنية لتعزيز الشرخ داخل المجتمع الإريتري ليسهل لها الانقضاض على السيادة الإريترية.
وفي المقابل، وقف لها الإريتريون بالمرصاد، واستضافت الحكومة الإريترية المعارضة الإثيوبية بمختلف أطيافها، ودعمت الصوماليين عند دخول الجيش الإثيوبي إلى الصومال. ودام الصراع بين الحكومتين لعقدين من الزمن، إلى أن فقد التيغراي السلطة وتحولت منهم إلى آبي أحمد الذي دخل هو بدوره مع التيغراي في صراع انتهى بمواجهات عسكرية عنيفة في إقليم التيغراي.
وإنّ تسارع الأحداث في إقليم التيغراي لا شك له انعكاسات سالبة في إريتريا، مما يحتم على الإريتريين متابعتها وتحليلها بالدقة ومن ثم اتخاذ المواقف طبقا لمصالح إريتريا العليا. ومما يصعب على الإريتريين أنّ طرفي الصراع في إثيوبيا يشكلان تهديدا للكيان الإريترية بدرجاة متفاوتة، وذلك استنادا على الإرث التاريخي القديم وأحداث الماضي القريب، الأمر الذي يجعل على الإريتريين العمل بنظرية أقل الضررين من الشرين المتصارعين في إثيوبيا.
وفي مثل هذه الحالات قد لا يتفق الجميع في ترتيب الأخطار القادمة من إثيوبيا والتعامل معها بسبب تداخل مصالح جزئية أخرى في المسألة، ضمن هذا السياق تمكن قراءة انقسام النخب الإريترية في الأحداث الجارية في جارتهم إثيوبيا، وإنّ لم يكن هذا التباين في البعض منهم واضحا لكنه مفهوم ضمنيا.
على العموم، انقسمت المواقف الإريترية من الأحداث الجارية في إثيوبيا إلى ثلاثة اتجاهات: اتجاه يدعم ضرب جبهة التيغراي باعتبارها عدوا لدودا ومهددا للسيادة الإريترية، وهذا الاتجاه له مبرراته وشواهده من تصرفات قيادة التيغراي خلال عشرين عاما الماضية. وتتبنى هذا الاتجاه الحكومة الإريترية وقطاع كبير من الشعب وجزء من المعارضة.
الاتجاه الثاني يدعم جبهة التيغراي، وهذه الاتجاه يستبطن علاقاته الاجتماعية والثقافية والدينية بإقليم التيغراي، إضافة إلى أفراد كانت لهم مصالح شخصية مع التيغراي.
والاتجاه الثالث ينتظر ما ستسفر عنه الأحداث وبعدها يقرّر أين يتجه، ولكل له قراءته للأحداث منطلقا من المصالح الكلية أو الجزئية أو الجمع بينهما. وعلى الرغم من تباينات الإريتريين للتعامل مع الأحداث الدائرة في إثيوبيا، فإنهم يتفقون إنّ عدم الاستقرار في إقليم التيغراي وفي إثيوبيا ككل ستكون له انعكاسات سالبة في إريتريا، بسبب التداخل الاجتماعي والثقافي والجغرافي. وحتى في حالة انتصار أحدهما على الآخر، سواء انتصر آبي أحمد وقواه الصلبة من الأمهرية أو التيغراي، فإنّ مخاوف الإريترييين ستبقى. فالطرفان لا يختلفان في مد نفوذ إثيوبيا إلى إريتريا بشتى الطرق اتفاقا أو فرضا بالقوة.
وعلى الرغم من ذلك، فإن التيغراي يشكلون خطرا أكبر على الوحدة الوطنية الإريترية، بقدرتهم على التغلغل في إريتريا بسبب القرب الجغرافي والتداخل السكاني لغة وثقافة، واعتمادهم على البعد الطائف في التعامل مع إريتريا وحاجتهم للموارد الإريترية، بينما المكوّن الأمهري لا يملك هذه الامتدادات الاجتماعية والثقافية واللغوية ولا حدود مباشرة مع إريتريا، الأمر الذي يسهل مواجهته في حالة الحرب كالسابق أو الوصول معه في الاتفاق في حالة السلم.
وبالنسبة للإريتريين وبغض النظر عن تبايناتهم للتعامل مع التطوّرات الجارية، فهم في حاجة باستمرار لمعادلتين للتعامل مع إثيوبيا، وهما عدم الخلط بين متطلبات السياسة الداخلية مثل تغيير النظام وإرساء نظام حكم ديمقراطي وإدارة الإختلاف في التوجهات والرؤى، وغيرها مع تهديدات الخارجية للسيادة الإريترية. وثانيا تطوير معادلة للتعامل مع المكوّنات الإثيوبية المختلفة على المستويين الاستراتيجي والتكتيكي.
Salal3312@gmail.com