لم يخرج أنتوني بلينكن (مرشح بايدن لحقيبة الخارجية) عن سياق التوقعات بشأن السياسة الخارجية لإدارة الرئيس الأمريكي الجديد (بايدن)، فالرجل الذي كان يتحدث أمام لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ لتأكيد تعيينه؛ لم يفاجئ الحضور، كما لم يفاجئنا، وإن فاجأ بعض من عوّلوا على تغيير جوهري في السياسة الخارجية قياسا بسلفه (ترامب).
الذي لا شك فيه أن الأولوية الاستراتيجية الأهم للسياسة الخارجية الأمريكية، والتي تتبناها الدولة العميقة، تتمثل في تحدي الصعود الصيني بدرجة أولى، والروسي بدرجة ثانية.
كان ترامب حاسما في مواجهة الصين، لكنه لم يكن كذلك في مواجهة روسيا التي كانت أكثر المستفيدين من رعونته، الأمر الذي ما زال برسم التساؤل، ولم تُحسم إجابته، فيما لم يتجاهل بلينكن روسيا، وهو الأمر المنطقي بكل تأكيد.
عن الصين قال بلينكن: "ليس هناك أي شك في أن الصين تشكل أكبر تحدِ أمام الولايات المتحدة أكثر من أي دولة أخرى".
لكن فارق التعامل بين الإدارتين سيبدو في الكلام التالي، حين قال إن جزءا من تلك القوة هو في العمل مع الحلفاء والمشاركة مع المؤسسات الدولية.
والحال أن رعونة ترامب لم تمنحه فرصة إدراك أن مواجهة تحدي الصين لا يمكن أن تتم بعضلات أمريكا وحدها، ولا بد من مشاركة الحلفاء الغربيين، بل وسواهم أيضا، فيما كان هو يتعامل معها بمنطق الغطرسة، ولا يريد شراكة مع الحلفاء، بل يتحدث معهم بروحية التاجر، وليس بروحية قائد الدولة الكبرى التي تعرف معنى السياسة والنفوذ، وكل ذلك نابع من عجزه عن إدراك تعقيد السياسة وتركيبها، وتأثيرها تبعا لذلك على الاقتصاد.
هنا لن يخرج بايدن من جلباب ترامب، كما تبين من خطاب بلينكن
وفي العموم كانت ضحالة تفكيره السياسي هي العامل الأهم فيما جرّه على نفسه من ويلات، وكان في مقدمة ذلك صداماته مع الدولة العميقة، وبتعبير أدق، عجزه عن فهم طبيعة الدولة التي يحكمها، فضلا عن تعقيد وتركيب المشهد الدولي، وتركيزه المجنون على خدمة البرنامج الصهيوني؛ إن كان مجاملة للوبي الصهيوني، أم لأجل إرضاء التيار الإنجيلي الذي يمثل نواة تأييده الأهم شعبيا، بجانب اليمين الأبيض المتطرف، وإن توحّدا معا من الناحية العملية.
ماذا عن الملف الأهم في منطقتنا، ممثلا في الملف الفلسطيني؟
هنا لن يخرج بايدن من جلباب ترامب، كما تبين من خطاب بلينكن، فحين سئل عما إذا كان يعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل، أجاب دون تردد (نعم)، وأوضح أنه لن يعيد السفارة إلى أبيب، بل ستبقى في القدس.
ما الجديد إذن؟
الجديد الذي سيحتفل به عجزة السلطة في رام الله هو قول بلينكن إن بايدن يرى أن التسوية الوحيدة القابلة للاستمرار في "النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي" هي "حل الدولتين"، مع أنه شكّك بإمكانية إنجاز هذا الحل على المدى القصير.
ماذا يعني ذلك؟
إنه يعني بكل بساطة العودة إلى سياسة التصفية الناعمة للقضية، والتي أراد ترامب تجاوزها برعونة عجيبة، فيما سيمنح قادة السلطة فرصة بيع الأوهام من جديد، وهي فرصة حرمهم منها ترامب، واضطرهم إلى تبني سياسات جديدة، وإن بقيت في سياق الخطابة.
هكذا يمنح بايدن لعجزة رام الله فرصة بيع الوهْمِ من جديد، والاستمتاع بمزايا السلطة، فيما سيتواصل الاستيطان والتهويد وتثبيت الحقائق على الأرض
كل أسلاف بايدن، ما عدا ترامب كانوا يتحدثون عن "حل الدولتين"، وحتى نتنياهو كان يتحدث عنه قبل أن يغيّر قليلا في الصيغة، ولكن ما هي النتيجة؟ هل أوقف ذلك مسيرة الاستيطان والتهويد؟ كلا بكل تأكيد، وفي كامب ديفيد، صيف العام 2000، حين كان باراك (اليساري) في رأس حكومة الكيان، وكلينتون في البيت الأبيض، كانت الدولة التي عُرضت على الفلسطينيين لا تختلف كثيرا عن تلك التي عرضها أولمرت، ولاحقا نتنياهو وترامب وكوشنر. إنها عبارة عن كانتونات معزولة عن بعضها البعض على أقل من نصف الضفة الغربية، كما وصف محمود عباس نفسه عرض كامب ديفيد في حينه، والذي اعتبره "فخا نجونا منه".
هكذا يمنح بايدن لعجزة رام الله فرصة بيع الوهْمِ من جديد، والاستمتاع بمزايا السلطة، فيما سيتواصل الاستيطان والتهويد وتثبيت الحقائق على الأرض، وسيتجاهل العجزة إياهم قضية الاعتراف بالقدس عاصمة للكيان، وسيعتبرونها من لغو الكلام. أما الجانب الأخطر فسيتمثل في مضي بايدن في برنامج التطبيع، وتشجيعه، وهنا قال بلينكن صراحة: "ينبغي أن أصفق لما حققته إدارة ترامب بشأن اتفاقات إبراهيم، والتي جعلت إسرائيل أكثر أمنا، والمنطقة كذلك".
وحين تتواصل لعبة التطبيع، ومن ثم تكريس السلطة الخادمة للاحتلال، فإن المؤقت سيتحوّل إلى دائم بمرور الوقت، وهذه هي التصفية الناعمة التي نتحدث عنها، وإن كنا نعوّل على غطرسة الغزاة أكثر من وطنية قيادة الجبن والعجز في رام الله، وذلك باتخاذهم خطوات رعناء من نوع ما، بخاصة في سياق استهداف المسجد الأقصى، يمكن أن تفجّر الشارع الفلسطيني رغم أنف عباس ومن حوله.
نأتي هنا إلى الملف الأهم الثاني بالنسبة للمنطقة، ممثلا في العلاقة مع إيران وقضية الاتفاق النووي.
قلنا في مقال هنا قبل أسابيع إن الأمل بعودة بايدن إلى الاتفاق النووي مع إيران من دون شروط جديدة ليس واردا، لا سيما أن علاقة الرجل بالكيان الصهيوني هي أكثر من حميمة؛ وإن لم يكن على ذلك النحو الاستعراضي الذي دأب عليه ترامب. كما أن ربط المسألة الإيرانية بالصراع مع الصين وروسيا سيعزز ذلك على نحو ما؛ وإن كانت المصلحة الصهيونية هي الأهم.
بايدن لن يفتعل حربا مع إيران، ما لم تستفزّه بعمل كبير، لكنه سيواصل الضغط عبر العقوبات والحصار السياسي لتحقيق المطلوب.
بلينكن قال إن حكومة رئيسه مستعدة للعودة إلى الاتفاق النووي، بشرط أن تفي طهران بالتزاماتها، ويقصد هنا ما يتعلق بالبرنامج النووي. ولما كانت إيران مستعدة لذلك، فقد أضاف متحدثا عن السعي "إلى اتفاق أقوى ويستمر وقتا أطول"، ولكن ما هي طبيعة هذا الاتفاق؟ أجاب بأنه يُفترض أن يشمل البرنامج الإيراني للصواريخ البالستية، بجانب "أنشطتها المزعزعة" للاستقرار في المنطقة.
والحال أن إيران لو منحت ترامب هذين الشرطين، لما تردد لحظة في توقيع اتفاق جديد معها، ومن ثم رفع العقوبات.
هل يعني ذلك استحالة الاتفاق؟
ليس بالضرورة، فالأزمة الرهيبة التي تعيشها إيران في مواقع النفوذ (العراق وسوريا واليمن ولبنان)، وبدرجة أهم في الداخل بسبب الأزمة التي خلّفتها العقوبات، وزادها "كورونا" بؤسا؛ قد تدفعها إلى تغيير في النهج، لا سيما أن بايدن سيطلب ذلك بمفاوضات ووساطات؛ بعضها سري، وليس بطريقة الاستعراض التي أدمن عليها ترامب، وتهين الحلفاء، فضلا عن الأعداء.
من نافلة القول بالطبع إن سياسات أمريكا لن تتغير حيال سوريا والعراق وأفغانستان، أما الأمر الذي يتردد في أوساط بعض الإسلاميين، وسواهم من المعارضة؛ أعني المتعلق باهتمام بايدن بملف حقوق الإنسان والديمقراطية في المنطقة، فهو شراء للوهم.
بايدن لن يضحي بعلاقاته بدول محورية في المنطقة من أجل حقوق الإنسان، ولم يفعل ذلك أي رئيس قبله، واستخدام الملف كان يتم في سياق الابتزاز لا أكثر. وإذا كان ذلك هو النهج التاريخي، فإنه في لحظة المواجهة مع التحدي الصيني والروسي، سيكون أكثر تأكيدا.
خيارات تركيا بخصوص منظومة "إس400"
الرعاع المصريون.. إذ يتسيّرون!